هم الكلاب”..مجهول يأتي من الخبز إلى الربيع”
العدد 144 | 09 كانون الثاني 2014
زياد عبدالله


لا يمكن توقع فيلم لا يحمل مساحة تجريبية خاصة من المخرج المغربي هشام العسري، ونحن نتحدث هنا عن ثاني أفلامه “هم الكلاب”، وليكون هذا التوقع قادماً من أول أفلامه الروائية الطويلة”النهاية” 2010، والذي شكّل في مفارقة متعلقة بعنوان الفيلم بداية خاصة ومشرقة إن تعلق الأمر بالانحياز للتجريب ومعاينة مساحات سينمائية جديدة. 

في فيلم “هم الكلاب” يمضي العسري في تتبع هذا الهم، ورصد السياسي والتاريخي في تناغم مع التجريب وآليات السرد، ولنقع هذه المرة على شخصية جديدة خارجة من غياهب الزمن الذي فرض عليها قسرياً، بمعنى كون هذه الشخصية تعود إلى السجين السياسي واسمها “مجهول”، وبالتالي فإن مقاربة التاريخي والسياسي ستكون من حيث الخيط الناظم شبيهة بما صنعه العسري في “النهاية”، فكل ما نشاهده وما نستقبله من حكايا ومعطيات درامية في “هم الكلاب” تأتي من حدث رئيس وقع في الماضي، وبالتالي فإن حاضر الفيلم سيكون متشكلاً وفقاً لهذا الماضي الذي نكتشفه في الجزء الأخير من الفيلم، ألا وهو ما عرف بـ “انتفاضة الخبز” التي كانت تطالب بالإصلاح والتغيير في المملكة المغربية عام 1981، بينما قدّم العسري في “النهاية” نهاية متمثلة بوفاة ملك المغرب الحسن الثاني.

في “هم الكلاب” ستكون أحداث الفيلم هي رحلة استعادة لحياة مجهول (جسد الشخصية بأداء رائع الممثل حسن باديدة) وبكلمات أخرى اكتشاف هذا المجهول ليصير معلوماً، هو العائد من الموت واللا موت في آن معاً، كما أن الحديث عن الانتفاضة لن يتكشف إلا مع نهاية الفيلم، من دون أن ننسى أن الفيلم يبدأ مع “الربيع العربي”، فمجهول يخرج من غياهب الزمن ليشهد هذا “الربيع”، وليتأسس كل شيء وفقاً لطاقم تصوير تلفزيوني يصادف مجهول هو الذي يحمل عجلة دراجة طفل صغير، يكون قد خرج ليصلحها لابنه ومن وقتها لم يعد إلى البيت.

سيستثمر العسري في البناء على طاقم التلفزيون، فيجعل من تصوير الفيلم كاملاً قائماً على كاميرا محمولة، وما نشاهده ليس إلا ما تصوره الكاميرا التلفزيونية في ملاحقتها مجهول، وبالتالي فإن منطق التصوير كاملاً هو لكاميرا محمولة، وفي استجابة كاملة لما يفترضه هذا الخيار من تحديات، لا بل إن محاولة سرقة هذه الكاميرا ستجعلنا نرى ما تبثه الكاميرا بينما يحملها السارق ويركض بها، وحين تقع على الأرض فإننا سنرى ما تصوره وهي مرمية على الأرض.

 

أعود إلى فيلم هشام العسري “النهاية”  الذي صوره بالأبيض والأسود، وتحديداً إلى المشهد الافتتاحي للفيلم ونحن أمام شارع مقلوب وسيارات تمضي عليه مقلوبة ايضاً، الكاميرا الذاتية تفتتح الفيلم إذ إننا نرى كل شيء بعيني الشخصية الرئيسة ، فهو على سقف سيارة شرطة ورأسه متدل منها، وحين نعود إلى المشاهدة بكاميرا موضوعية فإن تلك الشخصية تكون قد وصلت مع موكب الشرطة إلى مكان مخصص لإتلاف المخدرات، حيث سيقوم بالصعود إلى سطح المكان الذي تتلف فيه ويبدأ باستنشاق ما ينبعث منها.

أورد ما تقدم للتأكيد على أن ما يشغل العسري في فيلمه الأول، هيمن على فيلمه الثاني “هم الكلاب” أي سرد الكاميرا، وكيف لها أن تروي الحكاية ومن أي زاوية، ولتكون هذه المرة عبر الكاميرا المحمولة واهتزازتها والتي تضفي أيضاً ملمحاً تسجيليا على الفيلم، ونحن نلاحق مجهول من مكان إلى آخر، مستعيداً حياته قبل اختفائه.


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.