“غرفة المسافرين” النجاة من حياة واحدة قصيرة
العدد 252 | 07 آذار 2020
زياد عبدالله


يعاودني حديث عزت القمحاوي عن الأصابع في “الأيك في المباهج والأحزان”، وأنا أقلّب جديده “غرفة المسافرين” (الدار المصرية اللبنانية – 2020)، وخاصة مع تصديره الكتاب بالقول إن “من لم يسافر، ولو عبر قصة في كتاب، لم يعش.” ولئلا يُتهم بالمبالغة والشقاق مع القارئ فإنه يعدّل عبارته إلى “من لم يسافر، ولو عبر قصة في كتاب، لم يعش سوى حياة واحدة قصيرة.” فيتناهى إليّ بأنني في صدد القيام برحلة في أصقاع وأمصار الأرض بالأصابع وهي تقلب صفحة فأخرى، وفي هذا ما يضيف ملمحاً من ملامح ما أورده القمحاوي في “الأيك..” عن الأصابع ووقعها أو  بما يضيف وظيفة من وظائفها، ألا وهي تقليب الكتاب، والانتقال بنا من صفحة إلى أخرى، وبالتالي السفر والمساهمة في نجاتنا من عيش حياة واحدة قصيرة.

ومع توصل القمحاوي إلى ما يتطلبه السفر من إعداد فيزيولجي بقوله إن المسافر يحتاج “إلى ساقين قويتين تحملانه وذراعين قويتين تجران الحقيبة، ومعدة قوية تستجيب لنزواته، وما لا أدري من مظاهر القوة اللازمة لإشباع رغباته، لكنه يحتاج إلى عينين أكثر من كل شيء.”، فإنه يجد المنطلق من القصة/الرواية، وتحديداً من  رواية توماس مان “موت في فينسيا” وأمير أنطوان اكزوبري الصغير، وليطل برأسه الميتافيزيقي مع نوح وسليمان وجلجامش مع القول إن السفر هرب من الموت ووحدها رحلة نوح تكللت بالنجاح، ولتندمج هذه الاطلالة بالواقعي، لكون الهرب من الموت مستحيلاً، بل عملية استئناس لذلك العدو أي الموت، فالرحلة “عرض لطيف نقوم فيه بأدوار الموتى، ثم نخرج منه سالمين سعداء، مثلما يغادر الممثل المسرح عائداً إلى بيته بعد أن رأيناه يسقط مقتولاً.” ويمكن للمطار في هذا السياق أن يمسي برزخاً، ومن ثم ينفصل المسافر عن الأرض، خفيفاً  كريشة في الهواء، للقيام بدوره في تمثيل الحياة على متن طائرة، ومع الوصول تكتب النجاة من موت مؤقت في الأعالي.

في كتاب “غرفة المسافرين” ثمة مدن حزينة وسعيدة، ومدن تمتهن صنعة القوة وأخرى صنعة الجمال (دمشق/ روما)، مروراً برحلة رفاعة الطهطاوي إلى باريس، وكل من غوستاف فلوبير ونيكوس كازنتزاكس إلى القاهرة. ومع الوصول إلى القسم المعنون “مكتوب على جدار القلب”، والافتراض الذي يشارك فيه صاحب “بيت الديب” القارئ ومفاده أن “السعداء لا يكتبون”، يتوالى السرد عن مدن بعينها مثل روما وفينسيا ومدريد وبرشلونة وصنعاء وغيرها، لكنها على ما يشير التقديم على الأقل أماكن خلت من سعادة قصوى فما هو مكتوب هو عن أمكنة “أتاحت فسحة من ألم أو شجن، فقد سجّلت ما تبقى من أثر لوخزها على جدار القلب”، وليختتم الكتاب بقيامة السياحة، طالما أن جيوباً قليلة لم تطأها أرجل السياح في هذا العالم المترامي، إلا إن تحقق ذلك سيكون قريباً وحينها سيرمي آخر سائح ياباني – وهو يقف على ربوة آخر قرية فضت بكارتها من قبل السياح- الكاميرا ويعود إلى بلده وتقوم قيامة السياحة!

 كتاب الروائي والقاص عزت القمحاوي “غرفة المسافرين” ينتمي إلى عدد من الكتب التي صدّرها بعيداً عن عالمه الروائي والقصصي، وإن وصفتها بـ Nonfiction فإن وصفي سيكون تعسفياً، لكونها تحتكم على مخلية وسردية لا تفارقانه وإن سعى إلى ذلك، كما هو حاله في “الأيك في المباهج والأحزان” و”ذهب وزجاج”، ولعل الاستعانة بعنوانه الفرعي “حكايات وتصاوير” في مجموعته القصصية “في بلاد التراب والطين” سيكون أقدر على إعطاء صورة عن منتوجه خارج تجربته الروائية والقصصية الآسرة، إنه يحكي في تلك الكتب ويصوّر شخصيات من لحم ودم، ويخرج علينا بخلاصاته حياتياً وإبداعياً، وليجد لها على الدوام منطقاً سردياً منفتحاً على شتى الروافد الغنية والمتشعبة، والمتأتية أولاً وأخيراً من ثقافته المترامية.          

اسم الكتاب

غرفة المسافرين

اسم الكاتب

عزت القمحاوي

عدد الصفحات

239

الناشر

الدار المصرية اللبنانية – 2020


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.