فاليريا لويزللي.. أرشيف الشعراء والأطفال الضائعين
العدد 249 | 14 تشرين الثاني 2019
زياد عبدالله


 

“تحتاج الروايات إلى نفس ثابت مستدام.. هذا ما يحتاج إليه الروائيون.. لا أحد يعلم معنى هذا بالضبط، إلا أن الجميع يقول: نَفَساً ثابتاً.. عندي طفلة رضيعة وصبي صغير.. وهما لا يدعان لي مجالاً للتنفّس.. كل شيء أكتبه، يجب أن يكون، على دفعات قصيرة سريعة.. وأنا نَفَسي قصير.”

 

يرد هذا المقطع في الرواية الأولى للمكسيكية فاليريا لويزللي “وجوه في الزحام” إصدار دار المدى (2018)– ترجمة عبير عبدالواحد، الأمر الذي ينطبق على أسلوب كتابة الرواية ذاتها، المقسّمة إلى مقاطع صغيرة قصيرة النفس، تنجح كما قطع “الليغو” في تشييد عالم الرواية المليئة بالاقتباسات والإحالات، الأمر الذي يمتد إلى روايتها الثانية “قصة أسناني” Story of My Teeth  صدرت بالإسبانية عام 2013 وبالإنجليزية عام 2105

 

في روايتها الجديدة الصادرة هذا العام “أرشيف الأطفال الضائعين” Lost Children Archive Alfred A.. Knopf 2019 تمضي فاليريا لويزللي (مواليد 1983) في عالم جديد كلياً على عدة صُعُد، بدءاً من تأليفها هذه الرواية بالإنجليزية بعيداً عن الإسبانية، التي كتبت فيها روايتيها السابقتين، مروراً بحجم الرواية (350 صفحة)، وصولاً إلى موضوع الرواية البعيد عن البنية التخيلية، والدوران في فلك العوالم الأدبية لكتّاب وشعراء حقيقيين أو متخيلين، وبناء روايتها هذه على أرضية واقعية، لا بل التأسيس على الوثائقي والخبري، وما له أن يكون موضوعاً حاضراً بقوة، ألا وهو مصائر الأطفال المكسيكيين اللاجئين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فنحن حيال أرشيف لهؤلاء الأطفال، الذين عبروا الحدود المكسيكية الأمريكية وحيدين، ونال ما نال منهم في طريقهم، وتغرير المهربين بهم، ومن ثم اعتقالهم واحتجازهم من قبل السلطات الأمريكية، ومصائرهم المعلّقة في السجون والقضاء والترحيل والإبعاد، وما إلى هنالك..

 

تتداخل حياة الراوية في “وجوه في الزحام” مع حياة الشاعر المكسيكي جيلبرتو أوين (1904-1952)، هي التي تعمل في دار نشر أمريكية وتسعى إلى تقديم شاعر لاتيني جديد إلى معشر القراء بالإنجليزية يحقق انتشاراً شبيهاً بما حققه الروائي والشاعر التشيلي روبرتو بولانيو. وعليه؛ فإن حياتها ستتداخل وحياة هذا الشاعر المتوفى الذي كان يعمل في القنصلية المكسيكية في نيويورك ويكتب تقارير عن “سعر الفول المكسيكي في الولايات المتحدة”، بما يحوّله في النهاية إلى شبح، مستحضرة معه الشاعر الإسباني فيدريكو غارثيا لوركا، والشاعر الأمريكي جوشوا زفورسكي، ولتنسب لهذا الأخير ترجمة أشعار أوين إلى الإنجليزية، لكي تقنع محرر دار النشر وايت بنشر أعماله، “كان وايت منجذباً لزفورسكي.. وأنا كنتُ جالسة هناك، عند انبلاج الفجر، أقرأ قصائده.. لم أفهم كثيراً، ولكن خطر لي بأنها قد تكون تلك وسيلتي لإقناع وايت بأهمية جيلبرتو أوين.. بتلك الوتيرة يتمّ الاعتراف الأدبي، إلى درجة معينة على الأقل.. فالمسألة برمّتها مسألة شائعة؛ شائعة تتكاثر مثل الفايروس إلى أن تغدو انجذاباً جمعياً”

 

تتكرر في رواية “وجوه في الزحام” عبارة مفادها: “إنها ليست رواية مفككة.. إنها رواية أفقية تروى عمودياً”، وهذا دقيق، ذلك أن الحيوات تمضي أفقياً وتتقاطع عمودياً مع الموتى، بين من هم من لحم ودم، ومن يصيرون إلى أشباح، بين حياة الراوية في حاضر الرواية الافتراضي (متزوجة ولديها ولدان) وماضيها (قبل الزواج)، أو كما يرد في الاقتباس الذي يتصدر الرواية: “حذارِ! إذا ما لعبت مع الأشباح أن تغدو واحداً منهم..”، وصولاً إلى عنوان الرواية المتأتي من قصة مرتبطة بالشاعر الأمريكي إزرا باوند، وليحضر هذا الأخير كشبح أيضاً.

 

تقول قصة باوند: “كان الشاعر إزرا باوند، قد رأى صديقه هنري غودييه برزيسكا، الذي قُتِل في أحد الخنادق في بلدة نوفيل سان فاس الفرنسية قبل بضعة أشهر.. كان باوند ينتظر على رصيف المحطة، متكئاً على عمود، في الوقت الذي توقف فيه القطار أخيراً.. فُتحت أبواب العربة، ثم أبصر وجه صديقه بادياً بين وجوه الناس.. وما هي إلّا لحظات قليلة حتى اكتظّت العربة بوجوه أخرى، ليتوارى وجه برزيسكا في الزّحام.. على أثر صدمته، عجز باوند عن الحركة بضع دقائق، إلى أن لانتْ ركبتاه أولاً ثم جسده بالمجمل.. وإذ كان متكئاً بكامل ثقله على العمود، انزلق إلى الأسفل إلى أن شعر بملمس إسمنت الأرضية.. أخرج مفكرته ثم شرع يكتب.. وفي تلك الليلة ذاتها، في مطعم في جنوب المدينة، أتمّ قصيدة تربو على (300) بيت.. في اليوم التالي أعاد قراءة القصيدة ورأى أنها طويلة جدّاً.. وهكذا، عادَ كلّ يوم إلى المحطة ذاتها، إلى العمود نفسه، لكي يشذّب القصيدة، ويختصرها، ويبترها.. كان يجب أن تكون مقتضبة تماماً مثل ظهور صديقه المتوفى، مذهلة مروّعة كمثل ذاك الحضور.. بعد شهرٍ من العمل، وبعد إزالة كل ما هو غير جوهري، نجا فقط بيتان مؤثران، يشبّه فيهما الوجوه في الزّحام ببتلات الزّهر على غصنٍ نَديٍّ أسود..”.

 

في “قصة أسناني” تؤسس لويزلي روايتها على الأسنان، أسنان شخصيتها الرئيسة (الراوي غوستاف)، وأسنان شخصيات تاريخية وأدبية ودينية على غرار بترارك والقديس أغسطتين والبابا يوحنا بولص الثاني وجان جاك روسو، لكن وقبل المضي إلى ذلك، فإن الرواية تخبرنا قصة الدلّال غوستاف الكاملة من البداية، المندرجة تحت عنوان (القصة- البداية الوسط النهاية): “أنا أفضل دلّال في العالم، ولكن من يدرك ذلك لأنني متكتّم.. اسمي غوستاف سانشيز سانشيز، على الرغم من تسمية الناس لي بالطريق السريعة (….) هذه قصة أسناني، أطروحتي عن عدد من المقتنيات والقيم المتغيرة للأشياء.. تبدأ هذه القصة، كما في أي قصة أخرى، بالبداية؛ ثم تصل إلى منتصفها، ثم تجيء النهاية.. والبقية، كما يقول أحد أصدقائي ليس سوى مجرد أدب، مبالغات، وإحالات، وخلاصات، واستعارات، وإغفالات.. ولا أعرف ما يأتي بعد ذلك.. ربما العار، أو الموت، وأخيراً، الشهرة بعد الموت.. عند هذه النقطة لن يكون بمقدوري قول أي شيء بوصفي راوياً.. سأكون ميتاً، رجلاً سعيداً، بشكل أحسد عليه”.

 

لا يمكن الحديث في “قصة أسناني” (150 صفحة) عن أفقي وعمودي، بل يترك السرد متتبعاً أهواء كثيرة يتداخل فيها التاريخي بالتوثيقي والخيالي، لا بل يتراجع السردي بما يبدو في نهاية الرواية تكليفاً فنياً من قبل “مجموعة خوميكس الفنية”، وليُسرد فيها حتى ما هو مغفل، رفقة رزنامة، والمبالغات التي ترد على تسع فصول تأتي من حقيقة أن “المبالغة ببساطة هي إحداث شرخ في العلاقة بين الأسلوب والواقع”.

 

بالعودة إلى “أرشيف الأطفال الضائعين” فإنها تدفعنا للقول، بعد استعراض ما سبق، بأنها رواية أفقية تماماً، برغم ما يتخللها من وثائق وإحالات واقتباسات وصور، تبدأ بغرق الراوية (لا اسم لها) بأخبار اللاجئين: “انكببت على التقارير والمقالات المتعلقة بالأطفال اللاجئين، وسعيت إلى جمع المعلومات عن الحاصل فيما يتخطى محكمة الهجرة في نيويورك، ومراكز الإيقاف والإيواء.. تواصلت مع محامين، وحضرت مؤتمرات لمؤسسات في نيويورك، واجتمعت بالعاملين في مساعدة اللاجئين والجمعيات المتخصصة بذلك (….) قرأت وقرأت، وأمضيت ليالي بلا نوم أقرأ أرشيفاً هائلاً، يعيد بناء ذاكرة سرد الشتات، ومعنى أن تكون ضائعاً في غبار الأرشيف”.

 

هذا الاهتمام يتأتى من جراء تعرف الراوية في اجتماع للأهالي في مدرسة ابنتها على مانوليا التي لديها ابنتان (8 و10 سنوات) موقوفتان في مركز حدودي أمريكي، بعد محاولتهما الفاشلة عبور الحدود من المكسيك.. يبدأ الأمر بسؤال مانوليا الراوية أن تترجم لها بعض الوثائق من الإسبانية إلى الإنجليزية، ليتطور الأمر مع الراوية، ولتتحول مصائر الطفلتين وآلاف الأطفال مثلهما إلى قضيتها، حيث تمضي رفقة زوجها وولديها في رحلة من نيويورك إلى الحدود المكسيكية، لتوثق أوضاع عشرات آلاف المهاجرين العالقين على الحدود المكسيكية الأمريكية.. وبالتوازي مع ذلك؛ يسعى زوجها للوصول إلى آخر المتبقين من شعب أمريكا الأصليين.. وفي هذا السياق يبقى التناقض جلياً بين الأصلي والمهاجر، والشرعي وغير الشرعي، رفقة أسئلة تراود الراوية على الدوام، عن مدى أخلاقية الفن والأدب حين يعتمد على مآسي الآخرين “هل يمكن أو يجب صنع أدب من معاناة الآخرين؟”، وعن إذا ما كان الشخصي شأناً سياسياً، بما يقود ابن الراوية إلى ما يشبه مصاب أولئك الأطفال الضائعين..

__________________

نشر هذا المقال في مجلة “الشارقة الثقافية”

اسم الكتاب

مجموع رواياتها

اسم الكاتب

فاليريا لويزلي


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.