“سنودن” في جمهورية أوليفر ستون السينمائية
العدد 200 | 10 تشرين الأول 2016
زياد عبدالله


كنت طيلة مشاهدتي فيلم أوليفر ستون “سنودن” أستعيد ما قاله المجند الأميركي برادلي مانيغ بخصوص تسريبه ربع مليون وثيقة أميركية سرية إلى صاحب “ويكيليكس” جوليان أسانج “إن كان متاحاً لك الدخول إلى شبكات سرية 14 ساعة في اليوم، 7 أيام في الأسبوع، وعلى امتداد أكثر من 9 أشهر، فماذا تفعل؟”، ليقودني ذلك إلى التساؤل وماذا يفعل السيد ستون إن كان أمامه شخصية مثل الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأميركية إدوارد سنودن (1983) ومحاميه يسأله أن يصنع فيلماً عن موكله، بما يستدعي الغوص في وثائق كثيرة وتتبع قصة متشعبة ومتداخلة مع الأروقة الخلفية والخفية في السياسة الأميركية – فضاء ستون الحيوي –  بحيث يتداخل الشخصي بالاستخباراتي بالسياسي وبالتأكيد التاريخي، وهي قصة محمّلة بدراما مشوقة؟

يصف ستون قصة سنودن (جسد شخصيته الممثل جوزيف غوردون ليفيت)  بـ “البوليسيـــة” معتبراً أنها تتناول شيئاً لا نعرفه فهي حسب تعبيره “قصـــة محزنة للغاية، لكنها في الوقت ذاته قصة درامية. هذا مزيج رائع”. ويتضح لدى مشاهدة الفيلم أن أوليفير ستون لا يخوض غمار عوالم “الهاكرز” أو Hacktivists أي الناشطين السياسيين والحقوقيين المقرصنين للمعلومات، فهو “شيء لا يعرفه” إن كان لنا أن نؤول تصريحه، وهو كما سيتبدى صنيعه في الفيلم مشغول بحكاية سنودن نفسه مقارباً له في سياق ما تأسست عليه أفلام هامة قدّم فيها شخصية مفصلية في تاريخ أميركا كما هو الحال في “جاي. أف. كاي” 1991، و”نيكسون” 1995، و”دبليو” 2008 بما يجعل هذه الشخصيات كشافاً استثنائياً للسياسة الأميركية وخفاياها مع حسه النقدي الذي لم يقع يوما بـ “البروباغندا” وثنائية “مع وضد” ذلك أنه يعتمد أولاً وأخيراً على الوثيقة والبحث، فالنقدي والإشكالي لدى ستون كامن بالمقاربة وزاوية الرؤية بالأساس.

لكن يبقى سنودن ليس بنيكسون ولا كيندي ولا بوش الابن، فالأول لا يحتمل أي ملمح من ملامح الشخصية التراجيدية، كون الأفلام المذكورة عن رؤساء ارتبط كل منهم بحقبة طبعها بطابعه وكان له أثر دامغ في التاريخ الإنساني، فيمكن لستون أن يصور نيكسون يأكل قطعة لحم فيجعل فمه “غرافيكيا” يقطر دماً كون الطائرات الأميركية تقصف فيتنام أثناء تناوله الطعام، ولنهاية كيندي المأساوية أن تكون ذروة سياسات أميركية ومعبراً لمعاينة المؤمرات والصراعات في دهاليز الإدارة الأميركية، بينما يركز في “دبليو” على عقدة الأب لدى بوش الابن. مع سنودن ما من مساحة لذلك، نحن أمام موظف في وكالة الأمن القومي يمتلك نبوغاً معلوماتياً قاده إلى هذه الوظيفة التي يتلقى لقاءها راتباً كبيراً ومزايا استثائية، إلى أن يقرر التخلي عن كل شيء وفضح ما يتعارض مع الأهداف التي وضعت لعمله، ما أدى إلى تحوله إلى ناشط حقوقي وسياسي مقرصن، يؤمن بـ “الشفافية” المصطلح الذي يتردد كثيراً في أدبيات “الهاكتيفست” المتمثل بحق كل إنسان الاطلاع على جميع معلومات المؤسسات العامة والحكومية وبالتالي فهو إما “بطل” أو “خائن” بمقايس الوطنية الأميركية، كما هو مانيغ وآخرون غيره!

لا يدخل فيلم “سنودن” في ثنايا ما تقدّم ولا يسعى لتبيان الأفكار العامة لمن هم مثل سنودن، كما هو الأمر مثلا مع فيلم بيل كوندن “المقاطعة الخامسة” 2013 عن جوليان أسانج حيث تتردد أفكار هذا الأخير هنا وهناك خبط شعواء كما هو إيقاع الفيلم الذي لا يأبه إلا بإعادة تجسيد المتداول عن أسانج وفق رؤية شريكه والمختلف معه لاحقاً دانيال بريغ، ففيلم ستون متأسس على نقاط تغير درامي في شخصية سنودن تكون ذروتها في قراره الإقدام على تسريب ما بين يديه في هايتي.

يتأسس فيلم “سنودن”  أولاً على فيلم لورا بويترس الوثائقي عن إدوارد سنودن “سيتزن فور” (اوسكار أفضل فيلم وثائقي لعام 2015) ويشكّل منه بؤرة درامية وزمانية بحيث ينطلق  من الحدث الرئيس في حياة سنودن المتمثل بتسليمه صحيفة “الغارديان” أكثر من 10 آلاف وثيقة سرية أميركية وبريطانية، وذلك في غرفة فندق صغيرة في هونغ كونغ، التقى فيها سنودن مع الصحافي غلين غرينوالد والمخرجة بويترس وليستعينوا بأون مكاسكل من الغارديان، بحيث جاء الفيلم توثيق لعملية التسريب التي استغرق العمل عليها أسبوعاً كاملاً.

يحوّل ستون فيلم “ستيزن فور” إلى أداة روائية ينطلق منها ويعود إليها في النهاية وما بينهما أيضاً، وحين يسأل سنودن من يكون؟ فإنه يبدأ بسرد حياته انطلاقاً من تطوعه في الجيش وإعفائه منه لتعرضه لكسر متبدل له أن يشير إلى هشاشة جسمه وعدم لياقته لصلف الحياة العسكرية، وعليه فإن يتنقل إلى وكالة الاستخبارات المركزية حيث تدار المعارك الأهم كما سيقال له، وهناك يظهر نبوغه المنقطع النظير وتبدأ مسيرته في دنيا حماية المعلومات وابتكار وإدارة أنظمة الحماية والتجسس وهو يتنقل من بلد إلى آخر، ويشكّل الحب كلمة مفتاحية في تصعيد الدرامي في الفيلم، والتغيير الذي يطرأ على شخصية سنودن الذي يكون بداية مهتماً أولا وأخيراً بخدمة بلده والدفاع عنه ولعل علاقة الحب التي تجمعه بميلز (شايلاني وودلي) ستلعب دوراً كبيراً في المتغيرات التي تطرأ عليه ومساحة الأفكار التي ستفتحها أمامه، فهما مختلفان سياسياً بداية: سنودن محافظ أما هي فأميل لليبرالية يسارية، ومع اكتشافه برامج التنصت على البشر في وكالة الأمن القومي فإنه سيبقى على ما هو عليه معتبراً أن ذلك سيمضي مع مضي بوش الابن عن سدة الرئاسة متفائلاً بقدوم أوباما، لكن بقاء الأمور على ما هي عليه واكتشاف حجم الكذب في الكونغرس سيقوده إلى فضح كل شيء.

 


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.