ثلاثة أفلام أوسكارية.. البؤس والمثلية والسطو على البنوك
العدد 206 | 07 شباط 2017
زياد عبدالله


تتسبب لي الأفلام الروائية التي تنتهي بمشاهد واقعية/ تسجيلية ضيقاً أو انزعاجاً ما، ولا أعرف يقينا ما مصدر ذلك؟ كذلك الأمر مع العبارة – الكليشه: الفيلم مأخوذ أو مقتبس عن أحداث حقيقية. منبع ذلك ربما شعوري بأنني تعرضت لخديعة ما، أو أن هذه العلاقة الملتبسة بين التسجيلي والروائي تطفو أمامي فجأة بعد أن كنت مستسلماً للحكاية وسردها السينمائي، ثم أليس الحديث عن حقيقة وواقع مصدر التباس بالتسجيلي نفسه فكيف بالروائي؟ وتأكيد المنبع الواقعي للفيلم يمضي أيضاً إلى تلك المنافسة الهشة بين الواقع والخيال، وأن في الواقع ما يفوق الخيال وهذا بديهي!

حسناً لن أستفيض أكثر في ذلك، أترك منبع ذلك لمقبل الأيام ومزيد من الأفلام وأنا أقارب الآن حفنة من الأفلام أولها  “ليون” Lion للمخرج غارث ديفيس (مرشح لخمسة أوسكارات من بينها أوسكار أفضل فيلم) الذي ينتهي بالمشاهد التسجيلية سابقة الذكر، كما كان عليه فيلم ميل غيبسون “هاكسو ريدج” وإن كان فرق شاسع يفصل بين ما يثبته الفيلمان من خلال ذلك. ينقسم “ليون” إلى قسمين: الأول هندي والثاني استرالي ولعل الدرامي والذي يأخذ المشاهد كل مأخذ ماثل في القسم الأول، لا بل إن الفيلم كل الفيلم كامن فيه، ليس لأن الحدث الذي تأسس عليه متواجد في ذاك القسم بل لأنه أيضاً المساحة التي تستنفر فيها كل أدوات المخرج السردية في أولى تجاربه الروائية الطويلة ونحن نتعقب سورو (سني باوار) وهو في الخامسة من عمره رفقة أخيه جودو والفقر ثالثهما، بينما تعمل أمه في تقطيع الحجر وحمله في قرية هندية نائية.

في علاقة سورو وجودو وما يبعدهما عن بعضهما تكمن بنية الفيلم، بينما يأتي الصراع في تحقيق لقائهما من جديد! فسورو يريد الذهاب مع أخيه ليعمل معه، وحين يمضيان فإنه ينام في القطار ويواصل نومه في المحطة بعد أن يتركه جودو قائلاً له بأنه سيعود إلا أنه لم ولن يعود وليصير انتظاره كما انتظار جودو (يلفظ جودوو في مدّ للواو في الفيلم)، وفي أثناء بحث سورو عن أخيه في القطارات يصعد قطاراً يمضي به وهو المسافر الوحيد على متنه محبوساً به لأيام والقطار حين يتوقف تبقى أبوابه موصدة آخذاً إياه ما يفوق الألف كيلومتر، وهكذا يصبح في إقليم هندي آخر “كلكتا” وتتغير اللغة ويدخل في نفق التشرد والجوع إلا أن يؤخذ إلى مأوى الأيتام ومن ثم تقع عليه إحدى الناشطات الإنسانيات فتوفر له أمر تبنيه من قبل عائلة استرالية بعد يأسها من العثور على أمه. وهكذا ينتقل للعيش في استراليا في كنف جون (ديفيد ونهام) وسو (نيكول كيدمان) ولنقع على سورو بعدئذٍ في الخامسة والعشرين من عمره (ديف باتل) وقد نجح تماماً في حياته الاسترالية عكس أخيه المتبنى أيضاً من الهند إلا أنه يصبح مسكوناً بمعرفة مصير أمه وأخيه وهكذا يصبح هذه الهاجس الفيلم كل الفيلم في ربعه الأخير مستعيناً بـ “غوغل إرث” وذاكرته للعودة إلى الهند وملاقاة أمه البيولوجية.

قليل هو الإشراق في القسم الأول من الفيلم، الإضاة تلعب دوراً حاسماً في نقلات الفيلم، يبدأ الفيلم بإضاءة عالية مشرقة وما أن يضيع سورو حتى تمسي داكنة، وليعود للإشراق في أستراليا وليتخلله الداكن وصراعات سورو على أشدها في مسعاه البحث عن أمه. أعود وأؤكد على أهمية الفيلم في قسمه الأول، حيث أغلب المشاهد ما لم تكن جميعها في مواقع خارجية متنقلة من أقصى الهند إلى أقصاها وكل شيء مترع بالبؤس أو كل ما لا تراه في أفلام بوليوود.

فيلم “ليون” متأسس على خطأ على تأخير وبالتالي ضياع، ويتواصل هذا الخطأ في اسم الشخصية الرئيسة في الفيلم فاسمه ليس سورو بل سارو وما الاسم الأول إلا ما بقي عليه الاسم كما لفظه وهو في الخامسة، وسارو يعني “أسد” في لغة الأوردو، ما يقودني إلى أسد منزوع الأنياب والمخالب في فيلم الأميركي باري جنكينس “ضوء القمر” Moonlight (مرشح لست أوسكارات من بينها أفضل فيلم) وما يستدعيه من ترقب لدي هو الذي صنع في 2008 “دواء الكآبة” فيلم استوقفني كثيرا حين مشاهدته، وليقدم في جديده “جبل بروكباك” الزنوج والملونين، وليبدو الحب خلاصاً  – الحب المثلي تحديداً –  فنحن حيال طفل اسمه ألكس ابن أم عزباء يتعرض لتنكيل أقرانه، فأمه عاهرة ومدمنة مخدرات، وليتولاه بعنايته تاجر مخدرات اسمه خوان يرأف بحاله معوضاً غياب الأب في حياة ألكس، وغياب الأم أيضاً طالما أن صديقة خوان تتولى رعايته حتى بعد مقتل خوان، وليتواصل التنكيل بألكس مراهقاً إلى أن يقدم على رد فعل واحد مبالغ فيه يكون بتكسير كرسي على واحد من العتاة السفلة في مدرسته وبالتالي ينتقل إلى الإصلاحية، وفي أثناء ذلك يخوض تجربة حب وحيدة تكون مع رفيقه بالمدرسة آزو يمارسان فيها الجنس على الشاطئ لمرة واحدة لا تتكرر. حين يخرج من الإصلاحية يكون قد تحول إلى رجل بعضلات مفتولة وقد أمسى تاجر مخدرات أيضاً وكل ما بقي من ماضيه هو حب حياته آزو الذي يعاود اللقاء به وليترك الفيلم أمام نهاية مفتوحة تقول لنا أن ألكس ما عرف رجلاً أو امرأة غير آزو.

أجمل ما في الفيلم هو مونتاجه والنقلات الزمانية التي يحدثها إذ إن الأفعال التي تشكّل منعطفات في أحداث الفيلم لا تظهر مثل مقتل خوان أو ما عايشه ألكس في الإصلاحية وهو منقسم إلى ثلاثة أقسام هي في النهاية حياة ألكس: طفولة ومراهقة وشباب، ولعل اللقطة الافتتاحية في الفيلم تقول ذلك، خوان عائد ليستقل سيارته فيمر من أمامه طفل يلاحقه أطفال آخرون يريدون النيل منه، الطفل هو ألكس ومن ثم يدور خوان في ذات المكان ليعثر عليه مختبئاً من الأطفال في مخزن أو بيت يخصه. المهم في الفيلم شخصية ألكس صمته ومشاعره وحبه فهو من الأطفال الزرق كما يروي له خوان عن طفولته بأنه يركض مسرعاً فمر من أمام عجوز فقالت له “لمَ أنت مسرع هل لتجمع الضوء؟.. الأطفال السود في ضوء القمر يصبحون زرقاً”.

أنتقل إلى فيلم ثالث هو “جحيم أو أمواج عالية” Hell Or High Water (مرشح لأربعة أوسكارات أفضل فيلم وسيناريو أصلي ومونتاج وأفضل ممثل في دور مساعد لجف بريدجز) إخراج الاسكتلندي ديفيد مكنزي صاحب Starred Up 2013  وPerfect Sense  2011، وليجد في ريف تكساس ضالته في جديده، وليكون “جحيم أو أمواج عالية” خالياً من تخبط “حواس تامة” لـ Perfect Sense إن صحت الترجمة وخلطته العجيبة، فهنا نحن حيال فيلم طريق له منطلق ومستقر، وبالتالي هي رحلات متتابعة، القصد منها السطو على بنوك تقع في بلدات وقرى في ريف تكساس يقوم بها توني (كريس باين) وتنير (بن فوستر) وهم لا يأخذون أموالاً طائلة بل “الفكة” بحيث يصعب تعقب تلك الأموال، وهكذا سيتنقلان من بنك إلى آخر، ولتبدو المناطق التي يتحركان بها قد عصف بها الكساد وتكاد الحياة معطلة والقرى مهجورة وليقوم بملاحقتهما الشرطيان ماركوس (جف بريدجز) وألبرتو (جيل بريمنغهام) يكون الأول على أعتاب التقاعد بينما الثاني فهو من سكان أميركا الأصليين (هندي أحمر)، ولتكون سرقات توني وتنير ذات هدف محدد يتمثل بتخليص أرض عائلتهما وذلك بجمع مبلغ من المال لتسديده إلى البنك الذي قاما بسرقة فروع له، وتبدو الحوارات بين ماركوس وألبرتو مدهشة، حيث أن هذا الأخير غير مشغول بما فقده وقومه من أراض عبر الغزو والسلب بل تلك التي تولت البنوك أمر الاستيلاء عليها.

يشكّل الفيلم رغم حركيته العالية والأكشن التصاعدي تأملاً بالواقع الاقتصادي الأميركي وبالتأكيد التاريخي متضمناً سياق الفيلم متعشقاً به طالما أننا نتحدث عن هنود حمر ورفقتهم الكابواي المعاصر سواء كان مصرفياً أو شرطياً أو سارقاً أو إنساناً عادياً، ولعل سيناريو الفيلم يشكّل عنصر القوة الأساس فيه وهو الذي كتبه تايلور شيردان الذي سبق وكتب فيلماً مميزاً آخر هو “سيكاريو” 2015 إخراج دينس فيلنوف.

يرسم فيلم “جحيم أو أمواج عالية” علاقة خاصة بين الأخوين إذ إن “تنير”جاهز للتضحية بحياته طالما أنها بلا أفق هو الذي قتل والده بـ “الخطأ” وأمه ماتت وهو بالسجن، حياته التي يجدها لا معنى لها أمام حياة أخيه توني وعائلته، كما أن الهندي الأحمر ما زال أول من يقتل، وطيلة مشاهدتي الفيلم كان هذا السطر لبرتولد بريشت يتردد في رأسي “سرقة بنك عمل للهواة، محترفو السرقة يؤسسون بنكا” لكن الأمر أكثر تعقيداً في الفيلم، فهناك من يسرقون البنوك ليدفعوا لها ما تسرقه منهم! إنه عن عائلة مشتتة متهتكة لكن دافع توني أن يحييها من جديد ويورث وليده أرضاً فيها بترول، ولعل تقابل المتناقضات في الفيلم يجعله ثرياً جداً، ولتكون هذه التناقضات متأسسة على طبقات فهي من جهة ماثلة في بنية الفيلم وحكايته إلا أنها ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وتاريخية وجميعها متصارعة فيما بينها تغيب وتحضر.

*****

خاص باوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.