أثناء مشاهدة فيلم “خولييتا”، آخر أفلام المخرج الإسباني بيدرو ألمادورفار، فإنه لا حاجة إلى مدّة طويلة قبل أن تصدر حكماً ردّده الجميع –وهو صحيح في بعض تفاصيله- يقول إن صاحب “تحدّث إليها” اشتغل في جديده بسماته المعروفة نفسها. أو أن المادوفار لم يفاجئنا كثيراً. فقد قدّم فيلما ممتعاً بصرياً، لكنه ليس أفضل من أفلامه السابقة. لكن هذا الكلام فيه الكثير من عدم الجدّية في التعامل مع فيلم “خولييتا”، الفيلم الذي لا يدّعي أنه تحفة بقدر ما هو استمرار في تقصّي قصص قوية عن النساء المعذبات التي لن تنتهي إلا بنهاية العالم.
ألمالدوفار، بالإضافة إلى مخرجين آخرين مثل وودي آلن أو حتى تارانتينو و آخرين. ينتمي إلى النوعية التي قد تعمل طوال مسيرتها الإخراجية أو جزء كبير منها بنفس الوسائل الفنية. لا يغّيرها الزمن ولا المكان ولا القصص التي يقاربها في كل مرة. وهذا أمر لاينتقص من مخيلته أبدا بقدر ما يدّل على انشغالاته بمواضيع إنسانية تتجّدد أمام كاميراه في كل مرّة. بل يمكننا أن نقول أن الجزء الصعب في لعبة الإخراج يكون في الكثير من الأحيان إخراج أشياء مختلفة من ذات القبعة!
يقترح ألمادوفار في فيلمه العشرين، وهو السادس الذي شارك به في “مهرجان كان” (والذي يعرض حاليا بدور العرض العربية) قصّة يسند فيها دور البطولة لامرأة كما هي عادته في أغلب روائعه. تنطلق الحكاية بتعرفنا على خولييتا المرأة الشقراء ذات الملامح الحزينة، التي تقطن في مدريد، مع صديقها لورينزو. وهما يوضبان أغراضهما من أجل الانتقال إلى البرتغال، وأثناء خروج خولييتا للتسوّق تلتقي بصديقة ابنتها أنيتا. وبعد حديث قصير دار بينهما، نكتشف أن ابنة خولييتا غادرت ولم تعد، وفي هذا تفسير للحزن العميق البادي على ملامحها. تعود خولييتا إلى شقتها وهي حزينة أكثر من السابق وتقوم بإفراغ حقائبها وتخبر لورينزو بأنها قد غيّرت رأيها بخصوص السفر، وفي الوقت نفسه تطلب منه ألاّ يسألها عن السبب. ثم تنتقل إلى حي آخر وتستأجر شقّة صغيرة في حي قطنت فيه بالماضي. وهناك ستتفرّغ لاسترجاع تفاصيل حياتها كتابة. فيتولّد عن هذا السياق خط سردي آخر تعود فيه القصّة في الزمن إلى الوراء، ونتعرف على خولييتا في مرحلة الشباب وهي تستقل القطار، وتتعرف على شاب يدعى سوان (دانييل جارو) وتدفعهما تفاصيل الرحلة للتقرب من بعضهما. ثم يأخذ منحى العلاقة بعدا سريعا سرعان ما ينتهي إلى حب كبير، جعل خولييتا تنتقل للعيش معه في البرتغال. تستمر هذه العلاقة وتثمر ابنهتما الوحيدة انيتا (ادريانا يجارتي). التي سترتبط بأبيها ارتباطا غريبا. لكن الأب الذي كان يعمل صيادا، سيموت في ليلة عاصفة وسيخلف وراءه حيوات منكسرة ليس فقط بسبب الحزن على فراقه، ولكن بانكسار العلاقة بين خولييتا وابنتها التي ستقرر المغادرة من دون وداع أو أي مؤشرات بعودة وشيكة، تغادر هكذا اعتقادا منها أن أمها كانت سببا في موت والدها ! وتترك والدتها بملامح حزينة لم تغادرها قط، وهي تحتفل في كل سنة بعيد ميلاد ابنتها الغائبة. هكذا تسير رحلة خولييتا التي تأخذ منحى استرجاعي تحاول فيه استعادة ابنتها التي سرقتها منها ظروف الحياة. وترميم علاقتها بها.
الفيلم يقدّم حياة جولييتا في مرحلتين؛ مرحلة الشباب في دور لأدريانا أوغارت ومرحلة الكبر في دور لايما سواريز وهذا يجعل الفيلم يقتفي خطيين سرديين يتمّمان بعضهما. يتباعدان ويتقاربان ويتداخلان ولكنهما يشكلان نفس القصّة. ونفس مصدر المعاناة.
القصّة لا تبرز الشكل على حساب المضمون أو العكس فهما يسندان بعضهما في سير متواز، لا أفضلية لأحدهما على الآخر. أما عناية ألمادوفار بالألوان فقد وصلت هنا حدّ البذخ. ليس هناك لقطة أو مشهد لا يستغلّه المخرج في العناية بعشقه القديم بالألوان وتناسقها حتى وإن تعلق الأمر بفستان ترتديه خولييتا أو حتى كأس ماء فوق طاولة. بالإضافة إلى إقحامه لعناصر الفن والكتابة والثقافة داخل القصّة كما هو الحال لدى مايكل هانيكي. حيث يصبح الفيلم قناة لتمرير رسائل الفن ومرجعياته. وعلى عكس توفيقه في هذه العناصر الفنية، فيبدو أن ألمادوفار لم يجد طرائق ملفتة لتدبير بعض الصدف التي ربطت أحداث الفيلم، خصوصا التقاء خولييتا بصديقة ابنتها، في المرة الأولى والثانية. أو حتى ردود الأفعال التي ظلت دون بلوغ حد التأثير.
ألمادوفار الباحث دائما عن تفاصيل وأزمات تحيط بالنساء، وجد هذه المرة ضالته في نصوص الروائية الكندية أليس مونرو (نوبل للآداب 2014) وتحديدا ثلاثة من نصوصها ؛ هي “حظ و قريباً وصمت”. وجميعها من مجموعتها “هروب”. والنص الأخير هو الذي يؤسس لرؤية الفيلم وهو الذي شكل تصور ألمادوفار للسيناريو الذي كتبه بنفسه.
هي قصّة أخرى عن النساء تنضاف إلى أخريات لألمادوفار، فلا أحد يستيطع إحاطة عالم النساء ومعالجته بنفس الكيفية التي يقدّمه بها، وحتى إن وجد من هو على مسافة قريبة من ألمادوفار فليس بنفس الكيفية التي تركز على أنماط وسلوكات نفسية بين المرأة والمجتمع والسلطة. ألمادوفار صار لوحده تيّار في هذا الجانب، ولا عجب أن نجد بعضا من أمشاج أسلوبه في أفلام أخرى تطمح لتقديم أفلام شبيه لأفلامه.
خولييتا يأخذ موقعه داخل فيلموغرافيا ألمادوفار وبخاصة في أفلامه الستة التي قادته إلى المشاركة في مهرجان كان وترشّحه عنها للسعفة الذهبية في أربع مناسبات. هو قريب لهذه الأفلام كونها تتعقب مصائر نساء وحيواتهن داخل مجتمعات، واقعة بين قبول شروط التحرّر والوفاء لأعراف قديمة. وهذه الأفلام مجتمعة تشكل فيلموغرافيا ألمادوفار التي عرفه العالم بها سواء تشابهت في تفاصيلها أو اختلفت.
*****
خاص بأوكسجين