الحكاية الكاملة لرواية ماركيز الأخيرة
العدد 284 | 18-3-2024
ألكسندرا ألتر | ترجمة: زيد سلامة


“في أغسطس من كل عام” هي الرواية الأخيرة لماركيز والتي ستفتح صفحة جديدة في إرثه، ولها أن تثير الكثير من التساؤلات حول الإصدارات التي تتعارض مع وصية الكاتب بعد وفاته.

صارع غابرييل غارسيا ماركيز، قبيل وفاته، أي عندما كانت ذاكرته تتلاشى، لينهي روايةً تدور أحداثها حول الحياة الجنسية السرية لامرأة متزوجة في منتصف العمر. اشتغل على خمس نسخ على الأقل وعدّل صياغاتها لسنوات، شطب جملاً، وخربش ملاحظات في الهوامش، واستبدل صفات بصفات، وأملى الملاحظات على مساعده، ولكنه في النهاية استسلم، مطلقاً حكمه الجازم والنهائي. “لقد قالها لي بكل وضوح؛ يحب إتلاف الرواية “يقول غونزالو غارسيا بارشا، الابن الأصغر لماركيز.

ومع رحيل غارسيا ماركيز عام 2014، بقيت العديد من المسودات والملاحظات وشذرات من فصول الرواية في أرشيفه في “مركز هاري رانسوم” بجامعة تكساس في أوستن. ظلّت الحكاية حبيسةً هناك وقد امتدت لأكثر من 769 صفحة، بقيت منسية ومتروكة للزمن إلى أن قرر ابنا غارسيا ماركيز خيانة وصية والدهما.

والآن، وبعد مرور عقد على وفاته، ستُنشر روايته الأخيرة “في أغسطس من كل عام” هذا الشهر (مارس الحالي) بالتزامن مع إصدارها عالمياً فيما يقارب 30 دولة. تتمركز الرواية حول امرأة اسمها آنا ماجدالينا باخ، تقصد في أغسطس من كل عام جزيرة في الكاريبي لتزور قبر أمها، وفي رحلات حجّها القصيرة والقاتمة هذه، تلتقي في كل مرة بحبٍّ جديد، متحرّرةً من زوجها وعائلتها.

تمثّل الراوية خاتمة لم تكن منتظرة لحياة ماركيز وأعماله، القامة الأدبية الكبيرة والحائز على جائزة نوبل، وستثير هذه الرواية الأسئلة حول تعامل المؤسسات الأدبية ودور النشر مع الإصدارات بعد وفاة الكاتب والتي تتعارض مع وصيته، فالتاريخ مليءٌ بأمثلة عن أعمال معروفة لم تكن لتصل إلينا لولا مخالفة الورثة والأوصياء لرغبات الكتّاب قبل وفاتهم.

فالشاعر فيرجيل، وقبل أن يفارق الحياة، أوصى بإتلاف ملحمته الشعرية “الإنيادة” وفقاً للمرويات الكلاسيكية، وعندما كان فرانز كافكا يعيش آخر أيامه جراء إصابته بالسل، أوصى صديقه ووصيّه ماكس برود بحرق جميع أعمال، ولكن برود، لحسن حظّنا، خان وصية صديقه لينشر روائع سوريالية مثل “المحاكمة”، و”القلعة”، و”أميركا”، كما أن فلاديمير نابوكوف أمر عائلته بإتلاف روايته الأخيرة “أصل لورا”، إلا أن ابنه وبعد 30 عاماً على وفاته، نشر النص غير المكتمل الذي كتبه نابوكوف على بطاقات الملاحظات.

لم تكن نوايا الكتّاب واضحة بخصوص نصوصهم المنشورة بعد وفاتهم، ما قاد الباحثين والقرّاء إلى التساؤل عن مدى اكتمال هذه الأعمال، والمسؤولية التي أخذها المحررون على عاتقهم في تحرير وتعديل النصوص، وليُنتقد الورثة والأوصياء بين حين وآخر، على عبثهم بإرث المؤلف لأنهم نشروا أعمالاً دون المستوى أو غير مكتملة للاستفادة كاملاً من الملكية الفكرية للاسم أو ما بات ماركة أدبية.

بالنسبة لابني ماركيز، فإن السؤال عن ما ينبغي فعله برواية ماركيز “في أغسطس من كل عام” كان شديد التعقيد، وهذا عائد لتقييمات ماركيز المتضاربة، فقد عمل جاهداً على المسوّدة وأرسلها إلى وكيله الأدبي، وحين بات يعاني من فقدان ذاكرته بسبب الخرف، خلُص إلى أن العمل لا يرتقي للمستوى المطلوب. ففي عام 2012، لم يعد ماركيز قادراً على التعرّف على أقرب أصدقائه وأفراد عائلته باستثناء زوجته مرسيدس بارشا، وذلك بحسب ابني ماركيز، وكان يبذل جهداً جهيداً في محادثة عادية، ويقرأ أ رواياته من دون إدراكه بأنها من تأليفه.

حينها أفصح ماركيز لعائلته عن أنه يعيش غربة كأديب بلا ذاكرة بوصف هذه الأخيرة الرافد الأكبر لإبداعه، وقال لهم إن انعدام الذاكرة يعني “العدم”، حينها، وبهذه الذاكرة المتشظية، بدأ ماركيز يشكك بجودة روايته.

“لقد فقد غابو قدرة الحكم على روايته” قالها رودريغو غارسيا، أكبر ابني غابرييل وأضاف: “على الأرجح، لم يكن قادراً حتى على متابعة حبكة الحكاية”.

بقراءتهما لرواية “في أغسطس من كل عام” بعد سنوات من وفاته، شعر ابنا ماركيز أن حكمهما لم يكن عادلاً على آخر أعماله. “بدت أفضل بكثير مما كانت في ذاكرتنا” حسب رودريغو.

اعترف ابنا ماركيز أن الرواية قد لا تكون على مستوى روائعه، وارتابا من أن يرفض القرّاء العمل ظنّاً منهم بأنه وسيلة لا غير لكسب المال من إرث والدهما. “بالطبع كنا قلقين من أن يرانا العالم مجرد ابنين جشعين” يضيف رودريغو.

رواية “في أغسطس من كل عام” بنسختها الإنكليزية وبترجمة آن ماكلين ستصدر في 12 مارس وتتألف الرواية من 107 صفحات فقط، ما يجعلها متواضعة في حجمها قياساً بأعمال ماركيز الطويلة التي صوّرت لنا سحر الواقعية في ملاحم مثل “الحب في زمن الكوليرا”، و”مئة عام من العزلة” التي بيعت منها 50 مليون نسخة.

يؤكد ابنا غارسيا ماركيز على أن الرواية تشكّل إضافة قيّمة إلى أعماله، ويعزون ذلك إلى أنها تكشف عن جانب جديد منه، فهو وللمرة الأولى، يمنح دور البطولة في روايته إلى أنثى، ويحكي حميمية حياة امرأة في أواخر الأربعين، بدأت البحث عن حريتها وإشباع رغباتها عبر علاقات حب محرّمة.

ومع ذلك، يشكك بعض النقّاد والقرّاء في خيار أبناء ماركيز لمعرفتهم أنه نفسه اعتبر عمله الأخير غير مكتمل، ويعتبرون أن هذه الرواية قد تكون خاتمة مخيبة لأعمال ماركيز العظيمة.

بينما تتشوق الأوساط الأدبية في مسقط رأسه كولومبيا، إلى أي عمل جديد لماركيز ولو كان غير مُتقن، كولومبيا التي نرى فيها صورة وجه ماركيز على عملاتها وترقب الرواية على أشدهأشده، وفي المقابل، ثمة من يرتاب من الطريقة التي يُسوّق بها العمل.

قال الكاتب والصحفي الكولومبي خوان موسكيرا: “إنهم لا ينشرون الرواية كمسوّدة، أو كعمل غير مكتمل، بل يسوّقون لها على أنها الرواية الأخيرة لغارسيا ماركيز”، وأضاف: “أنا لا أؤمن بقدسية هذه الرواية، وأعتقد أنها، بدون زيادة أو نقصان، إضافة تجارية عظيمة من توقيع غارسيا ماركيز وعلامته التجارية”.

كما أعرب الروائي الكولومبي هيكتور أباد عن ارتيابه بداية الأمر، ولكن شكوكه تبدّدت عندما قرأ نسخة أولية من الرواية. كما أن أباد، الذي سيظهر في فعالية تحتفي بصدور الرواية في برشلونة، قال في رسالة إلكترونية: “كنت أخشى أن يكون العمل مصدراً للربح فقط، ولكنه كان نقيض ذلك، لقد رأيت في الرواية كل الخصال التي جعلت من غارسيا ماركيز الروائي العظيم الذي نعرفه”.

إن ما نعرفه يقيناً أن غارسيا ماركيز شعر في وقت ما أن الرواية تستحق النشر، ففي عام 1999، قرأ ماركيز فقرات منها خلال لقاء عام مع الروائي جوزيه ساراماغو في مدريد، كما نُشرت مقتطفات من الرواية في الصحيفة الإسبانية المعروفة: “إل باييس” وفي مجلة “ذا نيويوركر”.

أجّل ماركيز مشروع روايته بسبب انشغاله بإنهاء مذكراته ونشر رواية أخرى بعنوان “ذكريات غانياتي الحزينات” والتي لاقت أصداءً وآراء متباينة، ليعود ويعمل عليها مرة أخرى في عام 2003، وبعد عام أرسل المسوّدة إلى وكيلته الراحلة كارمن بالسيلز.

في صيف 2010، تواصلت بالسيلز مع كريستوبال بيرا، وهو محرر عمل مع غارسيا ماركيز على مذكراته، وأخبرته بأن ماركيز، الذي كان آنذاك في الثمانينات من عمره، يعمل على إنهاء رواية جديدة وطلبت من بيرا مساعدته.

كان ماركيز في غاية الحذر ويتكتم على أعماله قيد الإنجاز، ولكن بعد بضعة أشهر، سمح لبيرا بقراءة بضعة فصول من الرواية مبدياً حماسة لعمله الجديد، كما يتذكر بيرا، وبعد مرور عام تقريباً، بدأت ذاكرته بالتلاشي، وعانى ماركيز في فهم الحبكة، لكنه استمر في تدوين ملاحظاته على هوامش المسودّة.

قال بيرا: “لقد كان فعل الكتابة بمثابة علاج له، لأنه استطاع إنجاز شيء ما باستخدام القلم والورق، ولم يكن في وارد أن ينهيها”.

عندما ألحَّ بيرا على ماركيز وطلب منه أن ينشر الرواية، عارضه ماركيز بشدة قائلاً: “في هذه المرحلة من حياتي، لا أريد لأي عمل جديد أن يُنشر”.

بعد وفاته عن عمر يناهز 87 عاماً، احتفظ “مركز هاري رانسوم” في أرشيفه بنسخ مختلفة من “في أغسطس من كل عام”، وقبل عامين، قرر ابنا غارسيا ماركيز إلقاء نظرة من جديد على المسودّة.

وصفا الرواية بأنها كانت مشوشة في مواضع منها، مع بعض التكرار والتناقضات، ولم تكن مصقولة تماماً، إلا أنها كاملة، ووجدوا فيها ومضات من لغة ماركيز الغنائية، مثل المقطع الذي يصوّر آنا عند قبر والدتها قابضة على قلبها من الرهبة وهي على وشك الاعتراف بخطاياها.

وعند حسمهما قرار نشر الرواية، جابه الأخوان أحجية أو متاهة، فقد ترك ماركيز خمس إصدارات على الأقل في مراحل مختلفة من العمل، ولكنه في الوقت نفسه قدّم تلميحاً عن النسخة الأفضل.

قال غارسيا بارشا: “كان أحد المجلدات التي تركها ماركيز يحمل عبارة (جيد، الإصدار النهائي) في المقدمة”.

وأضاف شقيقه: “كان ذلك قبل خلوصه إلى أن الرواية ليست جيدة على الإطلاق”.

عندما طلب الأخوان من بيرا تحرير الرواية في العام المنصرم، باشر بالعمل بدءاً من النسخة الخامسة، المؤرخة في يوليو 2004 والتي تحمل عبارة (جيد، الإصدار النهائي)، كما اعتمد بيرا على نسخ أخرى أيضاً، إذ استعان بوثيقة رقمية جمعتها وقدّمتها مونيكا ألونسو، مساعدة غارسيا ماركيز، بالإضافة إلى العديد من الملاحظات والتغييرات التي أراد ماركيز إجراءها.

ظهرت لبيرا صياغات مختلفة لجملة أو عبارة واحدة، نسخة مطبوعة وأخرى مكتوبة بخط اليد في الهوامش. وحاول تصحيح التناقضات وحلّ التضارب في الأحداث مثل عمرِ البطلة، إذ كان ماركيز متردداً بشأن ما إذا كانت في منتصف العمر منه أقرب إلى الشيخوخة، ومثل وجود شارب على وجه أحد عشاقها من عدمه. وعند وصوله إلى النسخة الأكثر إقناعاً، قرر بيرا والأخوان عدم إضافة حتى كلمة واحدة لم تكن في ملاحظات ماركيز أو في نسخ أخرى، على حد تعبيرهم.

أما بالنسبة لمصير أي أعمال جديدة أخرى لغارسيا ماركيز، فإن الابنين ينفيان أي احتمالية لذلك قائلين: “لا يوجد أي عمل آخر”، فطوال حياته، درج ماركيز على إتلاف النسخ القديمة من الكتب المنشورة والمسودّات غير المكتملة، لئلا تخضع لمعاينات جديدة، وأضافا أن ذلك كان من بين الأسباب التي دفعتهم إلى نشر روايته “في أغسطس من كل عام”.

وقال غارسيا بارشا: “مع صدور هذه الرواية، تكون كل أعمال غابو قد نُشرت. ولم يتبقَ مسوّدات حبيسة الأدراج”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن “نيويورك تايمز” والعنوان الأصلي للمقال: “أراد غابرييل غارسيا ماركيز إتلاف روايته الأخيرة، وها هي قيد النشر.

*****

خاص بأوكسجين