رسائل مارسيل بروست.. عن الزمن المفقود والمستعاد
العدد 240 | 11 كانون الثاني 2019
غسان البرهان


لم تكن رواية “البحث عن الزمن المفقود”، إلا جزءاً من حياة الروائي الفرنسي مارسيل بروست، التي يستعيدها من غياهب الذاكرة لتتدفق مجدداً أثناء تناوله قطعة من “المادلين” المغمسة ببعض الشاي؛ لينبعث كل الناس الذين عرفهم والحدائق والقرية والكنيسة والمدينة وضواحيها التي رآها من قدح الشاي؛ بأسلوب التسلسل العفوي، أو الشيء بالشيء يذكر، كما عبرت عن ذلك فرجينا وولف.

ينتمي بروست لكتاب ما يُعرف بتيار الوعي أو التداعي، حتى قيل إن الرواية لم تعد حالها كما كانت قبله، هو وجيمس جويس، حيث مثل هذا الاتجاه ثورة فنية على تقاليد القص الكلاسيكي، بعد انفتاح النص الروائي على الوعي واللا وعي، ما جعل رواية بروست شديدة التعقيد.

وبات للقارئ العربي أن يقارب عوالم بروست الروائية -وقد أقرّ بروست نفسه بأنها شديدة التعقيد وتداخل الأحداث فيها أشبه بـ”ثمرة الملفوف”- مع صدور رسائله في كتاب “رسائل مارسيل بروست” ( دار الرافدين، ترجمة: ربيع صالح)، بـ544 صفحة من القطع المتوسط.

تتيح لنا الرسائل التي كتبها بروست فرصة الاطلاع عن كثب على عالمه، والظروف التي أنتج فيها أعماله، سيما إنه بدأ مشواره كاتبا للمقالات، ثم عكف على ترجمة أعمال الشاعر الإنجليزي جون رسكن إلى الفرنسية، وبعدها أصدر كتاباً يضم بعضاً من مقالاته وأشعاره، بعنوان “المسرات والأيام”، قبل أن يباشر بكتابة عمله الخالد والأشد تعقيدا “البحث عن الزمن المفقود”، والذي توفي قبل أن يكمل تنقيح آخر ثلاثة أجزاء منه.

واجه بروست العديد من المشكلات في حياته، أولها التعب والإعياء المفرط الناتج عن مرضه المزمن، الذي أجبره على الانزواء في عزلة -المرض جعله يستعير صفاته الشخصية ليمنحها لبطل روايته- ثم وفاة والده، ووالدته، ما جعله أكثر انعزالا عن المجتمع. وعلى صعيد الكتابة، فقد واجهت “البحث عن الزمن المفقود” رفض دور النشر لها نظراً لطولها، يقول بروست: “لم تعد دور النشر ترغب في نشر روايات طويلة؛ فضلا عن ذلك، فإن بعض الروائيين يكتبون روايات ذات حبكة موجزة وشخصيات قليلة. إن ذلك بعيد عن مفهوم الرواية الذي أؤمن به”.

فالرواية بالنسبة لبروست لا تمثل علم النفس المستوي فقط، إنما هي علم نفس الفراغ والزمن (المادة الخفية التي حاول إخفاءها): “ما يهمني، من كتابة هذه الرواية، هو أن يفهم الناس ما كنت أحاول فعله؛ رب حدث تافه صغير يكشف لنا عن مرور الزمن وانقضائه، وأن بعض الصور الجميلة تزداد جمالا على مر السنين”.

وتظهر لنا الرسائل أن بروست كان مترددا بشأن تجنيس كتابه، يقول في أكثر من موضع: إنه “كتاب معقد جدا حتى أني أخشى أن القارئ لن يتمكن من فهمه أو إدراك كنهه على النحو المطلوب”. ويرد في رسالة له”لا أعرف إن كنت قد أخبرتك بأن هذا الكتاب هو رواية تتحلل قليلا من ضوابط الشكل الروائي”، و “دعنا نقول إنه رواية، فهو لون من ألوان فن الرواية”، ولا يطلق بروست تسمية الرواية على كتابه قبل الجزء الرابع منه، أي بعد صدور الرواية في حينها.

وتحدث بروست عن روايته قائلا إنها سلسلة من روايات اللا وعي؛ وهي ليست روايات برجسونية (نسبة إلى الفيلسوف برجسون)، بل إنها قائمة على إدراك يتناقض مع فلسفة برجسون”، مبينا أنه “كتاب واقعي حتى النخاع، كتب بأسلوب خاص يقوم على ذكريات الماضي محاكاة لذاكرة غير إرادية (على الرغم من أن برجسون لم يميز بين نوعين من الذاكرة، إلا أنني أعتقد بأن الذاكرة غير الإرادية هي الذاكرة الحقيقية؛ أما الذاكرة البصرية والفكرية فهي لا تقدم لنا إلا نسخة غير دقيقة عن الماضي؛ نسخة لا تشبه الماضي إلا كما تشبه صور الربيع، التي رسمتها ريشة رسام فاشل، فصل الربيع بجماله وتألقه. إننا لا نعتقد بأن الحياة جميلة وذلك لأننا لا نتذكرها، لكننا ما أن نشم عبير الماضي حتى ننتشي حد الثمالة! وعلى النحو ذاته، نعتقد بأننا لا نحب الموتى، لكن السبب هو أننا لا نتذكرهم، وما أن نعثر بالصدفة على قفاز قديم حتى تنبجس الدموع من أعيننا)”.

واللافت أن بروست لم يكن يؤثر على شخصياته فحسب، إنما يتأثر بها كذلك: “هل فعلا كنت أظن ذلك، هل كنت أعتقد أن الموت لا يزيل إلا من كان موجودا! لقد عرفت بموت البيرتين (شخصية في روايته)، فلكي يكون موت البيرتين قادرا على كبت معاناتي فإن صدمة وقوعها كانت ستؤدي إلى وفاتها ليس في العالم الخارجي ولكن أيضاً في أعماق نفسي حيث عاشت كما لم تحيا في أي مكان آخر”، مبينا “لكي أنسى البيرتين، علي أن أنسى الفصول التي تشدني إليها، بل وأنسى جميع الفصول، ثم أستعد لكي أتعلمها من جديد مثل رجل تعرض إلى جلطة دماغية وعليه أن يتعلم القراءة والكتابة من جديد. إن الفناء الفعلي لنفسي هو العزاء الوحيد لفقدها. بيد أن موت المرء ليس أمرا استثنائيا، إنه أمر يحدث رغما عنا كل يوم. بما إن تفكيري بها يعيدها مرة أخرى إلى الحياة، فإن خياناتها لن تكون خيانات امرأة ميتة؛ إن اللحظات التي تقترف فيها الذنوب هي اللحظات الحاضرة، ليس لحظتها فقط إنما لحظة ذواتي المتعددة التي تفكر فيها. وعليه، فلا توجد مفارقة زمنية بإمكانها أن تفرق بين اثنين قد اندمجا في كيان واحد”.

 

اسم الكتاب

رسائل مارسيل بروست

اسم الكاتب

مارسيل بروست

عدد الصفحات

544

الناشر

دار الرافدين


صحافي وكاتب من العراق.