“شكرٌ للندم”
العدد 196 | 10 آب 2016
سحر عبدالله


“عمر الحب طوال مدة التحمل” أقتبس هذه العبارة من رواية الشاعر والكاتب السوري عادل محمود “شكرٌ للندم” الصادرة عن دار التكوين في دمشق 2015، وهي تأخذ قارئها في رحلة تذكرٍ وتنقيبٍ في أوراق أٌهملت  قصداً لعقود متتالية، وها هي تظهر إلى النور فتتنفس رئات أصدقاء الندم والغياب والعشاق الخائبين.

نشهد في الرواية ولادات ونهايات سير متخيلة أو حقيقية لا فرق! حين تمتزج بذور الحكايات وتنتهي بشكلٍ يبدو حتمياً ومشتركاً؛ والخسارة بكل مواصفاتها الكاملة من ألمٍ وحزن، بينما القلب مستعدٌ لصعودِ جبالِ التجريب بقدمين تتأبطان أحذية النسيان حدّ الاهتراء.

 يعبرُ شريط الخسارات في الرواية كما في فيلم سينمائي، يتقدم ويعود في الزمن انتقائياً، وهو يأتي من خسارة جيل أحلامه وتطلعاته في التغيير، محمّلاً بسخرية الكاتب في استلهام لرؤية بوذا عبر القول:

” كفوا عن يقين بأن العالم بحاجة لتحسين، حسنوا أنفسكم وسيغدو العالم أفضل” لكن العالم كما نعرف كبشر ولدوا في جغرافيات بائسة لن يكون أفضل حتى لو اكتفينا بمجرد تحسين أنفسنا بالثقافة مثلاً.

نقرأ في الصفحات الأولى من رواية محمود عن اقتحام المخابرات لغرفة شاعر”فيما هم يبحثون وجدوا كرتونة مغلقة. فتحوها بلهفة وخوف فضولي: الكرتونة مليئة بدفاتر وصور قديمة. رفسها أحدهم، بعد أن اندلقت الرئتان والقلب وبعض الذكريات الواضحة لأشخاص كانوا يبتسمون في الصور، وهم يحدقون في حياةٍ ما أمامهم. وفي الرفسة الثانية، تم الدوس، بوحل الحذاء، على أوراق تبعثرت، وقال الرافس: هذا بيت كلب لغوي. وعلق الثاني: ولهذا نحنُ ندوس على هذا النباح”.

ألا يختصر ما تقدّم نظرة السلطات العربية لمفهوم الثقافة سواء عارضت أم لم تعارض؟ إنها نباح لغوي لا يستحق سوى الرفس والسحق.

 نمرُّ على خسارات الحب الأولى حيث تنطفئ حرارة القلب الطري والفتي في مهب رياح التقاليد والأعراف البعيدة عن التسامح، وهنا يسخر الكاتب مرة ثانية وثالثة ورابعة من بلادٍ كثرت فيها الأديان والطوائف بالتوازي مع صعود الكراهية وموت الجمال شهيداً رخيصاً لا يجد من يفديه إلا حفنة من الخائبين والخائبات.

نسافر في أوراق حسين الفدائي الفلسطيني الحالم القديم بهانويات (نسبة لهانوي فيتنام) لا تنتهي إلا بتحرير القدس وثورات غيفارية ستحرر القارات والمحيطات. وفي أوراق حسين يستعرض الكاتب تلك المرحلة  الزمنية والتي سمّيت في الكثير من الأدبيات بمرحلة النهوض العالمي من سقوط ديكتاتوريات في أماكن كثيرة من العالم واستقلال الدول العربية متبوعاً بصعود حركات تحررية متنوعة التوجهات كان لليسار حصة كبيرة منها.

ينتهي حسين وهو فدائي الأمس إلى دهانٍ يرسم شعارات المقاومة والكفاح المسلح على جدران الكثير من مؤسسات المقاومة وأبنية الممانعة في دمشق. وتنتهي أحلامه الخرافية الشقية في أن يصبح ثرياً مرة واحدة للأبد بدوران دولاب الحظ المشتهى في مغامرتين شبه خياليتين يحاول في الأولى بيعَ رُقمٍ منسوب للإمام علي إلى أكثر من يمكن أن تهمه هكذا لقية ثمينة لها دلالتها الدينية أي “حزب الله”  في لبنان. بينما يسعى في الثانية إلى بيع لوحة أصلية منسوبة  لـ ليوناردو دافنشي، إلا أن أقدار حسين مربوطة بصدف التعاسة  فها هو يُعتقل في أنطاكيا بعد سرقة اللوحة منه وبيعها بـ ١٨ مليون دولار أمريكي لتاجر لوحات سيتدبر سرقة اللوحة، والتخلص من شهود الصفقة بأشكال مختلفة تصل حد قتل الوسيطة المحلية مريم بحادث سيارة في أنطاكيا.

ستعجز صعقة كهرباء عن قتل حسين، إلا إنها ستطرحهُ أرضاً وتترك علاماتها فيه على ما يشبه الحلم العربي والفلسطيني باستعادة الأرض المغتصبة.. حلم فدائي يتواضع شيئاً فشيئاً ليمسي دهاناً فمغامراً يسعى وراء الثروة، ثم عامل كهرباء وليصبح في النهاية عاجزاً محطماً.

يقتصر الحضور الأنثوي في الرواية على راما وسلمى الناشف، الأولى فنانة غير موهوبة إلا بجمال جسدها الفطري الذي غطى لفترة لا بأس بها على انعدام إمكانياتها المعرفية والفنية، بينما تكون سلمى الناشف طبيبة عيون ساعية لانتقام يشفي كبرياءها المفجوع باغتيال والدها بشكل تراجيدي من قبل السلطات السورية. سلمى التي تتسلل لحياة الراوي بشكل ذكي كي تنتقم عبره من السلطة/ الطائفة التي يتحدر منها الراوي/ المعشوق لاحقاً.

ستقع سلمى في غرام الراوي عبر مشهدية مؤثرة من جلسات التعارف واللقاءات والأحاديث الهاتفية المميزة التي يتخللها تبادل معرفي يمتد من تراث المنطقة ومناخ بيتها المشبع بالشعر والخطابة وقصص التراث إلى التراث الغربي من موسيقى وشعر مع تخصيص لريلكه شاعر والد سلمى المفضل  وشاعرها أيضاً.

تتأسس رواية “شكر للندم” على الذاكرة، على نبش تاريخ من الخيبات، وهي لا تفارق التاريخي، وفي التنويه الذي يتصدرها ما يهيّء لذلك، فهي “ترصد أحداثاً دارت في الفترة الزمنية بين ثمانينات القرن الماضي وحتى سقوط بغداد2003.”

يستكمل عادل محمود في “شكرٌ للندم” ما بدأه في روايته الأولى “إلى الأبد ويوم” هو الذي عُرف شاعراً من أبرز شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في سورية، ولتشكّل هذه الرواية – رغم تعقبها الخيبات – دعوة لاقتراف الحياة بشجاعة ومغامرة من دون أي ندم إلا على أمر واحد ألا وهو: عدم القول لمن نحبهم كم نحبهم في الوقت المناسب وبالشكل الكافي. إنها رواية يهديها محمود إلى كل أصدقاء أزمنة الندم والحب متضمنا ً نفسه، وليهدينا بلا أدنى شك كتابا ممتعاً لا يبعثُ ندماً رغم مرارة المكتوب. 

اسم الكتاب

شكرٌ للندم

اسم الكاتب

عادل محمود

الناشر

دار التكوين – 2015


كاتبة من سورية مقيمة في بريطانيا.