تقرؤون في ما يلي مقدمة كتاب “أتذوق، أسمع، أرى – فلسفة من أجل الحواس” الصادر أخيراً عن محترف أوكسجين للنشر:
أفتتح صباحي بفنجان قهوة. الصباح الجيّد يبدأ بقهوة جيّدة وحكاية ممتعة. لكنّني كنت دائماً أتساءل ما سرّ هذا السحر الذي تفعم به الجسد، أهو الطعم، أم الرائحة، أم اللون الأسود الذي يلتمع في قلب الفنجان الأبيض؟ ما الذي يجعل رشف قطرات قليلة، وتكاد تكون شبه نادرة، من “الإكسبريس”، بالنسبة إليّ، تجرِبة للأبدية تتجمّع في لحظة واحدة؟ ربّما تكون هذه الأسئلة، تدريباً يومياً على التفكير، أفتتح به الصباحات المتحقّقة في كلّ حياة جديدة تُمنح لي معها. الشيء الأكيد بالنسبة إليّ، أنّ هذا السحر، وهذا التولُّه بالقهوة كممارسة غزلية لبداية الصباح، لا ينحدر من أيّة معرفة بمنافع البنّ ومضارّه، لا بالمكاسب وبالخسائر التي يجلبها للصحّة، إنّه انتشاء خارج الاعتبارات الانتهازية للجسم، ولأوهام ادخار القوى، لأنّني على علم يقين، أنّني ما دمتُ تورّطت في الحياة، فقد تورّطتُ في الخسارة الكبرى التي تكتمل بها. مثلما لم يتأتَّ ذلك من معرفة بمكوناتها. إنّه انتشاء خارج المعرفة، وربّما خارج المعنى أيضاً. القهوة بالنسبة إليّ مدخل كبير لفلسفة الحواسّ.
في أحد كتبي السابقة، أثرتُ هذا السؤال: “ما الذي يريده جسدي؟” كان مبرّرُ طرحِ هذا السؤال، هو أنّ ما يدخل إلى التجربة يخرج من عالم المعنى. قلّما انتبهنا إلى أنّنا كلّما استدرجنا الجسد ليكون موضوع حديثنا، انتهى بنا الأمر إلى الحديث عن شيء آخر. الكلمات في سعيها لهيكلة التجربة تنتهي بخلق بديل عنها، بتعويضها بما يمكن أن يقال. كذلك الأمر بالنسبة إلى الحواسّ التي لا تظهر إلّا وهي مغلّفة بأسئلة الحقيقة والمعنى والمعرفة. قلّما سُمِح للحواسّ أن تظهر كفعل للحياة في أفق التفكير، أي التدفّقات الحسّية التي تنتشر في ملاذات الجسد، وما يترتّب عنها من حياة.
إذا جرّدنا الحياة من الألوان والأصوات والمذاقات والروائح والملامس، فما الذي سيتبقّى منها كحياة أمامنا؟ إنّ تجاوز وضع الحياة كبقاء، لا يحدث ولا يتأتّى إلّا تحت شرط ما تنتجه الحواسّ، لكنّ الحواسّ لا تجعل الحياة تظهر حيّة أمامنا فقط، بل تجعلنا أيضاً أحياء في مواجهة العالم، فماذا سنكون من دون الأصوات التي نسمع والصور التي نرى والنكهات التي نتذوّق والروائح التي نشمّ؟ ما يستخلص من أفعال حواسّنا، هو حياتنا الخالصة، ما ينسب إلينا في عالم يجعلنا موضِعاً لحدوثه، ويُفرِّدنا كأحد ممارساته.
نكاد لا ننتبه إلى أنّ الحواسّ تفتح المجال الذي يؤكّد فيه الجسد نفسه كانحياز. إنّه يمارس فيها انحيازاته التي يعلن من خلالها ما يكونه.
الانحياز قيمة عظيمة يُنشّط فيها الجسد استثناءه. ومن دونه، لسنا سوى غفل. من نكون من دون التفضيلات التي تشكّلنا؟ من لا تفضيل له، لا يرقى إلى مستوى الجسد، أو هو في أحسن الحالات مادّة غارقة في خطأ اللّاشكل. وليغدو التساؤل عن الحواسّ، في أحد جوانبه المثيرة، تساؤلاً عن الانحيازات التي تُعلننا كأجساد. ومع ذلك فالأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ، فالحواسّ تقدّم طيفاً متخالفاً من الانحيازات، النظرة مثلاً قلّما تكشف عن الانحيازات البدئية التي تكوّنت على أساسها، في حين أنّ التذوّق لا يحدث إلّا على أساس ظهور صريح لها، ورغم هذه الاختلافات هناك شيء مشترك، هو مقاومة العفوية. كثيراً ما وصف من يدافع عن حسّية الإنسان، بأنّه حيواني المنزع، في معارضة مع ما هو روحاني. لكنّ أصحاب هذا الرأي لا يفهمون جيّداً طبيعة هذه الحياة المترتّبة عن الحواسّ، الحيوان كائن المنبّهات لا الحواسّ، إنّه غريزي، ومن منطق الطبيعة فالغريزة دائماً على حقّ، بل التحوّلات التي تطرأ عليه على مرّ السنين، تأتي أكثر من تفاعل ما هو مبرمج فيه، مع الشروط الخارجية التي لا يتحكّم فيها. لكنّ الإنسان كائن تجريبي، إنّه يجرّب وجوده حتّى في تعارض مع التجهيز المبرمج فيه، ومن خلال تجاربه يشكّل نفسه ويعيد بناءها، لأنّه في الأساس كائن لا يناسب طبيعته كما دافعنا عن ذلك في كتاب “الجسد وأنثروبولوجيا الإفراط”. لذلك فأفعال الحواسّ تفتح حقلاً للتجربة يبدأ من أعضاء الحواسّ، وينقاد إلى حياة تتجاوز الغريزة والحاجة. إنّها تجلب البعيد الممثّل الرمزي للّانهائي في السمع، وتخلق حياة المكان في النظرة، وفي اللمس تبتكر فنّ تقاسمنا لأنفسنا في الآخر، وتفتح مكاناً لحدوث المطلق الخاطف في التذوّق. إنّها تجربة روحانية.
بعينيه لا يرى الإنسان شكل الفريسة، وبأذنيه لا يسمع صوتها. إنّه يبتكر ما يرى، ويبني ما يسمع، كما عبّر عن ذلك محمود درويش في ديوانه “أرى ما أريد”. لذلك ابتكرتْ حياة الحواسّ الموسيقى والرسم والرقص والعطر، وانتقلت من الطعام إلى فنّ الطبخ. خلقت المذاقات وافتعلت سحر النكهات، لغاية واحدة هي جعل الحياة تجربة ساحرة، تؤكّد سحر الجسد وامتداداته خارج حدوده.
تتحرّك خلف فصول هذا الكتاب فرضية ضمنية، لم أفصح عنها، ولم أعرض نتائجها تاركاً للقارئ استنتاجها، هي كونُ الثقافة صراعاً بين الحواسّ. كلّ ثقافة تستمدّ نجاعتها من الحاسّة التي ترفعها إلى المبدأ المهيمن. فالثقافة التي تتشكّل حول السمع، مختلفة عن الثقافة التي تبنى انطلاقاً من الامتياز الممنوح للنظرة.
عندما نكتب نحتاج إلى كثير من النسيان الفعّال. وعندما نفكّر يكون التحدّي الأكبر، هو كيف الاهتداء إلى فضيلة تعطيل النصوص التي قرأنا، والتي تتحوّل في أغلب الأحيان إلى عائق، إذْ ما الإفادة في أن أذكّر بنصوص منشأة سلفاً يمكن للقارئ أن يعود إليها؟ أي إضافة في أن أحوّل نصوصي إلى حفل لتلاقي الاقتباسات وتعارف الإسنادات؟ هناك دائماً نيّة مبيّتة لمقاومة ذلك في كلّ أعمالي، ومن ضمنها العمل الحالي. ورغم ذلك هناك ظلال تسترخي، نوع من الردّ والتقاطع مع أصوات فلسفية، وحوارات مفتوحة مع تجارب الجسد وشغب الحواسّ.
منذ كتابي “الحقّ في الجسد” و”الرغبة والمتعة” كان الاهتمام بسؤالين اثنين، هما: ما الذي أكونه عندما أتصرّف كجسد؟ وما هي هذه الحياة التي تأتي مع الحواسّ؟ حاولت قدر المستطاع أن أخوض في الأوّل، لكنْ بالنسبة إلى الثاني ظلّ مؤجّلاً. كانت التجربة الحسية غنيّة وفي الوقت نفسه عائقاً متيناً يصدّ كلّ محاولة لاختراقها، وخاصّة إذا كان الهاجس، هو تعهّد هذه التجربة في انفصال عن القضايا التي شغلتْ تاريخ المعالجة الفلسفية للحواسّ، ولاسيّما قضايا الحقيقة والمعنى وقيمة المعرفة المتحصّلة منها وعلاقتها بالعقل، وكذا المعالجات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية. فأنْ تجرّد سؤال الحواسّ من هذه الاعتبارات، يعني أنْ تتواجه مع التجربة في العراء، وتكون النتيجة هي أنّها هي التي تستفرد بك، وليس العكس. إنّها مغامرة تستحقّ أن تخاض، وفاء لمطالب الروح، وحياة الروح هي التأويل.
في بداية هذا العمل الذي أعي جيّداً حدوده، فتحت قوساً، كان ينبغي أن أفتحه، لأتقاسم مع قرّائي، نوعية التدخّل الذي أحاول أن أنجزه، أي فهمي لممارسات الفلسفة التي اقتنعت بأن مقعدها مازال شاغراً بيننا. في الحقيقة هو إعلان ضدّ الفلسفة، ولمصلحة التفلسف.
قادني التفكير في تجربة الحواسّ إلى مناطق لم تكن متوقّعة في البداية، كالوجه وتجربة الفائض، ومنها إلى النظرة واللمس والسمع والتذوّق. أمّا الشمّ، فهو تجربة فريدة، حسب مقدّمات تفكيري فيه، لذلك أرجأتُ الاشتباك معه لعمل لاحق.
في تجربة الجسد تخدم الانزياحات النسق وتثمّنه، إنّها إبداعيته الخالصة المرتدّة إلى عمل منتج لمقاومة العفوية. ومن ثمّة فالحواسّ في قلب هذه التجربة تظلّ هي ما يطوي سياقات العالم في الجسد، وما يبني في ملاذاته السرّية المكان الذي هو جدير به. إنّها قصيدة الحياة التي تستحق أن تنشد، تماماً كما هي قهوة الصباح بالنسبة إليّ.
*****
خاص بأوكسجين

