“فرانتز” ..لعنة الحب في زمن الحرب
العدد 215 | 04 تموز 2017
زياد عبدالله


يبدو اليقين علة ولعنة، ولا وجود له في فيلم فرانسوا أوزون “فرانتز” Frantz بما يطال الشجاعة والجبن، القاتل والضحية، العدو والصديق، الصدق والكذب، وصولاً إلى الحب من دون إتاحة الفرصة أمامنا لوضع “البغض” إلى جانب الحب بوصفه نقيضاً له، إذ لا مكان له إلا بقوة التاريخ والحروب.

وإن كان فيما يلي من أسطر إدعاء بمقاربة للفيلم فإن أفضل ما يمكن القيام به هو تبيان الأدوات السردية المستخدمة في سرد قصة لا تنقصها الدراما القوية، وتجنب الانقضاض عليه عاطفياً ذلك أنه سيدفع بلا أدنى شك إلى المديح والاسترسال به.

إن عنوان الفيلم أي “فرانتز” هو عن شخصية لا حضور لها بالمعنى المادي للفيلم، وإن كان له من ظهور فهو لا يتعدى الثلاث أو الأربع لقطات، لكن يمكن اعتباره الخلفية التي تتولد منها كل الأحداث، ففرانتز قتل في الحرب العالمية الأولى في المعارك المستعرة بين الفرنسيين والألمان، لا بل قبره الذي تحرص خطيبته آنا (باولا بير) على وضع الورود عليه يومياً لا يحتوي جثمانه.

يأتي أدريان (بيير نيني) إلى القرية الألمانية، إنه فرنسي يدّعي أنه صديق فرانتز، طبعاً العداء على أشده بين الفرنسيين والألمان، وبداية يرفض والد فرانتز استقباله كونه فرنسياً، إلا أن صداقته بابنه الوحيد تغفر له كل ما تقدّم وتأخر من جنسيته، وصولاً إلى إحياء ذكراه، اكتشاف حياة عاشها ابنه لا يعرف عنها شيئاً، والأب هو من دفع بابنه الوحيد فرانز للتطوع بالحرب على شيء من العزة الوطنية.

لكن من هو أدريان بحق؟ سؤال لن تطول الإجابة عليه، هذا ما لم يتوقع المشاهد ذلك، فاكتشاف أنه قاتل فرانتز في الحرب أمر ثانوي أمام مصير آنا، وما تصير إليه وهي تحتفظ بهذه الحقيقة لنفسها من دون أن تخبرها لوالدي فرانتز، وهنا تماماً البناء النفسي العميق لشخصيتها، مولدة السؤال تلو الآخر جراء مجيء أدريان هي التي قررت أن تبقى وفية لحبها فرانتز أبد الدهر، وتتوالى الأسئلة: هل حبها لأدريان هو استكمال لحبها لفرانتز؟ هل هناك خيانة في ذلك؟ لابد أنها خيانة إن كان هو قاتله؟ هل كذبها على والدي فرانتز بما يتعلق بحقيقة أدريان خطيئة؟ هل تنتحر؟ لقد جاء أدريان ليومض في حياتها المعتمة! كان ضوءاً وجيزاً سرعان ما زاد العتمة عتمة! وحين تحسم أمرها وتلحق به إلى فرنسا فإن الخيبة ما ستكون بانتظارها.

عدا سؤال آنا كاهن القرية ما إذا كان كذبها يعتبر خطيئة، فإنها لا تنطق بسؤال من الأسئلة التي أوردتها في ما سبق، بل السرد السينمائي المدهش للفيلم ما يضيء عليها جميعاً، يستنطق شخصيتها، ويستعين بتنويعات سردية، فعلى سبيل المثال الفيلم بالأبيض والأسود، إلا أنه عند “الفلاش باك” الذي يستعيد فيه أدريان علاقته مع فرانتز يمسي ملونأً، لكن مهلاً فأدريان يختلق ذلك، وليكون الملون صالحاً لحالة التي يولدها التلفيق في حياة آنا ووالدي فرانتز، كما أن آنا حين تمضي هي وأدريان إلى البحيرة يتلون الفيلم، لكن حين تمضي وحيدة يبقى الأبيض والأسود ذلك أنها ستحاول الانتحار. 

اللون هنا عنصر سردي لا علاقة له بالزمن يضيء على المستوى الثاني من الحدث الذي نراه، كما أن فيلم “فرانتز “مؤسس على رحلتين، مجيئ أدريان إلى ألمانيا ورحلة بحث آنا عنه في فرنسا، وما بينهما يشيد برصانة مدهشة كل ما تقدّم، وكل ذلك على بنية تاريخية حاضرة بقوة على اتصال بالفترة التي يتناولها من تاريخ أوروبا، ومن دون تميز بين مهزوم ومنتصر، إذ يظهر جلياً أن كلاهما (الفرنسيون والألمان مهزومان بما حل عليهما من أهوالها) مستحضراً في ذات الوقت فرلين ومانيه، ولتندمج هذه المستويات من الفيلم في سياق القصة التي لولا الحرب ما كانت، وهي اللعنة والنقمة.

أختم قراءة فيلم “فرانتز” باعتراف مفاده أنني لم أكن يوماً من المتحمسين لسينما أوزون، وحين حاولت تذكر الأفلام التي شاهدتها له هبطت علي شذرات من “8 نساء” 2002 وتذكرت كم كانت شاقة مشاهدته وتتبع حوارات لا نهاية لها كما هي الأغاني التي كانت تطالعني بين الحين والآخر، كذلك هو “تحت الرمال” 2000 وتلك الزوجة التي يختفي زوجها أو يبتلعه البحر وتحافظ على حياتها متواجداً في كل تفاصيلها، حسناً لن أسترجع أفلاماً أخرى من دون حماس يذكر، لكنني سأقول أن “فرانتز” دامغ ومؤثر وجميل أكثر مما شاهدته من أفلام أوزون، وهي ليس بالقليلة! ورغم أنه بشكل أو آخر متصل بـ “الغياب” الكلمة المفتاحية لعدد من أفلام أوزون، ولعلي أعزو السبب في ذلك إلى المعلم الكبير آرنست لوبتش كون “فرانتز” مأخوذ عن فيلمه “تهويدة متقطعة” Broken Lullaby 1932، الفيلم الذي لم تتح لي مشاهدته، لكن يمكنني القول بثقة أن كل ما شاهدته من أفلام لوبتش كان يدفعني للقول: اللعين كيف صنع هذا الفيلم أو ذاك في بدايات القرن الماضي! 


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.