تحوّل الشاعر رحمن عبد الرحيم إلى صرصور في كتاب الشاعر السوري منذر مصري “حقل الفخاري – مشهديات” (إصدار دار ممدوح عدوان – دمشق 2017)، من دون أن يستيقظ ليجد نفسه كذلك كما غريغوري سامسا، بل وقعت هذه الواقعة بعد خضوعه لمحاكمة ثبت فيها إقدامه على قتل صرصور بريء في المصعد وقد شهد عليه كل من ملاكه الأيمن والأيسر، إضافة لاستعانته ببلدية اللاذقية للقيام برش المستودع الرابض تحت شقته في الطابع السابع بالمبيدات الكيميائية ما أدى إلى وقوع مجزرة أودت بحياة 1350 صرصوراً.
فيما تقدم ملمح من ملامح المشهدية الثالثة في هذا الكتاب المتأسس على الحوار بوصف المشهديات الأربعة التي يتألف منها ممسرحة، هذا لئلا أقول إنها مسرحيات قصيرة معدة لأن تجسد على الخشبة، وليتقدم كل مشهد إرشادات على اتصال بالمكان والإنارة وصولا إلى كيفية إظهار الكتابات في مشهدية “كم صرصوراً يحق لك أن تقتل؟” التي بدأت بها، ولعل إيراد بعض تلك العبارات التي تدور بين شخصيتين لا ثالث لهما تضيء على المستويين المهيمنين على الحوار، ولعل التعامل مع النص سيميائياً سيظهر التضمين الذي تحتويه كل عبارة في هذه الحوارية المشهدية: “قسّم بعل الأرض بين البشر والصراصير، لكي تنجو عليك أن تتمتع بروح صرصور”، “بعل صرصور كبير”، “لا حاجة لك لقتل كل صرصور تلتقيه، الصرصور الذي تصادفه خارج بيتك دعه يمضي في حال سبيله”.
يحتكم هذا النص على ما يقول عنه برتولد بريشت “الدهاء” حين مجابهة مصاعب قول الحقيقة، وأؤمن أن النص بحاجة لتفكيك هذا “الدهاء البريشتي”، وهذا يمتد ليشمل المشهدية الثانية “المرثيات الثلاث لموت طائر” ولتكون المساحة هنا مفتوحة أمام الحرية بالإبقاء على عبودية الطائر، أو الابقاء عليه حياً في شتى الوسائل لكن بما يضعنا أمام إشكالية فعل كل شيء ليبقى الطائر حياً فقط لا غير، وأن ارتباطه بالقفص أمر فطري أو طبيعي، إلا أن هذا ما يقتله بالنهاية “مات.. فعلها من جديد، حسناً سأريه إذاً ..سوف يقولون بعد كل ما فعلت لأجله، إنني من قتله. الحمقى… سأريهم جميعاً، لا ينفع معهم شيء.”
بينما يقوم صاحب “بشر وتواريخ وأمكنة” في المشهدية الأولى في الكتاب “حقل الفخاري” بتقديم نص يدلل على الكيفية التي يمسي فيها الإنسان في ظل القمع إلى يهوذا ولنكن حيال الاستدعاء الأمني وملابسات البنية المخابراتية التي تعلك الإنسان أي إنسان وتبصقه ليسبح بدمه وقيئه، ولتأتي آخر مشهدية “زيارة الغرفة 106” على شيء يستكمل تلك الواقعية – إن صح الوصف – ونحن نعاين صراع الأجيال الأدبية، والذي لن يكون صراعاً بل مزيجاً من خيلاء الشاعر الكبير الممتلئ هواء، وفساده هذا إن كان شاعراً ولم يكن روائياً!
هذا الاستعراض السريع لما يحمله جديد منذر مصري يسعى لأن يوضح أمراً بالغ الأهمية يتمثل بمدى ارتباط ما حمله الكتاب بسوريا – الإهداء أحد أدلتي على ذلك – واقعياً ومجازياً ذلك أنها نصوص تتحرك في هذين السياقين كما لو أنها “مزهرية على هيئة قبضة يد” تتكور القبضة على معان كثيرة ولها أن تلكم أيضاً بواقعية من دون أن تدعنا ننسى أنها مزهرية استخلص ما في داخلها من حقل الفخّاري وهو ليس إلا “قطعة أرض ابتاعها اليهود بمبلغ الثلاثين فضية، التي أعادها لهم يهوذا الاسخريوطي، بعد ندمه على وشايته بالسيد المسيح، وتسليمه لهم، لصلبه. فقد رأوا أنه لا يمكن إعادة المال إلى خزينة المجمّع لأنه كان أجراً مقابل وشاية وثمناً لدم. فابتاعوا عقاراً كانت تشغله فخّارة، وجعلوه مقبرة للغرباء والمتشردين الذين لا يعرف لهم أصل. سمّي حقل الدم، أو أرض الدم. لأنه، يقال أيضاً، كان المكان الذي شنق يهوذا نفسه فيه، واندلقت على الأرض أحشاؤه.”
اسم الكتاب
حقل الفخّاري
اسم الكاتب
منذر مصري
الناشر
دار ممدوح عدوان 2017