“تِنّين مُجنّح.. حِمار بخمسِ أرجل.. وسيّدة عجوز”.. رأيتُ ثلاثتَهم يقفونَ في هدوءٍ على رصيفِ محطة المترو.. السيّدة العجوز تراجعتْ خطوةً إلى الوراءِ بينَما راحتْ أجهزة الإنذار الحمراء تُحذّر مِن قدوم قِطارٍ جديدٍ، أغمضتُ عَينَيّ ثلاثَ مراتٍ، ثلاثَ مرَّات.. لِأتأكدَ أنَّ مَا أراهُ مُجرد تهيّؤاتٍ.
“مُجرّد تَهيّؤات”.. رَدَّدْتُ الكلمتينِ فِي سِرّي قَبلَ أَنْ أُغامِرَ وَأفْتَحَ عَينِي للمرةِ الثالثةِ، لأجِدَ الثلاثةَ أمامِي.. إذنْ لَيستْ تَهيّؤات.. فعَلى بُعد خطوات مِنّي يقفُ تنين مُجنّح.. حمارٌ بخمسِ أرجل، وسيّدة عجوز، يَصطَفُّونَ صَفًّا، واحِدًا تُلوَ الآخَر، فِي انتظارِ قِطارٍ قادمٍ.
يبدُو أنَّ وجودَ الثلاثةِ في محطَّةِ مترو الأنفاق، تَحتَ الأرضِ أمرٌ عادي، فالركّاب لَم يَفعلوا شَيْئًا حِيالَ الأمرِ .. كانُوا يمرّون دونَ إبداء أدنَى اهتمامٍ، لَم تَعلُ علَى الوجوهِ المتعبةِ سوى علاماتِ الزهَق.. القرَف.. والحُزن، كانُوا يعبرونَ خلْفَ التنّين المُجنح، يتفادونَ ذيلَه ذَا الشوكاتِ الثلاثِ البارزاتِ فِي حِدةٍ وتحدٍّ في آنٍ واحدٍ، ويُكملونَ مسيرَتَهم، بعضُهم كان يختارُ المترَ الأخيرَ في نهايةِ الرصيف ويقِفُ.. البعْضُ الآخَر يُفضّل المنَتصفَ.. والسيّداتُ، كالعادة، يقفْنَ في المِساحات الّتي تَبعُد عَن العربة الّتي خَصَّصتْها لهم إدارةُ المترو.. دائمًا يفْعَلنَ هذا ولا أدْري لماذا؟!
برزَتْ مقدمة القطار في أوّل الرصيف.. ثُم توقّفَ عن الحَركةِ تمامًا.. ولا تزالُ أجهزةُ الإنذار تزعق محذرةً من القادم.. لم ألمحْ أحدَهم يتحرّكُ خطوةً واحدةً تأهّبًا لاستقلالِ القطار المتوقف علَى بُعد خطوات منهم.. وإن كان هناكَ مَن اكتَفَى بمنحِ رأسِهِ التواءً بَسيطًا ليتأكَّدَ مِن قدومِ القطارِ، لَمْ تَرتفعْ – هَكذا جَرَت العَادَة – صَيحَات الاستهجانِ للقطارِ المُتأخّر.. لَم يُحاول أحَدٌ مَنحَ السائقِ واحدةً مِن اللعناتِ الّتي يُطلقها الرجال، والنساء في الآونة الأخيرة، على كل شيء متأخر في البلد، الجميع يقفونَ.. ينتظرونَ.. يعبرونَ من خلف التنينِ المجنح، الحمار ذي الأرجلِ الخمس، والسيّدة العجوز.. وأصبحتُ الرابعَ في مرحلة التجاوزِ هذه.. دون أن يمنحُوا واحدًا منّا نظرةً.. وقفتي كانت – في الأحوال الطبيعية- مِن الممكنِ أن تثُير العجبَ.. أقفُ في منتصفِ الرصيف.. أتحرك يمينًا ويسارًا.. أتقدّم خطوة، وسرعان ما أتراجع، وبالقرب مِنّي يصطفُّ تنينٌ مجنحٌ.. حمارٌ بأرجل خمس.. وسيدةٌ عجوز يبدو أنها قائدة هذا الركب الغريب، المُثير للدهشة.
دقائقُ عدةٌ كانتْ كافيةً لأقفِزَ علَى حاجزِ المفاجأة، قبلتُ أن تكون الكائنات الخرافية الغريبة هذه واقفة أمامي، تنتظرُ قطارًا توقَّفَ في بداية الرصيف، لا تثيرُ استياءَ أحدٍ أو حتّى استغرابه.. قبلتُ أن أكونَ جزءًا من المشهد، لكنني تساءلتُ.. كيف سمحت لهم إدارة المحطة بالمرور؟!.. هَل قفزَ الحمار فوق الماكينة؟! هل فرد التنين جناحيْه ولامسَ سطحَ صالةِ ماكينات المرور، وعبرَها بسهولة، أم أنّه نفَثَ من فمِهِ نارًا فأحرقَها وأحرقَ مَن يقفُ إلى جوارِها؟!.. والسيّدة العجوز.. هل عبرت وراءَ راكبٍ أكثرَ شبابًا منها، بعدما أظهرت له قلة حيلتها في شراء تذكرة؟!
الموظفونَ الملاعين.. يبدو أنهم تحالفوا ضدي ليضعوني في هذا المأزقِ.. أذكرُ أنّهم اعترضوا طريقي أكثرَ من مرةٍ.. أوقفُوني لأنَّ ماكينتهم العتيقة رفضت ابتلاعَ تذكرتي فأصدرت صوتًا تحذيريًّا بـ«عابر لا يستحقُّ المرورَ»، أذكُر أنَّ اسمي وُضع في محضر «مخالفة القواعد»، لأنَّ تذكرتي سقطت سهوًا من جيبي الخلفي، بينما كُنتُ أقدِّمُ يدَ المساعدة لسيدة أربعينية لتتمكَّنَ من اللحاقِ بالعربة الأخيرة، في قطار أخير، دافعةً أمامَها كُرسيًّا مُتحركًا يَحملُ طفلًا أظنُّهُ لَم يتجاوز العاشرةَ.. كانَ مبتسمًا.. بالمناسبة.
لولا نَصيحةٌ منحتْني إيّاها أمّي مُنذ سنواتٍ لا أزالُ أحتفظُ بِها كـ “حلق في أذني”، لقفزتُ إلى داخلِ العربةِ بعدَما توقَّفَ القطارُ وفتحَ أبوابَه لاستقبالِ الرُكاب وإنزالهم، لكنَّني تمهَّلتُ، قالتْ لي يومَها: “بُنيَّ.. لَا تتجاوزْ كبارَ السنِّ في الطرقَات.. مَحطات الانتظار.. الطوابير الطّويلة الممتدة.. امنحْهم دائمًا لذةَ الانتصارِ بالتَّقدّم عليكَ.. بقائِكَ خلفَهم.. تكفيهم هَزائمُ المواعيد المؤجَّلَةِ الَّتي لَم يَلحقوا بِها، لِتكنْ سَبَبًا فِي أنْ يحملُوا مَعَهم نَصرًا وحيدًا مُستحقًّا يَذهبونَ بِهِ إلى هُناكَ”.
التنين المجنّح كانَ الأخيرَ الّذي تمكَّنَ من الدخول إلى عربة المترو المتأخر، قفزتُ مسرعًا بعدما أيقنتُ أن رفيقَيْه، السيّدة العجوز والحمارَ ذا الأرجل الخمس، وجدَا مُتّسعًا لهما داخل العربة، كِدتُ أسقطُ أرضًا بَعدما اصطدمتُ بطرفِ ذيلِ التنين، تَعثَّرتُ في الشوكة الثالثة، ولِحظِّي، يبدو أنها كانَت الشوكةَ الأضعفَ، فأوجَعَتْهُ كثيرًا، ولولا الفتاةُ الّتي قَفزَتْ، مَا كُنتُ سَأكتبُ هذه الحكاية يومًا ما، أنقذتني الفتاةُ في اللحظةِ قبلَ الأخيرةِ مِن «غضبة التنين»، الذي سُرعان ما أعادَ ذيلَه إلى وضعِ الدّفاع، ابتلعَ “كُرة لهبٍ” لَمحتُ لونَها الأحمرَ القانِي يُغطّي حَلقه، استعْدادًا لقذفِها في وجهي، مُوليًا وجهَه ناحيةَ رفيقيْهِ، تاركًا إيايَ أواجهُ بقيةَ رفاقي – رفاقنا – في العربة، واجهتُ الجميعَ بِلا خوفٍ، نظرت في عينِ كل واحدٍ منهم، أقسمتُ لهم أنني اصطدمتُ منذُ قليلٍ بـ”ذيل تنين”، لكنهم تجاهلوني، ورأيتهم يسقطونَ واحدًا تلوَ الآخر في بحرِ الفتاة، تعلَّقَتْ بَعضُ الأعينِ بشعرِها الطويلِ جدًا.. كانَ طويلًا للدرجة الَّتي تَصوَّرتُ أنَّها تمتلكُ ذيلًا، لكنَّه كانَ بِلا أشواكٍ، البعْض الآخر انحدر إلى الأسفل.. تركَّزَت النظرات على المنطقة الفاصلة بين النهدين، قناةِ الفتنة، لم تكنْ مُتسعةً مظلمةً، كمنْ قفَزتْ فوقَ حاجزِ الأربعينَ، ولم تكن ضيقةً بائسةً لصبيةٍ تحلمُ برجلٍ يدعوها للرقص داخلَ عربة المترو، وينثر على جسدِها الزهورَ، كانتْ في المنتصف، لامعة.. واثقة.. مدهشة.. ومثيرة، ظِل النهد الأيسر انكسر على الجانب الأيمن لجسد الفتاة، انكسارًا فاتنًا كان، أما النهد الأيمن فمارس هوايته في الارتعاش مع حركة المترو المضطربة، فخرج ظِلهُ مرتبكًا، مثله ومثلي.
من اليمينِ خمس مرات، ومن اليسار مرة، تبادلت أبواب المترو مرات الفتح والإغلاق طوال المحطات الست، كنتُ قد اكتفيتُ من ليلتي هذه بكل ما حدثَ، التنين المجنح، الحمار ذي الخمس أرجل، السيدة العجوز، والظِل المُرتبك للنهد الأيمن، فقررتُ النزولَ، ألقيتُ نظرةً علَى العربة، خاويةً كانْت، لا تنين يخفى وراءه حمارا وسيدة، لا فتاة تُعريها الأعين، بل تغتصبُها، لا ظِلالَ نهدٍ واثقٍ وآخرَ مضطربٍ، لا ركّابَ غيري في قطارٍ لم يُغادرْ حتّى الآن محطتَه الأُولى.
*****
خاص بأوكسجين