كل الأفلام على شاشة واحدة
العدد 301 | 16 تشرين الثاني 2025
مها عواودة


في القاعة المظلمة، حيث يلتقي الأموات بمن يصوّرونهم، أدخل متأخرة كالعادة. الفيلم بدأ منذ خمسين سنة، أو ربما البارحة — الزمن هنا له قوانين أخرى. أتحسس طريقي في الظلام، أعتذر لركبة لا أراها، أجلس. الضوء الوحيد يأتي من الشاشة، يرسم على الوجوه خرائط من ظلّ ونور.

أنا أعرف —  هذه ليست قاعة عادية.

عن يميني طفلة بمعطف أحمر من فيلم لم يكتمل تصويره، تمسك دمية قماش، وتشاهد نفسها على الشاشة وهي تختفي في الدخان. وعن يساري جندي من “ماريوبول” يحمل هاتفه كسلاح أخير، يصوّر نفسه وهو يودّع. خلفي امرأة من سراييفو تعدّ الثواني بين القذيفة وصوتها. أمامي صبيّ من “تعال وانظر” — ذاك الذي شاخ ألف سنة في لقطة واحدة — يغطي أذنيه رغم أن الصوت يأتي من الداخل. الشاشة تعرض كل الأفلام في آن معاً أو ربما فيلماً واحداً لا ينتهي.

سبيلبرغ يقف عند باب الطوارئ، يحسب الأرواح التي أنقذها بالضوء والظل. يحمل قائمته — ليست “قائمة شندلر”، بل قائمة بكل من لم يستطع تصويرهم. الأسماء تملأ دفتراً ثقيلاً. “الفنّ ينقذ”، يقول لنفسه، لكن صوته يرتجف. طفلة المعطف الأحمر تنظر إليه: “لقد رأوني أخيراً، لكن بعد فوات الأوان”.

شخص في الصف الخلفي يسعل أم يبكي؟ الفرق ضئيل في الظلام.

في الزاوية، بولين كايل تكتب في الظلام. كيف تكتب في الظلام؟ “مارست كثيراً”، تقول دون أن ترفع عينيها. “الحروب تُرى بالعين، لكن تُفهم بالأمعاء. والأمعاء لا تحتاج ضوءاً”. تكتب: “نحن نأكل العنف كالفشار…” ثم تتوقف. تنظر إلى الطفلة ذات المعطف الأحمر. تشطب ما كتبت. تبدأ من جديد: “نحن نبتلع الموت”.

المعطف يهمس بسرّ آخر: للألم تدرّجات لا تُسجَّل في دفاتر النقّاد. الوردي الصغير على عجلات درّاجة لم تكمل دورتها، الأخضر الذي لم تُفتح حقيبته المدرسية أبداً، الأزرق الذي كان يتهجّى اسمه تحت قصفٍ بعيد — كلها ألوان تقف الآن في الطابور ذاته، بلا تذاكر، وتدخل القاعة. تجلس في المقاعد الفارغة حولي. تشاهد نفسها على الشاشة.

صوت قطارٍ قديم يتسلّل من بين المقاعد كثعبانٍ حديدي. كلود لانزمان يجلس في الصف الأول، يدير ظهره للشاشة. يرفض النظر إلى الأرشيف. “الموت لا يُصوَّر، بل يُستحضَر”، يقول لمن يريد أن يسمع. في “شوا” يجرّنا من ياقة الحاضر كأبٍ صارم يعلّم أطفاله درساً مؤلماً: الماضي لا يسكن الأفلام يا أعزائي؛ الماضي يستأجر أجساد الشهود في النهار، ويغادر آخر الليل، تاركاً إيجاراً من الدموع. أنظر إلى يد رجلٍ على خشب المقعد أمامي — اليد تصير سكة حديد، وعروقه عربات قطار لا تصل أبداً. رجل بولندي عجوز — هل هو من الفيلم أم من الذاكرة؟ — يحرك يديه كأنه يقود قطاراً غير مرئي. “ما زلت أقودهم كل ليلة في أحلامي. القطارات تصل دائماً. هذه هي اللعنة”.

إيليا سليمان يعبر الممرّ ببالون أحمر. يطفو فوق الرؤوس كسؤال: هل يمكن للهواء أن يهزم الرصاص؟ جندي الحاجز من فيلمه يحرس مخرج الطوارئ. البالون يمرّ من أمامه. الجندي لا يطلق النار على الهواء — هذه مهزلة أكبر من أن تُحتمل. سليمان يبتسم: “أحياناً السخرية هي السلاح الوحيد الذي لا يصدأ”.

رشيد مشهراوي يضحك بحرارة فلسطينية من الصف الخلفي: “جرّبت أن أخدع الحرب بالكرتون في حلم القناع. صنعتُ أفلاماً تحت القصف. الكاميرا كانت تسقط، نرفعها. الممثل يهرب، نجد آخر. القصة تتغيّر لأن الواقع يتغيّر أسرع من السيناريو”. يتوقف، ينظر إلى يديه: “لكن الأفلام لم توقف قذيفة واحدة. الرسوم المتحركة جسر عبور إلى صورة أثقل مما تطيق الاستعارة”.

لازلو نيميش يحمل كاميرا على كتفه، يصوّر من زاوية مستحيلة — من داخل عين شخصٍ ميت. في “ابن شاؤول” علّمتُ درس الرؤية المحيطية. الحقيقة تقف خارج البؤرة وتلوّح. لكن هذا”، يشير إلى كاميرته المرتجفة، “هذا ما لم أستطع تصويره — وجهة نظر من لم يعودوا”. الكاميرا ترتجف. أم يداه؟ “منذ ذلك اليوم، عرفنا أننا جميعاً نحمل كاميرات ترتجف. ليس لأن التقنية تريد، بل لأن اليد لا تتقن الشجاعة دقيقة كاملة”.

أليم كليموف ينهض، وجهه شاحب كشبحٍ سوفييتي: في “تعال وانظر” حوّلتُ صبياً إلى عجوز في مئة دقيقة. جرّدتُ الموسيقى من حيلتها. الصبي فقد سمعه، والفيلم كسب أذناً أخرى. الصبي من الفيلم — فلوريا — يجلس بيننا، شعره أبيض، عيناه عمرهما ألف سنة. “لم أكن أمثّل”، يقول. «كنتُ أتذكّر». كليموف يكمل: «الحرب تفعل ذلك في دقيقة واحدة، لكن السينما تحتاج وقتاً لتشرح. الغياب صوتٌ مكتمل».

دانيس تانوفيتش يضحك في الظلام — ضحكة مريرة كالقهوة البوسنية. «تتذكرون فيلمي؟ ‹لا أحد في أرض لا أحد›. رجلان في خندق، لغم تحت أحدهما، والعالم يشاهد؟» يشير إلى القاعة: «ها نحن جميعاً في الخندق نفسه. واللغم؟ أننا نعتقد أن المشاهدة تكفي. العبث كان مجازاً قابلاً للتأويل، لكنه خرج من الفيلم وصار يتمشّى على خرائط أخرى».

تارانتينو يدخل متأخراً، بدلته أنيقة بشكل فاحش في هذا الظلام. «في ‹الأوغاد المجهولون› أحرقتُ هتلر في السينما. الخيال ينتقم أفضل من التاريخ». امرأة من وارسو تستدير نحوه: «لكن جدّتي احترقت فعلاً. ليس في فيلم». يطفئ سيجارته المتخيلة. للمرة الأولى، لا يجد تارانتينو ما يقوله.

سوزان سونتاغ تقف، تحمل كتابها «بخصوص ألم الآخرين» كمصباحٍ في الظلام. «المشكلة ليست في التصوير، المشكلة في المشاهدة. نحن نشاهد لنشعر بأننا فعلنا شيئاً. لكن المشاهدة ليست فعلاً». تنظر حولها، توزّع علينا مرايا صغيرة: «خذوا مراياكم. انظروا إلى قلوبكم بعدما تنتهي الصورة. هل صرتم أرقّ أم أصلب؟»

جان لوك غودار يطلّ من درجٍ جانبيّ بنظارته التي تشبه سخرية لطيفة: «تاريخ(ات) السينما يخلط معسكراتٍ مع قُبَل هوليوودية من الفترة نفسها. أين كانت الكاميرات — وأين كنّا — حين احتاجتنا الصور؟ الكاميرا لا تكذب، لكن غيابها يكذب أكثر».

من آخر الصفوف، صبيّ من غزة — عمره ثماني سنوات أو ثمانون، من يحصي؟ — يمسك هاتف أمّه. يصوّر القاعة وهي تصوّر الحرب. «ميتا-سينما»، يقول بجدّية طفلٍ تعلّم الكلمات الكبيرة قبل أن يتعلّم اللعب. «أم ميتا-موت؟» سؤاله يبقى معلقاً كالغبار في شعاع الضوء.

على الممرّ ينهض رجلٌ من حلب فجأة، يصرخ على الشاشة: «هذا خطأ! لم يحدث هكذا!» لكن الشاشة لا تسمع. تواصل عرض نسختها من الحقيقة. يجلس ببطء. تربّت امرأة خلفه على كتفه: «أعرف. كنتُ هناك أيضاً. النسخة الحقيقية أسوأ من أن تُصوَّر».

طفلٌ من اليمن يرفع يده كأنه في صفٍّ مدرسي: «عندي سؤال. لماذا الأفلام عن الحروب القديمة أوضح من الأفلام عن حربنا؟» الصمت يملأ القاعة. ثم يجيب غودار: «لأن الموت يحتاج مسافة زمنية ليصبح فنّاً. الدم الطازج لا يُحسن التمثيل».

في آخر القاعة، بابٌ يُفتح. ضوء أبيض يدخل كسكين. الفيلم انتهى — أي فيلم؟ كل الأفلام؟ — لكن لا أحد يتحرّك. طفلة المعطف الأحمر تنهض أخيراً. تمشي نحو الشاشة، تلمسها. «باردة»، تقول بدهشة. «ظننتها ستكون دافئة من كل هذا الضوء». تستدير نحونا: «في الحياة الحقيقية، لم يكن معطفي أحمر. كان رمادياً مثل كل شيء آخر. السينما أعطتني لوناً لأموت به».

أنهض لأخرج. الجاذبية هنا ثقيلة كذنب، خفيفة كذكرى. أمرّ بين الصفوف، كل مقعد يحمل شاهداً. عند الباب ألتفت. الشاشة فارغة الآن، بيضاء، تنتظر الفيلم التالي. أو الحرب التالية.

بولين كايل ما تزال تكتب في الظلام: “السينما وُلدت من رغبتنا في حفظ الحركة. لكننا لم نعرف أننا سنحفظ الموت متحرّكاً”.

أخرج إلى ضوءٍ لا أتعرّف عليه. في الشارع، طفلٌ يلعب بطائرة ورقية حمراء. الطائرة تحلّق عالياً، نقطة لونٍ في سماء رمادية. ربما هذا ما نحتاجه: نقطة لون واحدة لنتذكر أن العالم لم يكن دائماً بالأبيض والأسود. والسؤال يبقى معلّقاً كالغبار في شعاع الضوء: هل نحن نشاهد لنتذكّر، أم لننسى!

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من فلسطين