“سمكة وقطة” ..فيلم بلقطة واحدة تمتد لـ 135 دقيقة
العدد 154 | 15 حزيران 2014
زياد عبدالله


زمن الفيلم الافتراضي هو زمن حقيقي! وما يستغرق خمس دقائق للقيام به في الحياة العادية لن يكون إلا خمس دقائق في الفيلم، ما من قطع، وما من تنظيم للقطات والمشاهد ليكون الفيلم متماسكاً ومتتابعاً، أي لا يمكننا الحديث عن مونتاج، كل ما نشاهده حدث في موقع التصوير، وعلى الكاميرا أن تحكم عدستها على كل شيء، والمرحلة التي تلي ذلك مختلفة تماماً عن مسار إنتاج أي فيلم، وليس هناك مجال للخطأ كون ذلك مدعاة لإعادة كل شيء من اللقطة التي بدأ فيها الفيلم.

بداية لابد منها إن كان ما ننوي القيام به هو مقاربة فيلم المخرج الإيراني شهرام موكري “قطة وسمكة” (جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة المهر الآسيوي الأفريقي للأفلام الروائية الطويلة – الدورة العاشرة من مهرجان دبي السينمائي) وهو فيلم مدته 135 دقيقة صُوِّر في لقطة واحدة من دون أي قطع، لكن ليس هذا فقط ما يشكل غواية لمشاهدة هذا الفيلم، أو مساحة التجريب الوحيدة التي اجترحها شهرام موكري، فهناك الكثير مما يمكن الحديث عنه إن تعلق الأمر بآليات السرد التي اعتمدها، والشخصيات والحوار وموقع التصوير، وكل العناصر الفيلمية التي احتكم عليها والتي تستدعي من أي عاشق للسينما أو “سينيفيلي” أن يشاهده مرة ومراراً، لأنه وفي كل مرة هناك ما يمكن اكتشافه في هذا الفيلم.

يبدأ فيلم “قطة وسمكة” بلقطة ثابتة يحتوي كادرها بيتاً يتحرك خارجه رجلان، وضمن الكادر أيضاً في الأعلى الطريق العام، حيث تتوقف سيارة وينزل منها شاب يسأل عن الوجهة التي يريد الوصول إليها. كل شيء غريب، إجابات الرجل على الشاب تؤسس لكل ما ينتظرنا في الفيلم، فهو لا يجيب إلا حين يحصل على بطاقة هوية الشاب، كما أننا سنكتشف أن البيت ليس إلا مطعماً مع أن لا شيء يشير إلى ذلك، إلا الرائحة الكريهة التي يخبرنا الشاب بوجودها. بعد ذلك ستتحرك الكاميرا وتلاحق الرجلين وهما يمضيان في غابة، الأول يحمل كيساً يوحي أن ما في داخله عبارة عن كمية كبيرة من اللحم، بينما يحمل الثاني “غالوناً” خاصاً بالوقود.

 

غواية الكتابة عن هذا الفيلم لا تتأتى من حكايته لكن من كيفية سرد تلك الحكاية أو الحكايا الكثيرة فيه، ونحن نتكلم عن عدد كبير من الشخصيات التي تظهر وتغيب ومن ثم تعاود الظهور، مع وجود شخصيات لها أن تكون “لازمة الفيلم” المتكررة، فكل ما في الأمر أن ما بدأنا به مع الرجلين غريبي الأطوار سيقابله مجموعة كبيرة من الشبان والشابات الذي يخيمون قرب البحيرة استعدداً لمنافسة الطائرات الورقية التي تجري في كل عام كما سنعرف، وسيكون الانتقال من شخصية إلى أخرى هي الآلية التي تتابع فيها أحداث الفيلم، فلكل شخصية وضمن الحيز المكاني للفيلم أن تنقله إلى مستوى آخر، فبعد تتبع الرجلين ومشيهما الطويل في الغابة، سيصلان إلى أب وابنه، وبالتالي سننتقل إلى قصتهما، ونعرف أن الابن واقع في غرام فتاة ليست محط رضى الأب، وحين يلتقي بهما الرجلان فإن أحدهما سيسأل أن يعطيه من وقود سيارته، ومن ثم سيترك الابن أباه ويمضي إلى مكان التخييم، وهناك ستأتي قصص كل من الشبان والشابات المخيمين.

 لن يكتفي الفيلم بحاضر الشخصيات، وبالتالي لن يكتفي أيضاً بالحوار، فأثناء الحوار تقوم الشخصية باستعادة ماضيها أو خلفية ما يجري الحديث عنه، ولفعل ذلك والفيلم لقطة واحدة يلجأ المخرج إلى “الفويس أوفر” بحيث تتحول الشخصية إلى راوٍ أيضاً. لكن عن ماذا يدور هذا الفيلم؟ ولعل الإجابة أن الفيلم هو فيلم رعب أو على شيء من التشويق، سيضعنا أيضاً أمام إعادة تعريف لمعنى التشويق بشكله الدارج، فهنا يكاد يكون الأمر على شيء من عبث صموئيل بيكت وصولاً إلى استخدام حصيف للمؤثرات الصوتية أو المفاجآت البصرية التي ترفع منسوب الأدرينالين لدى المشاهد، وهذا لا يتجاوز الثلاث مرات، وهناك أيضاً ظهور متكرر لتوأمين يرتديان نفس الثياب وكلاهما بذراع مقطوعة، ومن جهة أخرى ينجح الفيلم بأن يستدعي الحياة الإيرانية المعاصرة، بتوزيعه قصص الشخصيات التي تتناسل من خلال الانتقال من شخصية إلى أخرى.

 هناك الكثير الكثير مما يمكن الحديث عنه في هذا الفيلم، والذي لن يفصح في النهاية عن ما يمكن لمن يعيشون في ذلك المطعم أن يفعلوه بالمخيمين، وهل هم مثلاً من أكلة لحوم البشر؟ تبقى الأسئلة عالقة يمكن الإجابة عنها إيجاباً بالتأكيد لكن من دون أن نشهد فعل قتل أو مشاهد دموية عدا عندما يقوم التوأمان بنحر وزة، وليبقى الفيلم لغزاً جميلاً في النهاية، ممتداً ومتواصلاً بعد نهايته بتلك الأغنية الجميلة، وكل ما فيه ينتظر أن يحدث ولا يحدث، مثل الطائرة الورقية “قطة وسمكة” أو تلك القطة التي تطبق على اصبع آدمي ولم نرها أبداً.


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.