تتشكل دوافع هذه المقاربة لكتاب الفنان والشاعر السوري إسماعيل الرفاعي “عند منعطف النهر” (إصدار الميادين للنشر – الشارقة 2021) من نوازع شخصية متصلة بي أنا صاحب هذه المقاربة! ولا أخفيكم أن في الأمر غواية كبيرة، غواية أن تكتب في دفتر وتصاحب ما تكتبه برسومات، متحرراً من أي قيد أو شرط، فالدفتر هنا حيّز شخصي، يوميات، مشاهدات، انطباعات سريعة، عبارات كيفما اتفق، في سياق أو من دونه، مع الانفتاح على شتى أنواع الاعترافات، وصولاً إلى الأحكام التي يسهل اكتشاف تسرعها وصوابها وسذاجتها وحقيقتها. وعليّ الاعتراف هنا أن هذا ما درجت على فعله منذ أكثر من 15 سنة، لكن بمصاحبة كولاجات ورسومات ليست برسومات بل خربشات، أستعيض بها عن فشلي الفادح في الرسم!
يحمل كتاب “منعطف النهر” ملمحاً بسيطاً مما تقدم، خيطاً وهمياً يوحي به، وعلى شيء من تحويل المفكّرة/اليومية إلى وسيط تشكيلي حامل للسيرة الذاتية، فنحن حيال رسام عتيد يرسم جداريات بأمتار مترامية، يودع في دفتر رسوماً لا تنفصل عن مفرداته البصرية في الجدارية، لكنه يرسمها وهو منكبٌّ عليها، وليس مواجهاً لها كما يفعل حين يرسم على القماش المترامي أمامه. ولأنه يرسم على طاولة أو مُسنِداً دفتره على رجله، فإنه يصاحبها بتدوين لابد أن يكون ممسوساً ومسحوراً بتكويناته التشكيلية، فتصبح الأحرف والكلمات مفردات بصرية أيضاً، آخذاً على عاتقه دمج تجليين، فيصبح الكتاب نفسه ثالثهما أو وليدهما.
في كتاب “عند منعطف النهر” الرسام يرسم أشعاره، والشاعر يكتب لوحاته، والفصل بينهما أمر مستحيل، أو كما يقول الرفاعي في مطلع كتابه “في الرسم ثمة دائماً حكاية مضمرة، وفي الكتابة ثمة دائماً ألوان مضمرة، لطالما كان هذا واقع الحال بالنسبة لي، ولطالما كانت الألوان التي أنثرها على سطح القماش، تشكّل في سرها ما يوازيها من حروف على الصفحات البيضاء”.
إنه يروي ذلك بحذافير جمالية، يدع للمشاهد/القارئ، أن يكون أمام مشهدية كتابية بصرية (للصفحات المختارة من الكتاب المنشورة في هذا العدد أن تضيء على ذلك)، أن يمضي في عوالم يتناغم فيها البصري مع المكتوب، لا بل إن هذا الأخير يمسي بصرياً أيضاً، بحيث تأخذ القراءة هيئة أخرى، لا تجعلها فقط فعلاً موازياً، بل اشتباكاً وتداخلاً مع اللوحات والمقترحات البصرية لجماليات الكتاب.
إنه “دفتر الطفل” حيث “ناي متقطّع يسكن الفرات دفقة دفقة.. ناي موجع يحز الروح فتنتفض الحارات من ركامها والأموات من غفوتهم، وتهمي غيمة بأكمامها على عروق الميادين”. الولد على حاله هناك، “فاغر الروح يمشي على الماء (..) يعدو من صيف إلى صيف”، وإن مضى فإلى دمشق وهو يتساءل “ما الذي يهدر في الفرات غير الفرات”، وليمسي بعد حين شاهداً على الخراب والدمار وهو يعصف بسورية.
بينما تصحو الكائنات في “دفتر الرسام” – القسم الثاني من الكتاب – “كائنات تلهج بأسمائها، تتبادل الأدوار في الإدلاء والإصغاء. وهكذا تتخلق الأشكال بين عبارة وعبارة وتتكشف الحروف بين الشكل والظل”. فالرسام هنا يخاطب شخوصاً خلقها، عوالم صاغها بضربات سكينه وفرشاته، وثمة حزن يهبط عليه وهو وحيد في مرسمه، رفقة ابتهالات، وذكريات، ومساءلات لماهية الرسم ومنطقه، فتختلط عليه الألوان والحروف.
ظلال كثيرة في الكتاب، تنسي الشموس العلى، أو أنها تخمدها، تضبطها متلبسة بحزن شفيف، فتجعلها تشرق داكنة، والرفاعي يأخذنا إلى أدب السيرة التشكيلية وتشكيل السيرة الذاتية، فيصعب التميز بينهما، إذا لا حاجة للمشاهد/القارئ بذلك، وما همّه! فهو حيال الجمال، الجمال حياً نابضاً …خاصاً.
اسم الكتاب
عند منعطف النهر
اسم الكاتب
إسماعيل الرفاعي
عدد الصفحات
200
الناشر
ميادين للنشر – الشارقة 2021