نقدم في هذا العدد مقال الناقد بشار إبراهيم (1962 – 2017) عن المخرج السوري نبيل المالح (1936 – 2016) وهو مأخوذ من كتاب بعنوان “نبيل المالح – العين الثالثة” (صدر منذ أيام قليلة عن دار خطوط وظلال في عمّان) وأعدّه وحرره المخرج والناقد قيس الزبيدي مقدّماً مقاربة فيلموغرافية ونقدية لمنجزات المالح السينمائية وتجربته المفصلية والاستثنائية في السينما السورية والعربية عبر عدد كبير من مقالاتٍ لنقاد ومخرجين وسينمائيين من شتى أرجاء العالم العربي، ومقابلات أجريت معه، وصور لأعماله التشكيلية وغير ذلك الكثير، ومقال الراحل إبراهيم هذا هو مقدمة الكتاب:
سيكون من الظلم الاكتفاء بتناوُل سيرة نبيل المالح، بوصفه مخرجاً سينمائياً، على الرغم من أهمّيّة ريادة تجربته السِّيْنمائيّة، التي من الصعب على أحد تجاوُزها، إذ لطالما نظرتُ إليه كواحدٍ من روّاد الثقافة السورية الحديثة، ولعلّه الأكثر تمثّلاً لها، سواء من ناحية التّنوّع والغِنى والثراء الذي اتّسمت به تجربته الإبداعية، أم من ناحية تشعُّبها وتشابكها مع الزمان والمكان، وتحوّلات العصر في السياسة والثقافة والاجتماع، وفي العلوم والفنون والآداب والتِّقَانَة، ومواكبته لكل جديد ومُستجدّ فيها، وبوسعنا أن نؤكّد أنه لم يكن من باب الصدفة أن يكون نبيل المالح، المخرج الذي قدّم أوّل فيلم سينمائي روائيّ طويل بتوقيع سوريّ («الفهد» 1972)، هو ذاته المخرج الذي قدّم أوّل فيلم سينمائي سوريّ روائي طويل مُصوَّر بكاميرا رَقْمِيّة «ديجيتال» («غراميات نجلا» 2001).
هذا التّنوّع والغِنى، وهذه المرونة والقابلية للتّطوّر، سِمات أساسية لدى نبيل المالح، شخصيّاً ومهنياً، وهي استعدادات أوّليّة، اتّكأ عليها، ليكون، بهدوء وصمتٍ ظاهريَّيْن، وغليان وصخب داخليَّيْن، أحدَ أبرز روّاد الثقافة السورية الحديثة، منشغلاً بالهَمّ السياسيّ، وإن لم يشتغلْ به، ومُهتمّاً بالسياق الاجتماعي مُدرِكاً جوهريّته في الحراك السوري العامّ، مُنتمياً إلى الثقافة النقدية تجاه الذات والمحيط، في توازُن، أراد عبره المحافظة على ما يمكن من سلام.
وإذا كان لنا أن نتقصّى ملامح وتخوم الثقافة السورية الحديثة، بخاصة في سياقها العملي التأسيسي، وعتبة الانطلاق والاستمرار، وليس إيغالاً في البحث عن النّوى الجنينية التي بَذَرَهَا أبو خليل القبّاني (1833 – 1903)، وعبد الرحمن الكواكبي (1855 – 1902)، وغيرهما من أعلام عصر «اليقظة العربية»، فلا بدّ أن نتوقّف عند تلك السنوات الممتدّة ما بين «الجلاء» (1946)، والو حدة السورية المصرية (1958)، مروراً بالانفصال (1961)، وصولاً إلى الهزيمة الحزيرانية (1967)، بِعَدِّها سنوات التأسيس والوثوب التي تُلقي بظلالها على الثقافة السورية الحديثة حتّى اليوم، على رغم ما اعتراها من خيبات سياسية، وانتكاسات وطنية.
سنوات تقارب العقدَيْن من الزمن، أو تزيد قليلاً، كانت زمن انفكاك سوريا عن إرث تاريخيّ ثقيل، والتّطلّع إلى حاضر ومستقبل، بحثاً عن مكان تحت الشمس؛ شمس القرن العشرين الساطعة، بما فيها من علوم وفنون وآداب، واختراعات واكتشافات، بالموازاة مع ولادة السِّيْنما والتلفزيون والإذاعة، وتطوّر الصحافة والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية، والبدء بإجراء النقلة الواسعة على مستوى الحياة والعمران السوريَّيْن، فضلاً عن الفعالية السياسية والاجتماعية التي تمثّلت بتجاوُز مرحلة الانقلابات العسكرية، وتعزيز نشاط الصحافة والأحزاب، مُقدّمة للدخول في التجربة الديمقراطية البرلمانية، ومن ثمّ، الوحدة مع مصر.
هذه السنوات ذاتها تُشكِّل البيئة الزمانية لتشكُّل وعي نبيل المالح، ما بين سنّ العاشرة من عمره لحظة «الجلاء»، وإبحاره في العشرينات من عمره مع تجربة الوحدة، وصولاً إلى إنجازه أوّل أفلامه في العام 1965، وهو على بوّابة الثلاثينيات من العمر، وقد شهد الانفصال، وثورة الثامن من آذار 1963، وما جاءتْ به من توجّهات اشتراكية، وقرارات تأميم صناعيّ، وإصلاح زراعيّ، وتشكيل القطاع العامّ في مجالات السِّيْنما والتلفزيون والمسرح والصحافة، مُغلِقةً الباب على نحو نهائيّ في وجه العودة إلى التجربة الوحدوية، أو استعادة التجربة البرلمانية الديمقراطية التي طَفَرَتْ في منتصف الخمسينيات، وليستقرّ الوضع على حال الطوارئ، وسيادة حكم الحزب الو احد للدولة والمجتمع، ومَنْع القطاع الخاصّ، أو البورجوازية المحلّيّة (الرأسمال الوطني) من الإسهام في أيٍّ من مجالات الفعل العامّ. تماماً في الوقت الذي كانت الثقافة الحديثة تتبلور في الهوامش التي انشغلتْ عنه القوى المتصارعة على السلطة، أو التي سمحتْ بها، بل وحتّى تلك التي كانت تجري بفعل العناد والإصرار.
نبيل المالح، بهذا المعنى، هو أحد روّاد الثقافة السورية الحديثة والمعاصرة. هذا ما يُراودني منذ سنوات، عرفتُ نبيل المالح فيها، عن قُرْب، وعن بُعْد؛ في الحياة، وفي السِّيْنما، قرأتُ له، وشاهدتُ رسومه، واطّلعتُ على بعض ما فعله، وتلمّستُ بعض ما يطمح أن يفعل … ولعلّ هذا ما دفعَني في لحظات كثيرة إلى البحث في معنى الثقافة السورية الحديثة، وروّادها، ورَبْط هذا بالبيئة التي ترعرع وعاش ونما المالح فيها، وطوّر وعيه، واختار أساليبه التعبيرية، وأدواته الفنِّيَّة، التي سنرى أنه ضمّنها كذلك مواقفه السياسية والثقافية الفكرية والاجتماعية، وبَلْورَ فيها رؤاه ممّا حوله، لترسم خطّاً حياتياً وفكرياً وسياسياً، ينْظُم أعماله جميعها، ذاك ممّا يمكن أن تراه في فيلم قصير أو طويل، أو في لوحة تشكيلية، وربّما موتيف، أو كاريكاتير.
سيرة ربّما تبدو نموذجية لشابّ من عائلة دمشقية، ولفتى بقي طيلة حياته يستذكر الدور الاستثنائي الأهمّيّة لوالدته في صياغة وَعْيه ووجدانه وتوجّهاته، قبل أن يغادر إلى براغ لدراسة الفيزياء النووية، وبعد أن يعود، ليحترف السِّيْنما بدلاً منها، ويشاكس في غير مجال فنّيّ وإبداعيّ، لاسيما ميادين الاتّصال السَّمع بصري، وعلى رأسها السِّيْنما.
كان يمكن أن يشير اختيار نبيل المالح السِّيْنما أسلوبَ حياة، ضمنياً، وإن في شكل غير واعٍ، إلى رغبته الانتساب للثقافة الحديثة، في بلد، كان ما يزال يعيش التقليدية في كثير من ملامح الحياة، وتفاصيلها. ولكن هذه الثقافة الحديثة ذاتها لم تكن في ذلك الوقت على شيوع، بل كانت بحاجة إلى مبادرات للتأسيس والإطلاق. وربّما لهذا استمرّ يُجرّب الكتابة والشِّعْر والرَّسْم والكاريكاتير والفنّ التشكيلي، وحتّى تصميم الأغلفة الفنِّيَّة، وبشكل خاصّ مُميَّز، كتابة السيناريو، وصناعة الأفلام، والإسهام باستمرار في ورش عمل تدريبية سينمائية. وربّما لهذا لم يحترف التلفزيون والمسرح والصحافة أو الإذاعة، على الرغم من مقاربة تماماً للثقافة الحديثة، وأنتجت بعض أعلامها الذين مارسوا الفعل النقدي، والدور التنويري.
تأخذ تجربة نبيل المالح تألّقاتها على مستويات عدّة، لا تتوقّف عند حدود المُنجز السِّيْنمائيّ، على رغم أنه الأهمّ في مسيرته، فله إسهامه في كل فنّ، ولم ينأ بنفسه حتّى عن أشكال من الحراك السياسي والاجتماعي المَدَني الذي عرفتْهُ سوريا طيلة نصف قرن مضى. واستمرار نبيل المالح في السِّيْنما، عقداً بعد آخر، منذ العام 1965، في سوريا وخارجها، وعلى الرغم من كل ما واجهه من مشكلات فنّيّة وتِقْنِيّة، وحتّى مادّيّة وشخصيّة، وإصراره على مشاريعه السِّيْنمائيّة حتّى آخر لحظة من حياته، يُدلِّل على إيمانه العميق بما يفعل، وصَرْف أيّ نَظَر عن أيّ خيار حياتي أو مهني أو إبداعي، كان يمكن أن يغدو، هو الآخر، أسلوباً إبداعياً آخر لحياته.
ويتبدّى اختيار السِّيْنما فعلاً جوهرياً للتعبير عمّا يؤمن به، ويريد قوله، من طبيعة اهتمامات نبيل المالح، وموضوعاته السِّيْنمائيّة، التي بدأها مع عدد من الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة، كان أوّلها «حلب عاصمة الشمال» (1965)، الذي يرصد فيه ملامح من التحديث الذي كانت تتّجه إليه سوريا، في مختلف مُدُنها، متّخذاً من مدينة حلب نموذجاً، يجول في حاضرها، ويتلمّس تاريخها، ويستشرف مستقبلها، أتبعَهُ بأفلام، لا تبتعد عن هذا الهاجس، بل تتقاطع معه، وتُغنيه، كما في «لون وحياة» (1966)، و«إيقاع دمشقي» (1970)، وفيهما اشتغال على طرز الفنون التقليدية والأشغال اليدوية، وكذلك على الفنون الحديثة، وأبرزها الفنّ التشكيلي.
تفتيش سينمائي في وقائع الحياة السورية، مكاناً وزماناً وفاعليات، بعيداً عن الاحتفائية، ولكنْ، قريباً من التّفحّص والأمل، مشغول بمهارة سينمائية، تُبشّر بجديد، يطلّ على السِّيْنما السورية، بين رُوّادها وأعلامها في تلك الفترة، أمثال: يوسف فهدة، وصلاح دهني، ومحمّد شاهين، وخالد حمادة، وبالتوازي مع مخرجين، أمثال بشير صافية، ومروان مؤذّن، ووديع يوسف، ومروان حدّاد … لكنْ، من بينهم جميعاً سيكون لنبيل المالح شأنه ومسيرته وتميّزه الخاصّ، لا يتوقّف فقط عند إنجازه أوّل فيلم روائي طويل، بتوقيع وإمكانات سورية خالصة، بل أيضاً في شقّه الطريق المُتميِّز فنِّيَّاً ومضمونياً، إذ يلفت النظر أن نبيل المالح، وهو الشّابّ السوري ابن العائلة المَدِيْنِيّة البورجوازية، وربّما التقليدية والمُحافظة، كما هو معروف في الوسط الاجتماعي الدمشقي عادة، اشتغل في أفلامه على مسائل ثورية الطابع، تقدّمية الرؤية، نقدية الطابع، على قَدْر من الجرأة.
في أوّل أفلامه الروائية القصيرة، تناول مأساة اللاجئين الفلسطينيّيْن في المخيّمات، والقضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، كما في «إكليل الشوك» (1969) عن فتاة من مخيّم القابون، تحلم في شوارع مدينة دمشق الذاهلة والمشغولة عنها وعن أحلامها، و«المخاض» (1970) الذي يؤكّد على أهمّيّة العمل الفدائي، وعلى خيار الكفاح المسلّح، و«النافذة» (1978)، والحديث عن جرائم الإمبريالية والاستعمار، و«نابالم» (1971)، والجرائم الأمريكية في فيتنام، وشتّى أصقاع العالم الثالث، وحركات التّحرّر الوطني العالمية، ومقاربة أحوال العمّال والصّيّادين والشّغّيلة، كما في «الزبد» (اللعبة الأبدية) (1972)، و«الصخر» (1978)، و«الدائرة» (1978). وسنلاحظ أن هذا سيستمرّ على مدى تجربته السِّيْنمائيّة، وصولاً إلى فيلمه «فلاش» (1999) الذي ينتقد الاستبداد والقَمْع والتّسلّطية.
توظيف باهر للفيلم القصير، في طيف واسع من الموضوعات والقضايا المحلّيّة والعربية والعالمية، وتمكّن من التكثيف والاختزال، مع غِنى القول وثراء المعنى وسعة المخيّلة واتّقاد الأفكار، إلى درجة أن فيلمه الذي لا تتجاوز مدّته دقيقة ونصف، كما في «نابالم»، أو «فلاش»، يمكن وصفه بأنه «أقصر فيلم روائي طويل»، وكلاهما نال من الجوائز الكبرى ما يستحقّ. ولا مبالغة في القول إن نبيل المالح هو من الندرة النادرة من المخرجين السوريّيْن الذين أبقوا على علاقتهم مع الفيلم الروائي القصير، والفيلم الوثائقي القصير، ولم يكتفِ بالفيلم الروائي الطويل.
وحتّى عندما عاد نبيل المالح إلى دمشق، من مَنفاه الاختياري في اليونان، وشرع في العمل من خلال شركته الإنتاجية «إيبلا للإنتاج» (إيبلا برودكشن)، وقدّم عدداً من الأفلام الوثائقية لصالح هيئات رَسْمِيّة وغير رَسْمِيّة في سوريا، وجدنا كيف يتمازج الدور الوظيفي للوثائقي لديه، ما بين التنموي والنقدي (الاجتماعي والسياسي)، والتأسيسي لرؤية، تطمح لجَعْل سوريا بلداً أجمل وأرحب وأكثر اتّساعاً لأبنائها، بتنوّعهم واختلافاتهم وغِناهم وثرائهم، فكان وثائقي «العتمة المضيئة» (2003)، عن ذوي الاحتياجات الخاصّة من فاقدي البصر، وأهمّيّة العمل على دَمْجهم في المجتمع، بينما ذهب «ع الشام ع الشام» (2006)، الذي أخرجه بالاشتراك مع عَمرو سوّاح وألفوز طنجور، إلى البحث عن المُدُن السورية المَنسية، وآثار الهجرة الداخلية على الريف والمدينة، والمشكلات الناجمة عن افتقاد سياسات تنمية متوازنة، تتمكّن من الحفاظ على الريف، وتحديثه، والحفاظ على المدينة، وتطوُّرها.
وفي «شهرزاد» (2007)، يدور الحديث عن المرأة السورية، بين الواقع والدستور والقوانين؛ عن «شهرزاد الألف الثاني بعد الميلاد»، كما يقول الوثائقي نفسه، وهي ترزح تحت نير الخفض الاجتماعي، والاضطهاد الذُّكُوري، وعَجْز القوانين عن حمايتها، أو توفير حقوقها. وبينما يتناول «شيخ الشباب» (2007) الشّخصيّة الدمشقية الموشورية المتعدّدة الوجوه؛ فخري البارودي، فإن «الكريستال المقدّس» (2008)، يحرث تاريخ وحاضر دمشق الأثيرة دائماً لديه، ويرصد «متّحدون في المهجر» (2011)، للحديث عن اللاجئين العراقيّيْن، وهو الفيلم الذي يمكن عَدّه آخر ما صنعه نبيل المالح في دمشق، قبل مغادرتها إلى الإمارات.
وعلى رغم مواكبة تجربته لتأسيس التلفزيون السوري (1960)، وولادة سينما القطاع الخاصّ (1964)، إلا أن نبيل المالح آثر الاشتغال مع «المُؤسّسة العامّة للسِّيْنما» (1963)، فكانت أفلامه الأولى من إنتاجاتها، على رغم أنه لم يتوظّف فيها إلا لسنوات قليلة، وبقي يتعامل معها، بوصفه مخرجاً مستقلاً، صاحب رؤيا ومشروع، وقدّم من خلال المُؤسّسة أهمّ أفلامه وأفلامها على السواء، وعلى رأسها وذروتها فيلم «الفهد» (1972)، ومن ثمّ، «السّيّد التّقدّميّ» (1974)، و«بقايا صور» (1979)، وختامها «الكومبارس» (1993).
لم يكن لنبيل المالح موقف من النظام السياسي الناشئ وقت إنتاج فيلم «الفهد»، بل إنه أنجز وثائقياً قصيراً، بعنوان «أيام للتاريخ» (1971)، يتناول الالتفاف الشعبي والجماهيري حوله، وتعلّق الآمال بـ«اتّحاد الجمهوريات العربية» ما بين مصر وسوريا والسودان، والنشيد للوحدة والتكاتف والتعاون، والتّغنّي بـ «الوطن العربي». كانت الآمال عريضة حينها، بخاصّة بعد فاجعة الرحيل المفاجئ لجمال عبد الناصر، والسَّعي لدى الجميع عن قشّة أمل، يتعلّق بها الغَرْقَى من المحيط إلى الخليج، ولم يكن نبيل المالح بمَنأى عن ذلك. ولا شكّ في أنه كلّما ازدادت الشّقّة ما بين الآمال والأحلام والمطامح، من جهة، والو اقع بوقائعه وتحوّلاته، من جهة أخرى، كانت النبرة النقدية تعلو وتتوضّح، لتبلغَ ذروتها في فيلمه «الكومبارس» (1993)، وتنتهي بوفاته في دبي (2016).
ليس بلا معنى، وليس صدفةً، اختيار نبيل المالح للقصّة التي كتبها الأديب حيدر حيدر، ليحكي لنا قصّة الثائر أو المُتمرِّد الريفي شاهين (المشهر باسم أبو علي شاهين، أو الفهد). قصّة عن الثورة، والتّمرّد، وضرورة التّصدّي الشعبي. أنشودة شعبية ثورية تُوقِد الأمل في المستقبل، على رغم موت الفهد على حبل المشنقة. نهاية سينمائية بديعة، استقاها سينمائيون من بعده. نبيل المالح بدا سينمائياً تقدّميّاً حقيقياً مع أوّل أفلامه الروائية الطويلة، وسيحافظ على هذا في تجاربه اللاحقة، باستثناء إخفاقات محدودة، تَنَاقَضَ فيها المُرتجى في الذهن والتخطيط، عمّا تحقّق بالنتيجة على الشاشة، كما في تجربته اليتيمة مع القطاع الخاصّ بفيلم «غوّار جيمس بوند» (1974)، هذا الفيلم الذي يُمثّل، في أحد وجوهه، لقاء نبيل المالح مع رائد آخر من روّاد الثقافة الحديثة هو الفنّان نهاد قلعي.
مع فيلمه «الفهد» قدّم محاولة أولى لاقتراح شكل جديد من السِّيْنما السورية، لها خصوصيّتها وتمايُزها، وحقَّق بذلك جملة كبيرة من الجوائز لهذا الفيلم، على مستوى التصوير والإخراج والتمثيل، في مهرجانات عربية وعالمية، ليكون فاتحة أولى، تُعبّد الطريق لأفلام سورية مُتميِّزة، من طراز «المخدوعون» لتوفيق صالح (1972)، و«كفر قاسم» لبرهان علوية (1974)، و«اليازرلي» لقيس الزبيدي (1974)، التي تمثّل حتّى اليوم طليعة للسِّيْنما العربية الجديدة، أو السِّيْنما البديلة، أو السِّيْنما المُرتَجَاة.
وعلى مستوى الأداء، أخذ نبيل المالح القصّة الأدبية، واستعان بأشعار، كَتبَهَا ممدوح عدوان، مُقدِّمة للحكاية، ومُمهِّدة لها بقالب شِعْرِيّ. استخدم لهجة سورية بيضاء، فلا هي لهجة أهل المنطقة التي عاش فيها الفهد، ولا هي لهجة أهل الشام تماماً. وللبطولة بحث عن فنّان جديد، يمنحه الدور، فكان الفنّان الفلسطيني الشّابّ أديب قدّورة، ابن مخيّم حندارات للاجئين الفلسطينيّيْن شمال حلب؛ أديب قدّورة العاشق للرَّسْم والموسيقى، والمُمثّل في المسرح القومي بحلب، سيفوز بدور عُمره الذي لم يستطعْ العثور على مثله حتّى اليوم. ونبيل المالح يُحقّق نجاحاً نموذجياً في ما ذهب إليه من رهان بعيداً عن نجوم سوريا حينها، سواء في المسرح أو التلفزيون، أو أفلام القطاع الخاصّ التي لم يكن غيرها حينذاك. وكذلك لم يستعنْ بمُمثّل عربي، وهو ما كان متاحاً أيضاً، لأفلام القطاع العامّ، فحتّى ذاك الوقت كان القطاع الخاصّ استعان لبطولة أفلامه بعشرات المُمثّلين والنجوم من سوريا ومصر ولبنان وتركيا.
هذا الاشتغال وهذا التحضير الذي تميّز بالدأب، واستغرق سنوات، من توقّف أو رَفْض أحياناً، ومن ثمّ، متابعة تحضير، وصولاً إلى تحقيق الفيلم، لم يُؤثّر على النتيجة النهائية، بل لعلّ ليس من المبالغة القول إن نبيل المالح بدا في أوّل أفلامه الروائية الطويلة متعافياً وناضجاً، ولن ننسى الجائزة الخاصّة التي منحها له «مهرجان لو كارنو السِّيْنمائيّ»، في العام 1972، بمناسبة مرور 25 عاماً على انطلاقته، تقديراً لنبيل المالح وفيلمه «الفهد». وممّا يزيد الجائزة أهمّيّة أن رئيس لجنة التحكيم لم يكن سوى المخرج الكبير أندريه تاركوفسكي.
البطل الفردي على حبل المشنقة، وبالتالي ينشد الفيلم للثورة الجماعية، الشعبية المُنظّمة. هذا موقف ثوري وتقدّميّ يتّكئ على تجربة حقيقية، لشخص عاش تجربته الفردية، في جرود جبال الساحل السوري، في مطلع أربعينيات القرن العشرين (1942)، عندما كانت سوريا تنوسُ ما بين المستعمر الفرنسي الآيل للجلاء، وصعود سلطة الإقطاع والآغاوات التي ستنقضّ على السلطة، وتتحكّم بها، ممّا ينتقص من حقيقة الاستقلال الوطني الذي كانت تسعى له سوريا بنُخَبها المَدَنية على الأقلّ.
يبدو الفهد بطلاً تراجيدياً محلّيّاً حقيقياً، نموذجاً، مُعادِلاً درامياً لتاريخ منطقة، بدءاً من مستواها السياسي الوطني، والاجتماعي الاقتصادي. كأنما أبوعلي الفهد تخلَّص من نار الفرنسيّ إلى نار الآغا والدَّرَك، فيشير الفيلم إلى ضرورة الترابط بين مسائل الاستقلال الوطني، والتّحرّر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، أيْ ترابط وتكامل النضال الوطني بالثورة الديمقراطية الشعبية. ومن هنا، فإن (أبو علي الفهد) بدا كأنما هو خلاصة التجربة في مجال الثورة الفردية، التي ستنتهي إلى الفشل، بطريقة تراجيدية، ليذهب الفيلم في سياق الدعوة النهائية والجريئة إلى العمل الجماعي، المُنظّم، الواعي، وهذا ركن أساس في الثقافة الحديثة، يخلع فكرة البطل الفرد لصالح الشعب وقواه الحَيّة والمُنظّمة.
في التسعينيات، عاد المخرج نبيل المالح، بعد غياب دام قرابة العقد والنصف من السنوات، لامتحان ذاته، وتحدّيها، من خلال فيلمه «الكومبارس» (1993)، الذي تضمَّن، من جملة ما تضمَّن، لغة إخراجية جديدة، استطاعت إعادة الألق لنبيل المالح صاحب التجربة السِّيْنمائيّة الطويلة، وكان له أن كُرِّم، بفضل فيلمه هذا، في «مهرجان القاهرة السِّيْنمائيّ الدولي» كأفضل مخرج، حينذاك، إضافة إلى جوائز «معهد العالم العربي في باريس» لبَطَلَيْه؛ بسّام كُوسا وسمر سامي، كما أثبت مع فيلمه «الكومبارس»، أنه الخيط السّرّيّ الذي يصل بدايات السِّيْنما السورية الحقيقية وولادتها المتألّقة، عند جيل السّتّينيّات والسّبعينيّات، من جهة، بصعودها إلى ذراها مع جيل الثّمانينيّات وصولاً إلى التّسعينيّات، من جهة أخرى.
في «الكومبارس» يصل النقد السياسي والاجتماعي اللاذع إلى أعلى مراحله، فيطال الدولة الأمنية، والمجتمع، والأفراد الذين يقفون في النهاية على خشبة المسرح، وينشدون للنصر الزائف والوَهْمي. أبطال في هيئة كومبارس، أم كومبارس في هيئة أبطال؟ يبقى التساؤل مُشرَّعاً، والنهاية تمضي إلى افتراق عميق بين العاشقين، وقد سُحقت كرامة العاشق تحت وطء صفعة رجل الأمن، واعتُقل العازف الضرير، ولم يتحقّق التواصل المُرتَجَى أصلاً من هذه الخَلْوَة.
كأنما نبيل المالح كَتَبَ «الكومبارس»، كما فيلمه القصير «فلاش»، في لحظة غضب عارم، وهو يرى الأحوال السورية تمضي إلى مأزقها الصاعد إلى الكارثة، بدءاً من تراجع السِّيْنما السورية ذاته، بوصفها نموذجاً وعنصراً من عناصر الثقافة السورية الحديثة (شارك نبيل المالح في التوقيع على «بيان السِّيْنمائيّين السوريّيْن»، في العام 1999، الذي اهتمّ «بالدفاع عن حُرّيّة الإبداع والتعبير، وبالحديث عن دور الفساد والاستبداد في القضاء على الحراك الثقافي والاجتماعي»)، وليس انتهاءً بانتشار العشوائيات حول دمشق، والإمعان في تزييف هذه المدينة العريقة، ما أطاح بهويّتها الحضارية والعمرانية، وباتت في غربة عن ذاتها، وعن أبنائها، وعن السياق التاريخي السياسي والاجتماعي الذي كان جوهر أحلام أجيال سورية منذ «الجلاء».
وعلى رغم عدم انتسابه للمعارضة السورية التي جرى تركيبها، عربياً وإقليمياً، وبإرادات قوى دولية، إثر انفجار الأوضاع في سوريا، في العام 2011، وعلى رغم احتفاظه بمسافة نقدية من القوى كافّة، نظاماً وموالاة ومعارضات بمختلف أنواعها، إلا أن نبيل المالح شاء الحفاظ على معارضته التي صاحبتْهُ طيلة مسيرة حياته، وفيّاً لمُكوِّناته الثقافية، محافظاً على رؤيته، متمسّكاً بمواقفه، لم يمنعه هذا من إجراء بعض المراجعات، ظهر ذلك في كتابته معالجة مشروع فيلمه «الوَشْم السابع»، الذي رحل قبل أن يتمكّن من تحقيقه.
قُلنا في مُفتتح الكلام؛ لعلّ نبيل المالح الأكثر تمثّلاً للثقافة السورية الحديثة، والحقيقة أنه برحيله في المنفى، غريباً وحيداً، أعاد للثقافة هذه أسئلتها ومهمّاتها الأولى، وهي التي تبدو اليوم على بوّابة رياح شديدة العصف، وقيد المجهول الذي تَنْحَتُهُ قوى ظلامية ونكوصية تاريخية وفوضى واستبداد وصراع مصالح وقوى لا تَرحم.