“نيرودا” ..يمارس الحب وفي فمه وردة
العدد 212 | 17 أيار 2017
زياد عبدالله


هل يمكن للشاعر أن يحوّل رجل الأمن إلى شخصية روائية، يتلاعب به، ويفشل كل مخططاته، لا بل يحوّله إلى مأخوذ بالشعر يتتبع قصائد الشاعر أيضاً؟ بمقدور بابلو نيرودا وحده أن يفعل ذلك! هذا ما يقوله لنا على الأقل المخرج التشيلي بابلو لورين في فيلمه “نيرودا” Neruda، ولا أحد سواه ربما! أشهر شاعر في القرن العشرين، الأسطورة الشعرية والسياسية أيضاً، الذي تعتقد النساء أنه يمارس الحب وفي فمه وردة كما يرد في الفيلم.

الفيلم الذي كتبه غوليرمو غالديرون، يتأسس على التاريخي أولاً، وتحديداً بعد ثلاث سنوات على نهاية الحرب العالمية الثانية، ونيرودا عدا عن كونه شاعراً فهو عضو مجلس الشيوخ، السيناتور الشيوعي، الذي سرعان ما يصطدم برئيس تشيلي غونزاليس فديله، ونيرودا (لويس نيكو) يسخر وينال منه، وعليه يصبح مطارداً من قبل 300 شرطي على رأسهم المحقق أوسكار (غايل غاريا برنال في دور استثنائي ليس بغريب عنه)، مع حملة لتشويهه ونعته بالخائن وما إلى هنالك مما تتبعه النظم السياسية مع معارضيها.

ما تقدّم هو التاريخي، أما الخيالي فماثل لدى أوسكار، الذي يحضر في الفيلم بداية كراوٍ “فويس أوفر” نسمع صوته وهو يروي ويعلق على حياة نيرودا، مستبقاً حضوره في الفيلم بالتأسيس لمقاربته للشاعر العظيم، كما المشهد الذي يقرأ فيه نيرودا قصيدته “أستطيع أن أكتب أكثر الأشعار حزناً هذه الليلة/ أحببتها، وأحياناً هي أيضاً تحبني..” بينما هو ممسك بحصان وسط نساء عاريات وقد ارتدى زي لورنس العرب.

تداخل التاريخي مع الخيالي، سيتيح للفيلم أن تتداخل مع السرد مساءلات عميقة على اتصال بعلاقة الشعري بالسياسي، كما أن المحقق أوسكار لن يتبدى للمشاهد بأنه شخصية روائية لأن المخرج أو السيناريو أراد ذلك، بل سيتحول تدريجياً إلى شخصية روائية، وسيكون صراعها في ألا تكون شخصية ثانوية، كما ستقول له زوجة نيرودا داليا (مرسيدس موران) “يفكّر بالنساء العاريات ويفكر بك أيها المحقق وأنت تقرأ قصائده”، وعلى مستوى واقعي فإن هناك أسباباً ليكون شخصية روائية ذلك أن الرئيس غونزاليس لا يسعى للقبض على نيرودا مجنباً نفسه ضجة هائلة تثار حوله، بل ابعاده، جعله ملاحقاً ومهدداً، وفي هذا المساحة سيكون حضور معاناة الطبقة العاملة، وأعضاء الحزب الناشطين على الأرض، وامرأة عاملة وحزبية تسأل نيرودا أن تقبّله فتمضي تقبّله طويلاً، ولتقول له بما معناه أنت لا خوف عليك، نحن الذين نمضي من معتقل إلى آخر، ومهددون بالتصفية في أي وقت.

النصر للشاعر في هذا الفيلم، والنصر أيضاً للسيرة الذاتية التي ما لم يصوغها الفيلم على هذا النحو لبدا الأمر لا طائل منه، كما أي فيلم يلاحق فيه رجل الأمن أحداً ما فينجو هذا الأخير، والفيلم محمّل بالكثير من التساؤلات حول ماهية الشاعر في هذا العالم، ونيرودا تعشقه المناضلات والعاملات والعاهرات، وحين ينجو من المحقق في ماخور يحتفي به تجري حوارية بين محول جنسي والمحقق أوسكار، يقول فيها الأول للثاني “كلب مثلك لن يفهم”.

فيلم “نيرودا” استكمال لسينما لورين التي تتمركز بشكل رئيس على المفاصل التاريخية لتشيلي القرن العشرين، سواء في “لا” 2012، وصولاً إلى “بوست مورتم” 2010 هذا الفيلم المدهش الذي يلقننا درساً في سرد التواريخ المفصلية في حياة الشعوب بعد تأسيس قصة استثنائية سرعان ما تتداخل أيما تداخل مع اغتيال سلفادور الليندي.


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.