يتخذ كتاب “الفلسفة في الحاضر” وضعية من يضبط كل من الفيلسوفين آلان باديو (1937) وسلافوي جيجك (1949) متلبسين في نقاش فلسفي جرى بينهما في فينا 2004 كما يورد الكتاب الذي حرره بيتر إنغلمان وترجمه إلى العربية المترجم السوري يزن الحاج، بحيث يسعيان وكل على طريقته الإجابة عن سؤال ما هي الفلسفة في الحاضر؟ وباديو يقول لنا من البداية إنه وجيجك متفقان في العديد من الأشياء “لذا لا نستطيع أن نعدكم بمعركة دموية، ولكننا سنرى ما بوسعنا فعله”، بينما سيعتبر جيجك أن “الفلسفة ليست حواراً” فحسب قوله “أرسطو لم يفهم أفلاطون بشكل صحيح، وهيغل _ الذي لعله كان سعيداً في ذلك _ لم يفهم كانط بالطبع، وهايدغر لم يفهم أحداً على الإطلاق..”
سيضع انغلمان في تصديره الكتاب مساراً أولياً وبسيطاً يتمثل بأن كلًّ من باديو وجيجيك سيجيبان على أسئلة قد تبدو للوهلة الأولى بسيطة تتمثل بما “إذا كان يتوجب على الفيلسوف أن يسهم في الأحداث المعاصرة وأن يعلّق عليها، وهل تتم مقاربة السؤال المتعلق بدور المثقفين في مجتمعنا بأسلوب محدد فلسفياً؟ لم يعد كافياً مجرد الإجابة بأن على الفيلسوف ألا يكتفي بتفسير العالم، بل ينبغي أن يغيره”.
وهكذا سنكون أما ثلاثة فصول متتالية، الأول بعنوان “التفكير بالحدث” وإجابة باديو أن الفلسفة تعني أولاً وقبل أي شيء “ابتكار مشكلات جديدة” لا بل إن ثمة أشياء تتبدى بشكل إشارات تحتم ابتكار مشكلات جديدة، وليصل إلى “الوضع الفلسفي” أو الواجبات العظيمة الثلاثة للفلسفة، وهي ثلاثة واجبات يصلها من خلال ثلاثة أمثلة خاصة متعلقة بأفلاطون وأرخميدس وميزوغوشي، “التعامل مع الخيار، والتعامل مع المسافة، والتعامل مع الاستثناء”، وفي اختزال مفرط التبسيط لفهم المقصود يمكن الاستعانة بما يلي: “لو أردت لحياتك أن يكون لها معنى، عليك تقبّل الحدث، عليك البقاء على مسافة من السلطة، وعليك أن تكون حازماً في قراراك” ومن ثم سيقدم لمفهومه عن “الكوني” الكلمة المفتاح في فلسفة باديو عبر ثمانية طروحات.
ويأتي الفصل الثاني الذي كتبه جيجيك “الفلسفة ليست حواراً”، على اختلاف مع باديو بداية من خلال تأكيده على “تغيير المفاهيم الجوهرية للجدال” بعد أن يمر على مفهوم جيل دولوز “الأطروحة الجامعة الفارقة” التي يتوكأ عليها باديو في مقاربة مشكلات مروعة تسببها مثلاً الحرب على الإرهاب بحيث تكون الأطروحة الجامعة الفارقة متمثلة بتفضيل الأمان على الإرهاب، أو الرد على التطرف بانفتاح ليبرالي، أو ترسيخ الهوية الغربية بشكل أقوى، والتي يعتبرها جيجك جميعاً “بدائل زائفة”، وليست حسب رأيه “خياراً رديكالياً” كما يسميها باديو.
يفرد الفصل الثالث لنقاش مباشر يتناوب عليه الفيلسوفين، فتتشعب المقاربات بدءاً من كانط، وصولاً إلى اتفاقهما على أن ثمة شيء لا بشري في الأمور التي تتعامل معها الفلسفة، وحديث باديو عن الصلة المباشرة بين فردية الفكر وكونيته بعيداً عن الخصوصية، وليعتبر جيجيك أن اللا بشري وسيلة وحيدة لتكون بشرياً بالمعنى الكوني، وأن العلم ليس مجرد لعبة لغة، إذ إنه يتعامل مع الواقع غير المصنف.
أفكار كثيرة من البديهي أن أقول إنه من الصعب تقديمها في قراءة للكتاب، وخاصة مع الإخلال في السياق الذي يتنامى ويتنقل بينهما بما يتكامل، وأحياناً قليلة بما يتعارض لكن أيضاً بالمعنى التكاملي للتعارض، فجوهر التدخل الفلسفي بالنسبة لباديو هو الإثبات وليس النقد، أو بناء المفاهيم حسب دولوز وليعود إلى “الراديكالية” بقوله إن أي إدانة راديكالية للشر يمكنها أن تمارس وظيفة إعاقة أي بدائل، ولتكون الطبيعة الديمقراطية الحالية التي نعرفها أول التحديات الملحة والخطيرة بالنسبة للفلسفة، بينما سيعتبر جيجك أن الديمقراطية تعني اليوم “تفضيل الظلم على الفوضى”.
استكمالاً لما تقدم فإن الكتاب يحتوي ملحقين لفلاسفة ومفكرين آخرين، يتناول كل منهم باديو وجيجك على طريقته مثل سايمون كريتشلي ومقالته المدهشة “لمَ يعتبر باديو روسويّاً وتيري ايغلتون الذي يقدم في مقاله حفلة تعرية فلسفية لجيجيك مجيباً على سؤال مفاده “هل ثمة موضوع على الأرض لم يكن قمحاً لمطحنة جيجك الثقافية؟”، وصولاً إلى مقال ستيوارت جيفريز “آلان باديو: حياة في الكتابة” والتي من الجميل أن أختم بها هذه القراءة حيث باديو العاشق ونظريته في الحب وهو يحكي عن صفاء الحب الأشبه بالفردوس، مختتماً بهذا المقطع من كتابه “في مديح الحب”: “تأخذ المصادفة المطلقة للقاء مظهر القدر. ويحدد التصريح بالحب الانتقال من المصادفة إلى القدر، ولذا يكون خطراً جداً ومثقلاً جداً بنوع من الخوف المسرحي المرعب”.