“كلاب المناطق المحررة” طنينُ ذبابة نجت من القصف
العدد 228 | 10 آذار 2018
طارق إمام


(1)

كما لو أن السرد فقد بصره، تتلمس رواية “كلاب المناطق المحررة” لزياد عبدالله العالم عبر”الصوت”. فقط الصوت، وكأن واقع هذه الرواية ارتد إلى ما قبل ظهور “الصورة” على شاشة العالم. هذه روايةٌ تتعكز على هدي أصوات قصف لا تُرى آلته، ونباح كلاب أثيرية لا تتجسد أجرامها، وعبور غير مرئيين يُقتفى وجودهم بنثار حناجرهم، رنين هواتف نقالة تموت وتحيا حسب حياة الصوت وموته على الجانب الآخر، وزقزقة عصافير غاضت أجسامها، وعالم تتسرب أخباره بل وكائناته عبر أجهزة الراديو، فقط أجهزة الراديو.

إنه المجاز العميق للحرب، وهي هنا الحرب السورية، التي تقاربها هذه الرواية الصادرة مؤخراً عن دار “المتوسط” بميلانو، ببنية شعريةٍ لا لبس فيها تتجاوز لغة السرد إلى التشكيل الأشمل لمجمل طريقتها في ترميم محكياتها وفق قانونٍ شعري يتململ من الكنائي ويخاصم انسجام الرؤية الخطية لسردية العالم. الحرب هي غياب الصورة وحضور الصوت، هي تلمُّس الخطر بالأذن. هي تحول الفرد إلى غير مرئي إن أراد اتقاء رصاصة القناص، هي الأشخاص الملثمون والهويات المستعارة والأسماء المزيفة (السارد هنا لا اسم له، واسمه الوحيد المتاح هو اسمه المستعار). النجاة في الحرب رهينة النور المطفأ لكي لا ترى الدانة هدفها. لا وجه ينجو في الحرب. لا نجاة إلا بإعتام “الشكل”. من هنا تستمد “كلاب المناطق المحررة” مجازها العميق والواعي بالاتكاء على الصوت: الصوت الذي يختزل ذواتها، بل والذي تستلهم بنيتها الأشمل منه.

 نحن، مبدئياً، أمام سارد بلا اسم. سارد تخلّى عن اسمه طوعاً في الخطاب الروائي بعد أن فقده قسراً حين اضطر لكتابة مقالاته المناوئة باسم مستعار. ساردٌ يطوف بسيارته أطلال مدينةٍ أقرب للبائدة، كأن العالم أصبح صورة يعكسها الزجاج. رحلة تستغرق يوماً أو بعض يوم، غير أنها تفيض عن زمنها الروائي لتسترجع زمناً أبعد، كأن هذه الرواية شجار أزمنة يُستعاد على طاولة شجار أصوات فقدت ذواتها وجوهها، حتى صار الوجه نفسه محض “صورة” يمكن تثبيت شريط أسودٍ مائل في طرفها، وكأن الحياة جدار.

(2)

ثلاثة صافرات قصيرة  متقطعة، ثم صافرة طويلة: إنها “اللازمة” الصوتية التي تلازم السارد في تجواله، لا يكف عن تكرارها كأنها الصوتُ الذي يختصر تجسده. مقطوعةٌ مرتجلة هي إيقاعه الخاص، هي “عبارته” التكرارية غير المكتوبة. غير أن هذا الإيقاع يتجاوز تكراره كتلفظٍ خارج اللغة ليجسِّد نفسه كبنية لهذا الخطاب الروائي: فثمة ثلاثة محكيات/ صافرات تؤتىَ متقطعة قصيرة في مقاطع كثيفة بعناوين فرعية متضمَّنة، تُحيل مرةً بعد مرة للمحكية/ الصافرة الطويلة وتصب فيها. كأن هذا النص كله هو اتصال تلك الصافرات الأربعة وكأن فجواته المقصودة كهوّات هي الوقفات بينها حيث يضع الصمتُ المفردات في جُملة قابلةٍ للتعاطي فضلاً عن توفير إيقاعيتها، جملةٌ هي هنا الرواية كلها. 

 يحوّل الراوي بنية صافراته كنظامٍ علاماتي غير لغوي إلى شكلٍ سردي ينزاح عن البنية الخطية للسرد التعاقبي،  بترجمة الصوتي كملفوظ شفاهي إلى تجسيد لغوي مادته التدوين، خاصة مع اعتراف السارد بأن النص الذي بين أيدينا هو “كتابته”، فنحن أمام “ميتا رواية” تعلق على نفسها، تكتب نفسها إن جاز التعبير مُراوحةً بين سياقها الإيهامي كواقع فني وذهنية إنتاجها النقدية في إدراكها للنص بوصفه خطاب متخيّل.

المحكيات الثلاثة المتقطعة هي محكية الأخوان “نجوان وبرهان”، ومحكية القناصين “أبو المجد وميسي”، ومحكية “سمر وحسّان”. إنهم “الأزواج” الذين قرر نوح هذه الرواية انتشالهم في سفينة تنجو من طوفان الحرب كسردية شفهية لا تستبقي ذاتاً، إلى شاطئ السرد كتدوينٍ باقٍ يحفظ حتى للأشباح نجاةً ما. محكيات/ صافرات ثلاثة تحيل طوال الوقت لصافرة هذا النص الممتدة: رحلة السارد الأخيرة نحو إبراهيم لحظة موته، فيما يبحث عن هدى، امرأة حياته وحبه المستحيل الضائع. 

لا تعدم الرواية صافرات أخرى، أشد قصراً وابتساراً، تغذي الفضاء الدلالي العام، دون أن تطمح في اتصال “درامي” بنهر المحكية الرئيسي، كمحكية المجند الذي يمزق صورة السيد الرئيس، أو الزوجين المتفاحشين، إنها المحكيات التي تعمل كروافد دلالية تبطن الأفق الاستعاري للمحكيات الرئيسية وللخطاب السردي في فضائه النهائي.

 

ثمة على المستوى “التشخيصي” ثلاث صافرات أخرى تحيل لصافرة طويلة: مثلث “خالد” و”ناصر” و”مصطفى”، أشباح الطريق العالقين بعد اغتيال قائدهم، وهو المثلث الذي يكشف عن “الأنا” الساردة بوصفها صافرة هذا النص الطويلة كمنصةٍ للتلفظ، بل والتي يجري تعريفها روائياً، بلا مواربة، بوصفها “آلة لإنتاج الصوت”. شخصيات ثلاثة متطابقة، (كالصافرات التي تمثل إحداها تكراراً للأخرى) لا يكاد يفرق بينها سوى أسماؤها، تحيل لصافرة السارد الذي نعرف عنه حثيثاً ما يجب أن نعرفه، لكن دون أن يُسمح لنا، لتعميق المفارقة، بمعرفة اسمه.

^^^

جميع ذوات هذا النص الروائي هم، فقط، ما يتمثلونه، ويمثلّونه من ثم، من أصوات.

الراوي، مبدئياً، يحصل على بطاقته كهويةٍ فنية بوصفه “آلة لإنتاج الصوت”: “حين رأت فيّ آلة موسيقية، عزفت عليّ، فخرج منّي ما هو متسق وموسيقي ومُحلق. هدى جاءت، واستخلصت مني ذلك”. 

بدورها، فإن “هدى” هي “موسيقية كل شيء” “تتنقل بين البيانو والقانون والعود”. هي أيضاً وجودٌ مختزل في ما يستطيع أن يستخلصه “بنائياً” من الصوت “الثقافي” وليس الصوت الطبيعي.

تُبنى شخصية “حسان”، الثوري القادم من تقلبات حياته كملول لا يُكمل لنفسه “هوية”، على صوته “غير الإنساني”، والذي يبدو أقرب ما يكون للأصوات الممسوخة التي تنطق بها الدمى في أفلام الأطفال.

ثمة حوارية بين نمطين من الصوت: الصوت الطبيعي يمثله “النباح” والصوت الثقافي تمثله أغلب الذوات الرئيسية في هذه السردية: عزف إبراهيم وهدى، وغناء نجوى وقصائد السارد .أي شخصيات روائية تلك التي لا يمكن التعرف إليها سوى من خلال أصواتها؟ إنه سؤالٌ ملح يدعمه كون “كلاب المناطق المحررة”، لا تتوفر على وصف “شكلاني” لأي من شخوصها.

حواريات  يرتق السارد مزق خطابه الروائي عبر تقاطعاتها، مراوحاً بين ضميري المتكلم والمخاطب كأنما يجسر الهوة بين الأنا والأنت ويعمقها في آن، فكل “أنا” في هذه الرواية هي “آخر”، ليس في مرآة ذات أخرى، بل أمام نفسها بالذات. سارد ضرير وإن احتفظ بعينيه، تعمل أذناه فقط فيما لا تميز حدقتاه النهار من الليل، حد أنه يضئ مصابيح سيارته في عين الشمس، ليُنشئ نصاً قوامه “المؤثرات الصوتية”، وكأن جسد العالم ذاب مُختزلاً في فوضى أصدائه.

 يفجر اندلاعَ الصافرات الأربع لـ”كلاب المناطق المحررة” اندلاعُ نباح الكلاب من المذياع أثناء استغاثة أحد المواطنين. يتوزع “الصوت” (وهو هنا صوت الغريزة العمياء وليس صوت الثقافة الاصطناعية) على المحكيات الأربعة الرئيسية: نباحٌ يظلل الطفلين اللذين خرجت أمهما ولن تعود لأنها قُتلت، نباحٌ يوقظ الصوت الغريزي، ويحرض على تساوق الصوت الثقافي على حد سواء، بعيداً عن الانحياز “القيمي” وبمعزل عن “الأخلاقي”، بحيث يتساوى عنده نجاح الأعيرة النارية للقناص في اصطياد الأرواح مع تساوق العزف على البيانو، وينسجم تناغم بكاء طفلين اكتمل يتمهما مع أصوات اللذة الفاحشة لزوجين عثرا على “النغمة الصحيحة” لجسديهما. عما قليل، ستشتجر كافة الأصوات. ستنسحب الكلاب (وقد أدت مهمتها) لتتقاطع الأصوات في البنية الخاصة للنص، حتى تصبح جزءاً من المكوّن الجوهري للذات الإنسانية، بحيث تصبح الصوت الوحيد الممكن، مع حلول السطر النهائي من الرواية: “نباح ألف ألف كلب في أذني”.

لكن اتساق الأصوات لن يفضي سوى إلا ضياع أصحابها لحظة اكتمالهم. اكتمال الصوت في “كلاب المناطق المحررة” يؤذن بانتفاء الوجود. سيفنى إبراهيم وتموت نجوى وتضيع هدى ويُنبذ الزوجان ليُطردا من جنة الاتفاق كآدم وحواء فردوسهما هو الحرب، حيث يدعم نهوض أصوات القصف (صوت الثقافة) تبجحات اللذة (صوت الغريزة) كونها تطغى عليها فتخفيها عن آذان المتلصصين.

(3)

بسردٍ متقطع، تلتئم المحكيات الثلاثة مع المحكية الإطارية، في قلبٍ لمنطق “ألف ليلة وليلة”، فهذه المرة ترتد المحكيات المولَّدة إلى الحكاية الإطار لتلتئم بها، بدلاً من أن تخرج عنها لتبدأ حياتها الخاصة بمعزل عن حبكتها. ثمة الطفلان، اللذان خرجت أمهما ولم تعد، يخرجان بفعل الجوع بحثاً عن كسرة خبز. هناك القناص “أبو المجد” الباحث عن أهداف بشرية ضمن صراعه مع نده “ميسي” الذي حصل على هذا الاسم لمهارته في إصابة أهدافه بدقة متناهية كنظيره لاعب الكرة الشهير. وهناك “سمر” التي تقع في غرام قاتل زوجها الضابط، والذي يقع بدوره في غرامها فيتركها تنجو لحظة وقوع عينيه على عينيها. تكتمل المحكيات الثلاثة على مهل، منثورة في لُحمة المحكية الرئيسية، قبل أن تلتحم بها. لن يلبث “أبو المجد” أن يصيب أحد الطفلين، قبل أن تعثر عليهما هدى وتقرر تهريبهما خارج البلاد. كذلك نكتشف أن العاشق مخفي الوجه هو نفسه “حسان” صديق الراوي قبل أن تتراءى سمر للراوي ليصبح الشخص الوحيد القادر على رؤيتها وقد صارت في جنونها الأخير غير مرئية. تنضم “سمر”لنجوى، المطربة صديقة ابراهيم، ولهدى عشيقة الراوي، في صف نساء الرواية المغدورات بقصص حب لا يمكن أن تكتمل مع رجالٍ فقد كلٌ منهم شيئاً من مادة رجولته: يقف صوت حسان المخنث أمام اكتمال العلاقة، مثلما تحول مثلية إبراهيم (التي يوحي بها مشهده النهائي في ملابس امرأة)  دون اتصاله بنجوى، فيما تحول مازوخية الراوي (وقد عذب مرتين في سجون الأب والابن) دون أن يصير رجلاً لهدى.

السارد بدوره ينهض بنصٍ يطيح بأكذوبة الإيهام، محطماً الحائط الرابع إذا ما استحضرنا الأفق البريختي، لنصبح أمام ما يشبه “العرض الروائي” الذي لا يكف فيه السارد عن مخاطبة “متلقيه” كأنه حاضر لحظة العرض نفسها: “ينصح بأن تتذكروا هذه الحقيقة”. سيذكر الراوي دائماً بنفسه كجزء من اللعبة الفنية: “وأنا من جانبي، لم أمت، لولا ذلك لما أكملتُ السرد! ألست أنا الراوي أم ماذا؟” كذلك يعترف أنه بصدد نصٍ مكتوب: “الكتابة هنا تتيح لي أن أسترسل”.

مزقٌ سردية تُحاكي ذواتها الممزقة، يتشكل منها المشهد السردي المتشظي لهذا النص الذي يخاصم، بلا مواربة، أدبيات التساوق والاضطراد الخطي الأمن والاضطراد التعاقبي الذي يتخيل السرد محض محاكاة للزمن الكرونولوجي.

لا تتحرك “كلاب المناطق المحررة” وفق بنية خطية تتوخى الاضطراد التعاقبي، بل تتشكل بنيتها ببنيةٍ كولاجية، بنية إرجاء دائمة، بحيث يُقطع المشهد بمشهد قبل أن يلتئم، وتقدم الشخصيات كبروفايلات سريعة قبل أن تعود للظهور.

 لا تطمح الرواية للنهوض بنصٍ كنائي يسهل فضه _ وردّه من ثم _ لمقولة أولية اكتست باللحم والدم الوهميين لشخوص الرواية الورقيين، لكنها نص استعارة، يخلق واقعاً افتراضياً، متصلاً في الحقيقة بوجه آخر عميق للحرب في واقع ما بعد الحداثة: فالصورة الوحيدة المتاحة للحرب لا يراها المتورطون فيها، بل المشاهدون أمام الشاشات.  حرب الواقع ما بعد الحداثي هي نصٌ لا ينجو فيه سوى المتلقي، لأن صُنَّاعه (من المنتصرين والضحايا على حد سواء) يقضون فيما يحولون نصهم إلى سلعة، والأدق أن موتهم بالذات هو شرط تحول نص الحرب إلى سلعة قابلة للتعاطي. الحرب عرض للمتفرج الآمن، واقع افتراضي لا يميت متفرجيه، وهي هنا واقع افتراضي أيضاً، يصل بذواته إلى تخوم العبث واللامعقول والفانتازيا: امرأة تحلق طيور فساتينها في سماء المدينة وفي غرف العشق، أخرى تتحقق رغباتها فور التفكير فيها على يد إله مجهول يرقب رغباتها كأنما يعيش بداخلها، شخص يرفض الموت أن يمد له يداً، فينجو، قائد عسكري يكتظ كرشه بالقصائد المقفاة (وحيث قداسة النص هي نفسها قداسة البندقية).

تقارب “كلاب المناطق المحررة” سؤال الحرب بكل عتادها من السخرية السوداء واللامبالاة التي تغلف حرباً أخرى تدور رحاها تحت جِلد الذوات، لا فقط لتنهض في وجه آلتها، بل لتنهض أمام عديد النصوص الزاعقة والدعائية التي أخمدت المحكية الإنسانية السورية لتدعم زعيق السياسي من حيث يجب أن تناوئه. الانحياز في “كلاب المناطق المحررة” للفرد، عبر محكيات صغيرة تقرأ السؤال الكبير من الأبواب الخلفية، من دروب العتمات الضيقة ونثار الأرواح العابرة، وهي لهذا أقرب بنائياً ورؤيوياً لنصٍ شعري مفتوح على التأويل وظلال المعنى.  نص تفكيك، بدءاً من بنيته غير المنسجمة اتصالاً بأفقه الدلالي “الجيرنيكي” إن جاز التعبير. نصٌ يسرده صوت أقرب لطنين ذبابة نجت من القصف، صوتٌ هش غير أنه كفيل “بإيقاف الضحك”، ذلك أن أثر “الذبابة”، إن جاز التحريف، قادر على تحريك العالم، الذي ضاق حتى لم يعد أكثر من كوب يتخبط بين جدرانه الصوت المحتضر لذواتٍ تحاول عبثاً الخروج، بحثاًعن سماء، أو مقبرة.

 عن موقع “ضفة ثالثة” http://bit.ly/2tp9OvA

 

 

اسم الكتاب

كلاب المناطق المحررة

اسم الكاتب

زياد عبدالله

الناشر

المتوسط


روائي وقاص من مصر. من رواياته: "شريعة القطة"" 2003، و""هدوء القتلة"" 2007، و""الأرملة تكتب الخطابات سراً"" 2009، و""ضريح أبي"" 2013 وروايات أخرى. ومن مجموعاته القصصية: ""طيور جديدة لم يفسدها الهواء"" 1995، و""شارع آخر لكائن"" 1997، و""حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيه"" 2010 ومجموعات أخرى."