قدّاس الحب المسموم
العدد 294 | 25-5-2025
مها عواودة


قلت: السينما تجمعُنا!

بدت لي لاحقاً شاشةً زجاجية لا تصلح إلّا كلوحٍ شفاف يعرض كسورنا!

أدرتُ ظهري للشاشة لحظةً، فظننت أن الفيلم انتهى! لكنّ الصوت ظلَّ يخيط الفراغ، كما لو أنه وتر يتذبذب كعصبٍ مفضوح، ثم تلتحق به طبقةٌ أدنى، تشبه زفرة مقصٍ عالقٍ في حريرٍ سميك.

هذا ما يفعله جوني غرينوود[1]، يرسل نغمةً بدائية كصيّاد، يختبر الطعم، ثم يسحب سمكة القلق بكامل قشورها إلى قلب المشهد. لقد أتاح له بول توماس أندرسون[2] أن يفضّ أزرار ثوبٍ ضيّق، ليكشف عن صدرٍ أخفى كدماته طويلاً، وما إن يلتقي النَّفَس بالنَّفس حتى يرتبك الإيقاع، فيتهادى المشهد فوق حافة سكين مطبخٍ لا يلمع إلا ليلاً.

البيت، الذي شيّدته الكاميرا رويداً رويداً… غرفةً بعد أخرى، يبدو لوهلةٍ متحفاً للهواء؛ كل قطعة أثاث، كل نافذةٍ مرصّعةٍ بوصايا الأم التي لم تعد تتحدث إلا من إطارٍ مُغبرٍ عندما يجلس الخياط خلف ماكينة “سنغر” العتيقة، كمرمِّم لوحاتٍ في كنيسةٍ خاويةٍ يتسلل إليها الضوء من زجاجٍ رصاصي، ويُعلن قدَّاسه الخاص طقطقةُ إبرة، صفيرُ بكرة، وارتعاش موسيقى تتسلل كخطواتِ قطةٍ على السجاد.

يقول لنا أندرسون من وراء الستارة: إن لم تسمعوا صوت القماش يتمزّق فلن تعرفوا معنى أن يحبَّ أحدُكم الآخر حد الخدش. فيصعب علينا ألّا نتذكر اللافتة المعلَّقة قبل سنواتٍ خارج إحدى الصالات أثناء عرض “حب” لمايكل هانيكه، تقول: “إنه ليس فيلماً عن الحب بالمفهوم الرومانسي المعتاد”.

في المطبخ، حيث تُروى القصصُ المسمومة على هيئة فطرٍ يابسٍ، تفرم ألما الثوم، تتركه يتعرّى تحت الزبدة، ترشّ الملح، وتذوّب الفطر في مرق الصباح، فتذيب معه يقينه الحديدي. “لا تحدّقْ بي فستخسر”، قالتْها، وها أنا أقول: لا تحدّقْ بالحب فتخسر. فالحب! قد يكون قطرة سُمٍّ محسوبةٍ بالجرعة مع كل دقيقةٍ من صمتها. وهو مع كل قضمةٍ يتذكّر أنه يكمّل نصفه بالنقصان، وأن الزلّة جزءٌ لا يتجزّأ من تصميم الأكمام، بينما أتساءل: “كم من الفطر السامّ كان عليكَ إطعامي لتحافظ علي! كم منه كان عليَّ أن أطعمكَ لتبقى!”

كل قضمةٍ تقرّبني منكَ خطوة، وكل وخزةٍ في أمعائي تعيدكَ طفلاً يُدوّر رأسه بحثاً عن حضنٍ باردٍ في قيظ النهار. وأنتَ لا تحبني إلا حين تتعثر، يوم يُثقل السم أطرافك، وتهمس: “لا تتركيني”. أمسك يدكَ كما يمسك الخيّاط آخر خيطٍ قبل العقدة، لتكتشف فجأةً أنك لستَ وحيداً، وتنسى لساعةٍ واحدة حسابات الملح والأزرار وأطوال الأكمام.

لم يعد مهمّاً مَنْ مِنا تناول الفطر ومن تلّوى، فقد أصبحنا جسدين يشدّهما خيطٌ لا يُرى، يلتفّ ببطءٍ حول الساعات، ويمنع العقارب من إعلان الصباح.

إنه الحبل الرفيع الذي خرجتُ به من الصالة حول معصمي، يذكّرني أن خلخلةً واحدةً تكفي لتمزيق الثوب كله، لكن خلخلةً أجمل هي التي تبقيه مشدوداً ليلمع بعيون الغرباء.

هذه الخيوط الوهمية ستربطنا دائماً بالأشياء التي خلقتنا، ولولا نوبات الاكتئاب لكنتُ نسيت رقم هاتف أمي، أقصد الهاتف الذي ورثتُه عن أبي، ولهربت من شريط القياس المتدلّى من عنقك الى الأبد، لكن صوت ماكينة الخياطة يشبه نبضاً يدوّن اعترافه. نحن الاثنان فهمنا اللعبة، الحب هنا إبرةٌ مخصصةٌ للتطريز على الهواء، والهواء حيوانٌ أليفٌ يجرّ جرعة سمٍّ على المقاس كي يعلّمنا كيف نبتسم، ونحن نشدُّ الغرزة الأخيرة حول رقابنا.

وفي النهاية، فأنك حين تضع يدك على صدرك فستشعر بالخيط ينبض تحتها، تلك ليست عضلة قلب، بل إبرةً تجسّ نبض الكائن الذي كنّاه معاً، صورةً متكررةً في مرآةٍ يصدأ زجاجها بطيئاً، فتستبدلها آلة العرض بحركةٍ خفيّةٍ لتبدأ البكرة من جديد، لأن الفيلم الذي لا يُعاد لا يتقن حياكة الألم، ولأن الحب، كما يظهر في هذا النور الشاحب، لا يبرأ إلا إذا خيطٌ على قماشٍ يتذكّر كل وخزةٍ مرّتْ عليه.

______________

[1]   مؤلف موسيقي وممثل وهو صاحب مقطوعة ” وشم بوك بيفرتون” في فيلم بول توماس أندرسون “خيط السراب” عدا عن مقطوعات أخرى في أفلام أندرسون مثل “ذي ماستر” و”سيكون هناك دماء” وغيرها

[2]    المخرج الأميركي المعروف، والنص مستمد من فيلمه “خيط السراب” (2017).

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من فلسطين