“زرايب العبيد”..العبودية مرتع للحب أيضاً
العدد 209 | 04 نيسان 2017
زياد عبدالله


“دورة الزمن غريبة وحزينة: غادرت دون طفلها الحقيقي وعادت بطفل ليس لها!” دورة الزمن تلك مما يتأسس عليه السرد في رواية “زرايب العبيد” (إصدار دار الساقي 2016، وضمن القائمة القصيرة لجائزة بوكر هذا العام) للروائية والقاصة الليبية نجوى بن شتوان، لكن عكس عقارب الساعة، إن كان لنا أن نعتبر المسار السردي في خط أفقي أمراً مماثلا لحركة العقارب، وبناء ذلك يأتي بين حاضر وماضٍ وما بينهما حدث مفصلي يشكّل عتبة، إذ إن حاضر الرواية ماثل في عتيقه وهي متزوجة من يوسف ويأتي علي بن شتوان ليعيد إليها نسبها المسلوب منها، ولتنتقل الرواية إلى “الزرايب” حيث نشأت وترعرعرت عتيقه (الراوية)، وليكون هذا القسم من الرواية مأخوذا بالمكان وشخوصه، والقصص تتناسل من بعضها البعض، كما قصة رؤية عتيقه نفسها في المرآة للمرة الأولى “تناهبنا المرآة فيما بيننا قبل أن تتركها درمة لي، لأقابل فيها نفسي لأولى مرة في عشة البنت السودانية العطنة. كدت أخرس عندما رأيت البنت التي هي أنا، لم يحدث أن رأيتها من قبل..” أو القصص التي تحضر في فصل “أنا خيط وهو حيط” جراء ما يسمى “تقفيل الأرحام” وهي عملية “أشبه بتعويذة سحرية تفشل انتصاب الزاني وتحرم الزانية الاستمتاع. شيء غير مرئي يزرعونه ما بين القضيب والمهبل في اللحظة نفسها ليفرق جمعهما ويحبط أي محاولة للالتحام بالآخر والاستمتاع به لا يكون المأذون شاهداً عليه.”

يبدو المكان في رواية نجوى مدججاً بالحكايا والمصائر والشخصيات، وقد يتبادر إلى ذهن القارئ بأن الرواية ستمضي على هذا النحو إلى ما لا نهاية مستثمرة في قدرة “الزرايب” على توليد القصص، قصص العبيد وهذه الزرايب مأواهم أو عشتهم أو حيهم المتهالك المنخور بالفقر والأمراض والجوائح، ومن أمامه البحر ومن خلفه الأسياد إلا أن قيام السلطات بحرق الزرايب بدعوى انتشار الطاعون فيه ووفاة العمة صبريه جراءه (عنوان الفصل الذي تحترق فيه الزرايب “الجرد والكاغد” وهو منشور ضمن مواد هذا العدد رقم 209 من أوكسجين) سيخلق عتبة روائية ينقلب فيها السرد تماماً وينتظم في سرد متتابع لقصة حب عاصفة بين تعويضه (التي لن تكون إلا العمة صبريه وقد اكتشفت عتيقه بأنها ليست بعمتها بل أمها) ومحمد بن شتوان، وليحدث إنقلاب جذري في آليات السرد، كما لو أننا حيال رواية ضمن رواية، وحينها ستغيب الزرايب ويظهر القصر أو بيوت السادة، وبالتالي علاقة السادة بالعبيد، وبؤرة ذلك علاقة الحب بين سيد وعبدة/ جارية، أبيض/ سوداء، بين محمد وتعويضه، وسيدور الزمن دورة عجيبة وفقاً لأطوار هذا الحب المحرم وسيكون العذاب والمعاناة من نصيب “الجارية”، والحرية أمر لا وجود له لدى شخوص الرواية، بما يطال أيضا السيد محمد والذي بدوره سيكون عبداً لعائلته ومحيطه، والتقاليد والعلاقات الاجتماعية المقدسة للون والعرق والعنصرية، وحين يتحرر من ذلك يكون الوقت قد فات.

ستكون مدهشة بحق المساحة التي تُنسج في الرواية بين السادة والعبيد، ونقاط الاشتباك بينهما، ولتستكمل الرواية في هذا السياق المشهد الليبي اجتماعياً واقتصادياً إبان الاحتلال العثماني، ولتأتي المصائر مأساوية محمّلة بأقصى ما يمكن أن يصله هكذا شبق محرّم طبقياً، بالتناغم مع مصائر المحيطين بتلك العلاقة، وليترك ربط هذا القسم من الرواية مع الفصول المتعلقة بالزرايب للفصول الأخيرة ونحن نكتشف كيف ولد مفتاح الأبيض صاحب العينين الزرقاوتين، ولتبدو عتيقه مغيبة تماماً إلا لآخر الرواية من دون أن نعرف متى ولدتها تعويضه.

تندرج رواية نجوى في سياق “التخيل التاريخي” ويمكن مقاربتها بوصفها وثيقة روائية استثنائية لليبيا الاحتلال العثماني ومن ثم الإيطالي وليلزم هذا الأخير الأسياد بتسجيل العبيد على أسمائهم أو منحهم حريتهم فقد “كانت إيطاليا من البلدان التي استبدلت عبودية البشر بعبودية الأوطان..”، إلا أن هذه المقاربة لن تكون إلا إطاراً عاماً أو خلفية للقص وحبكته المصاغة بتشظٍ في القسم الأول وباتساق في القسم الثاني، كما لو أن الحب يجلب هذا الاتساق ويدع للأحداث أن تترقرق رغم كل ما حفلت به من قسوة، الحب الذي لا يرضخ للون أو عرق أو عبودية.

وفي سياق متصل تحتمل رواية “زرايب العبيد” المجاز، أو أن يكون الماضي معبراً لتساؤلات على اتصال بالحاضر، كأن يتساءل المرء كيف هي العبودية في أوطاننا هذه الأيام؟ أو أن يفكر بالمستجد على صعيد العبودية في تجليات مغايرة للتي كانت عليه في ليبيا التي ترصدها نجوى أو أن يتأمل ملياً بهذا المقطع: “كل العبيد يحصلون على حريتهم إما كهدية من أسيادهم على عمل قدموه أو على إثم ارتكبه الأسياد ويريدون التكفير عنه. لا يسمح لعبد أن يناضل من أجل حريته، النضال عقوق يستوجب التأديب، أما الهبة والتكفير فلا، لأنهما إرادة السيد لا إرادة المستعبد”.

تأتي رواية “زرايب العبيد” في سياق تجربة سردية استثنائية اجترحتها نجوى بن شتوان، هي التي أثرت “أوكسجين” منذ بدايات هذه التجربة بقصصها ونصوصها، ونزوعها نحو التجريب المتوازي مع قدرتها العجيبة على السرد وتوليد القصص والحكايا، والتي يمكن معاينتها أيضاً بما صدر لها قبل هذه الرواية مثل “وبر الأحصنة” 2005، و”مضمون البرتقالي” 2008، و”الملكة” 2009، و”الجدة صالحة” 2013.

*****

خاص بأوكسجين

اسم الكتاب

زرايب العبيد

اسم الكاتب

نجوى بن شتوان

عدد الصفحات

350

الناشر

دار الساقي 2016


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.