ما الذي يريده السيد تشارلي كوفمان؟ هل يفكر بوضع حدٍ للأمور وبالتالي إيصالها إلى نهاياتها، أم أن الخلاص يكون بالتخلص مما يتشبث بالإنسان ويطبق عليه؟ وجديده (بدأ عرضه على نتفلكس يوم الجمعة الماضي 4 أيلول/سبتمر) يحمل عنواناً صريحاً وواضحاً في هذا السياق وهو “أفكّر في إنهاء الأمور” I’m Thinking of Ending Things، المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه للكاتب الكندي إيان ريد. يُفتتح الفيلم باقتباس مطلعها: “حين تستبد بالمرء فكرة إنهاء الأشياء، فإنها لا تفارقه، بل تلتصق به وتهيمن عليه، ولا يكون متاحاً القيام بشيء في هذا الخصوص، فهي لن تفارقه”.
يبدو ما تقدّم على شيء من أجواء الفيلم ربما، وفكرة إنهاء الأمور ذاتها ملتبسة إلى حد بعيد! ونحن نتكلم عن تجربة إخراجية جديدة يخوضها السيناريست تشارلي كوفمان، والذي عُرف كاتباً مهماً له بصمته المهمة، قدّم أفلاماً بدا جلياً فيها أن السيناريو عنصر حاسم في جمالية الفيلم وخصوصيته، كما هي الحال مع فيلمي سبايك جونز “أن تكون جون مالكوفيتش” (1999) حيث الدخول في رأس مالكوفيتش يتم من فتحة في مكتب يحتل نصف طابق، وفيلم “اقتباس” (2002) وصراع الكاتب مع رواية سوزان أورلين “سارق الأوركيد” لتحويلها إلى سيناريو يفتح الباب على مصراعيه أمام صنوف شتى من التهويمات. وهذا يعيدنا أيضاً إلى تعاون كوفمان مع المخرج مايكل كوندري في فيلمين مميزين هما “طبيعة بشربة” (2001)، و”إشراقة أبدية على رأس نظيف” (2004)، وصولاً إلى تجربته مع جورج كلوني مخرجاً في “اعترفات عقلية خطيرة” (2002).
لا شك بأن استعادة تلك الأفلام ستضعنا أمام جامع بينها، يتمثل بأسلوب كوفمان في السيناريو، الذي قد ينطلق من فكرة أو شخصية غرائبية تؤسس لسرد تصاعدي مثلما هو تشاك باري في “اعترافات عقلية خطيرة” الذي يطالعنا من اللقطة الافتتاحية عارياً ومحبوساً في غرفته، يقف أمام التلفاز يستمع لرونالد ريغان بينما تقوم خادمة بالتنظيف أمامه بمكنسة كهربائية وهو يقول “في الشباب يكون المتاح غير محدود، وتستطيع أن تكون أي شيء، أينشتاين أو ديماجيو..”، وعلى هذا المنوال يمكن للسرد أن يكون شديد الحركية في الزمان والمكان، مع المضي عميقاً في دواخل النفس البشرية واللا وعي، والتأسيس حتى على أبسط الأشياء لتصير جوهرية وحاسمة في مصير الشخصيات، مع حوارات تسعى لأن تحتكم على قدر كبير من الخلاصات والاقتباسات، وطيف وودي آلان حاضر في كل ذلك، لكن من دون كوميديا بل مفارقات تولّد سخرية عبثية، الأمر الذي يحمل تلك الأدوات إلى النجاح في إضفاء عناصر مشوّقة، مع التأكيد أن ائتلاف كل ذلك كامن في المعادل البصري أولاً وأخيراً، وبالتالي صنيع مخرجين لهم رؤيتهم، استخلصوا من نصوصه أفلاماً مميزة بحق.
في 2008 قدّم كوفمان أولى تجاربه الإخراجية في فيلم حمل عنوان “نيويورك، مجازاً”، عن كاتب ومخرج مسرحي (فيليب هوفمان) له أن يضع في النهاية نيويورك ومآزقه النفسية والحياتية ومخاوفه من الموت على خشبة مسرح أو مستودع كبير يحوّله إلى مسرح، وليعاود كوفمان الإخراج في عام 2015 “أنوماليزا” (فيلم تحريك من كتابته، أخرجه بالتعاون مع ديوك جوهانسون)، والذي جاء كما لو أنه تحليل لشخصية الفيلم الرئيسة، من لحظة وصوله إلى غرفة فندقه في أوهايو، مستعيداً حباً قديماً، فإذا به يجد ذاته مع امرأة جديدة.
مع “أفكّر في إنهاء الأمور”، يمضي بنا كوفمان في سياق آلياته السابقة الذكر، لكن في انحياز أكبر لمسرحة السينمائي، والفيلم من أوله إلى آخره يتحرك في حيز ستة مواقع أو سبعة على الأكثر، لا يفارقها انهمار الثلوج، وثلاثة أرباعه في سيارة جيك (جيسي بيلمونس) الذي يصطحب حبيبته “الصبية” كما تسمى في جنريك الفيلم (جيسي باكلي) ليعرفها على والديه في مزرعة نائية. وعليه يتسيد الحوار كل شيء في السيارة، من دون أن نكون حيال فيلم طريق في الوقت نفسه. حوار مدجج بالشعر والمعاني والأفكار والاقتباسات، مع تأكيد جيك على الدوام أن الفكرة غير قابلة للتزييف، إذ تكون الفكرة أحياناً “أقرب إلى الحقيقة والواقع، من الأفعال. تستطيع قول أي شيء، وفعل أي شيء، لكن لن تستطيع تزييف فكرة”. لعل الإقرار بتلك الحقيقة، سيؤدي إلى انعدام الفعل في الفيلم، وإنهاء الأمور ذهنياً.
ترى لوسي – وهذا واحد من أسماء الصبية التي تتغير على امتداد الفيلم ـ أرجوحتين جديدتين أمام بيت مهجور على الطريق، وتتساءل عن سبب وجودهما، فيقول جيك “لقد أحضروا الأرجوحتين أولاً”، فتجد لوسي فيما قاله “تسلسلاً مستبعداً للأحداث”، فيوضح قائلاً “الأرجوحتان لتسلية الأولاد بينما يفرغ الوالدان من تجهيز البيت”. يصلح هذا الحوار لأن يكون منطق الفيلم، إذ يجدر بالمشاهد أن يستيعد كل ما هو متسلسل بعد الوصول إلى بيت والدي جيك، والقفزات في الزمن التي تتعرض لها لوسي وهي ترى الأب والأم في مراحل عمرية مختلفة، وغير ذلك مما يجعلها تكتشف الحيوات المتعددة لوالدي جيك، بما يتيح تداخل الحاضر مع ما حدث في الماضي وما سيحدث في المستقبل في الحيز المكاني نفسه.
وفي اتباع لمنطق الفيلم نفسه، والذي إن سلّمنا بأن الأحداث تجري في رأس لوسي، فإن ما سنشاهده في طريق عودتها مع جيك، سيدخلنا في متاهة لها أن تشكل انقلاباً على ذلك المنطق، ومع المشاهد التي تهبط علينا من كل حدب وصوب، فإنها ستوحي بارتجالية ما، جراء إصرار الفيلم على إيجاد ارتباطات واهية مع ما سبقها، كما هو الرجل العجوز الذي ينظف المدرسة، الذي يجترح سياقاً خاصاً به، وهو يتعرى ويمضي ملاحقاً خنزيراً يتساقط منه الدود، كما لو أنه من الخنازير التي التهمها الدود في مزرعة والدي جيك، وهكذا فإن المشاهد مطالب بأن يربط بينه وبين ما سبق، إذ يمكن الخلوص مثلاً إلى أنه جيك نفسه، ما دام يعطي “الصبية” الخفين نفسيهما اللذين أعطاهما إليها في بيت والديه، أو جراء علب الآيس كريم التي تملأ حاوية القمامة، ولتأتي النهاية لتمحو كل ذلك.
إشكالية الفيلم وصعوبته سردية بامتياز، فهو يبدأ بسرد أفقي وينتهي إلى اللا سردي، ومع هيمنة اللا سرد فإنه يبقى ساعياً لإيهامنا بأن ما نشاهده متصل، وسواء كان ذلك متأتياً من المخيلة، أو من رأس لوسي، أو من مكان آخر نجهله، فإن ذلك يعيدني إلى السؤال الذي بدأت به: ما الذي يريده السيد تشارلي كوفمان؟ ولعل بقاء هذا السؤال معلّقاً، يؤكد انفتاح الفيلم على تأويلات كثيرة متصلة اتصالاً رئيسياً ببنيته الأدبية، وبما يدفع لمشاهدته أكثر من مرة.
—————
عن موقع “النهار العربي”