جسدٌ مقطّر
العدد 189 | 27 نيسان 2016
همام كدر


يُقطّرني الغياب …مناماً مناماً

أرض دارنا العربية … سوداء تعصف فيها الأعمدة الصدئة

أصداء ضحكات ضيوف أمي لا تزال ترنُّ بين غارة وأخرى

أصحاب الأصوات رحلوا وتهجّرت ربة المنزل إلى مكان قريب… بعيد

لكن الصدى لا يزال هائماً يلتفُّ حول العريشة كل موسم، يقاوم أثر الحرب، لكنه لا يُزهر…

“البيوت لا تموت برحيل أصحابها، تبقى تنتظر وإن هرمت، تنام ويدها على خدها، كأمهات الشهداء والغائبين قسراً، البيوت أفراد من الأُسر، كل جد بنى بيتاً أصبح بمثابة ولد يضاف إلى شجرة العائلة، كتفا جدي بنيا بيتاً من طين وعَرق”.

… … …

رفُّ الحمام سيعود هذا المساء من “الورشة”

عمتي الثمانينيّة تُعدُّ وجبة العشاء الصيامية، قبيل الفصح المنتظر

والدي يقول لها إن الله ليس كاثوليكياً أو على الأقل ليس للكاثوليك وحدهم.

هذا العيد لن يقوم المسيح، ستقوم حمص.

في السادسة تماماً يخرج شعراء المدينة ومجانينها إلى المقاهي.

شابة عشرينية تُعيد ترتيب شالاتها بما يليق بالصوت البشري الخارج من كَمَانها.

المدينة المزنّرة بالطيب، تفتح شوارعها للخارجين إلى اللاعمل.

…  … …

الخميس مساءً تتكاثر أكتاف الناس.

“برطاش” البيت يصبح محجاً للأولاد حتى منتصف الليل.

وزوايا الحارة مقاعد المراهقين، ينتظرون مروراً عابراً أو عطراً منثوراً…

“الكنيسة بأبهى حلل بساطتها تنادي عريسها “فرانس” لا لتعليمنا الدين بل ليصحح لنا تنفسنا ويقيم لنا علاقة مع أرضنا وهو القادم من أقاصي الأرض، وكيف نصبح قناديلاً في الليل حين نمر في حمص القديمة”.

إمام الجامع الكبير يتوضأ لصلاة يتجدد بها خمس مرات في اليوم

يدعي للمدينة بالخير ولسكانها بمزيد من الطيب على وجوههم

“أم العريس زلغطي ولالي جيتك كني يا بدر الهلالي”

زفاف يمر بين الساعتين،

ما بالك يا حمص مثل “أم العريس” مشغولة دائماً.

…   …   …

المدينة كل أسبوع تزف نفسها عروسة بين أبنائها،

وحده جسدي غائب كل خميس عن المشهد،

جسدٌ تطحنه الغربة كل مساء.

تُدقُّ له أجراس العودة لكن لا يرجع

تُغطيه الأشواق عبر الهاتف لكنه عارٍ… وبارد من وهج هذي الصحاري الشاسعة.

قلبٌ ينطفئ وريداً وريداً وقبراً وراء قبر… بانتظار المُشتهى هناك في ثرى المدينة البهية رغم نكباتها.

*****

خاص بأوكسجين


صحفي من سورية