لأنني وجدت أنَّ من الصعب أنْ أولي اهتماماً بأي شيء آخر غير أفكاري، كان تعليمي أمراً صعباً. حاول عدد من أقربائي أنْ يعلّموني القراءة، ولأنهم لم يتمكنوا من ذلك، ولأنني كنتُ أكبر سناً بكثير من الأطفال الذين يقرؤون بسهولة، خلصوا إلى الاعتقاد، كما علِمتُ لاحقاً، بأنني لا أمتلك كامل قُدراتي. ولكن لولا حادثة وقعت لظلوا يعتقدون ذلك لفترة طويلة من الزمن. كان والدي يلازم المنزل ولم يخرج إلى الكنيسة، وهذا أمدَّني بالشجاعة لرفض الخروج في صباح أحد أيام الآحاد. ولطالما كنتُ ملتزماً، وكانت عيناي تمتلئان بالدموع لذكر الله وتذكُّر آثامي، لكنني كنتُ أكره الكنيسة. حاولتْ جدَّتي أنْ تعلّمني أنْ أضع مشط قدمي على الأرض بدل أنْ أطأ أولاً على كاحلي، وهذا حرمني من متعتي. ولاحقاً عندما تعلمت القراءة أصبحت أستمتع بكلمات الترتيل، لكنني لم أفهم أبداً لماذا كان يستغرق من الجوقة ثلاثة أضعاف ما يستغرق مني لبلوغ النهاية ؛ والجزء من القداس الذي كنت أحبه، الموعظة وفقرات من سِفر الرؤيا وسِفر الجامعة، لم يعوّضا عن كل مرات التكرار وعن التعب من طول الوقوف. وقال والدي إذا لم أذهب إلى الكنيسة سوف يقوم بتعليمي القراءة. والآن أعتقد أنه أراد مني أنْ أذهب إكراماً لجدّي، ولم يخطر في باله طريقة أخرى. كان معلِّماً غضوباً وضيق الصدر وضربني بكتاب القراءة، وفي يوم الأحد التالي قرّرت أنْ أذهب إلى الكنيسة. لكنَّ والدي كان قد أصبح مهتماً بتدريسي، وكل ما فعل أنه نقل الدرس إلى يوم داخل الأسبوع إلى أنْ تغلَّبَ على عقلي الشارد. أعتقد أنَّ أول صورة واضحة أحملها له ثابتة في ذهني، وتعود إلى ما قبل تلقّي الدرس الأول ببضعة أيام. كان قد وصل من لندن ويذرع أرض غرفة الحضانة جيئة وذهاباً. كانت له لحية وشعر حالك السواد، وإحدى وجنتيه منتفخة بسبب وجود ثمرة تين هناك لكي يتخلَّص من آلام سنّه النخر. قالت إحدى الممرضات (كانت قد قدمت ممرضة من لندن مع إخوتي وأخواتي) للأخرى إنها سمعت أنَّ استخدام ضفدعة حيّة هو أفضل علاج. ثم أرسلوني إلى مدرسة خاصة تديرها امرأة عجوز كانت تجعلنا نقف في صفوف وتحمل عصا طويلة تشبه عصا البلياردو لكي تصل بها إلى الصفوف الخلفية. وكان والدي لا يزال موجوداً في سليغو عندما رجعت من درسي الأول وسألني عما تعلمت. فقلت إنني تعلّمت الغناء، فقال ” إذن، غنِّ “، وغنيت –
قطرات صغيرة من الماء،
حبّات صغيرة من الرمل،
تشكل المحيط الهائل
والرمال الجميلة.
بأعلى صوتي. حتى أنَّ والدي كتب إلى السيدة العجوز طالباً ألا تعلّمني الغناء أبداً، وبعد ذلك صار يطلب هذا من المعلمين الآخرين. وبعد فترة وجيزة قامت أختي الكبرى بزيارتنا وذهبنا أنا وهي إلى منزل يتألَّف من طابقين في شارع بائس حيث علَّمتنا سيدة عجوز الهجو والنحو. وعندما تعلّمنا الدرس جيداً، سمحتْ لنا بالتفرُّج على سيف قُدِّمَ هدية لوالدها الذي كان قد قاد قوات عسكرية إلى الهند أو الصين وبهجاء عبارة مديح طويلة منقوشة على الغمد الفضي. وفي طريقنا إلى منزلها أو العودة إلى منزلنا كنا نحمل مظلة كبيرة أمامنا، نمسك مقبضها نحن الاثنان ونشق طريقنا بالنظر من الثقب المستدير الذي أحدثه فأر فيها. وعندما تجاوزت كتب المقطع الواحد، وبدأتُ أقضي وقتي في غرفة تدعى المكتبة، على الرغم من أنني لا أتذكّر من الكتب التي تحويها إلا بعض الروايات القديمة التي لم أفتحها أبداً وموسوعة من عدة مجلدات طُبِعَت في أواخر القرن الثامن عشر. وقد قرأت قسماً كبيراً من تلك الموسوعة وأتذكّر فقرة طويلة بخصوص ما إذا كانت غابة متحجرة على الرغم من مظهرها قد لا تكون مجرد حجر غريب الشكل.
دفعني إلحاد أبي إلى التفكير في دلائل الدِين وقمت بتقييم المسألة على الدوام بقدر كبير من القلق، لأنني لم أكن أعتقد أنني أستطيع أنْ أعيش من دون دِين. أعتقد أنَّ انفعالاتي الدينية كانت موصولة بالغيوم وبلمحات غائمة في سماء مُضيئة، ربما بسبب صورة واردة في الكتاب المقدس للرب وهو يكلِّم إبراهيم أو ما شابه. على الأقلّ أتذكَّر أنَّ المشهد كان يؤثّر فيَّ حتى البكاء. وذات يوم أصبح لديّ حجّة حاسمة للإيمان، فقد كانت بقرة توشك أنْ تضع عجلها، وذهبت إلى الحقل الذي كانت البقرة تحت رعاية بعض المزارعين الذين حملوا مصباحاً، وفي الصباح الباكر من اليوم التالي سمعت أنَّ البقرة وضعت عجلها. وسألتُ الجميع كيف تولد العجول، ولأنَّهم رفضوا أنْ يُخبروني، قررت أنَّ لا أحد يعلم. إنها هدية من الله، هذا مؤكَّد، ولكن كان جلياً أنَّ لا أحد جرؤ على أنْ يرى كيف وصلت، ولابد أنَّ الأطفال يصلون بالطريقة نفسها. وصممت على أنني عندما سأصبح رجلاً سوف أسهر إلى أنْ يولد طفل أو عجل. كنت متيقناً من أنه ستمر سحابة ويسطع نور في السماء ويجلب الله عجلاً على متن السحابة من قلب النور. رضيت بتلك الفكرة إلى أنْ جلس ولد في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة إلى جواري، وكان قد جاء في زيارة ليوم واحد، في مخزن التبن وشرح لي آليّة العملية الجنسية. كان قد علِمَ بأمرها من صبي أكبر سناً كان يمارس معه اللواط (وهذه كلمة أستخدمها لأنه لا يفهم معناها) وحسبما أرى الآن، فإنَّ وصفه الذي أعطاه وكأنه مجرد حقيقة عادية من حقائق الحياة الجسدية، جعلني بائساً على مدى أسابيع طويلة. وبعد زوال الانطباع الأول، بدأ الشك يساورني حول إنْ كان ما قاله صحيح، ولكن ذات يوم اكتشفت فقرة في الموسوعة تؤكد، على الرغم من أنني لم أفهم كلماتها الطويلة إلا جزئياً، على صحة ما قال. لم يكن لديّ ما يكفي المعرفة بحيث أُصدَم بعلاقته مع الصبي الأكبر سناً منه، لكنها كانت أول اختراق لحلم الطفولة.
أتاني إدراك الموت عندما كان والدي ووالدتي وإخوتي وأخواتي يقومون بزيارة. كنتُ في المكتب عندما سمعت وقع أقدام مارة مسرعة وسمعت أحدهم يقول في الرواق إنَّ أخي الأصغر، روبرت، قد مات. كان مريضاً منذ بضعة أيام. وبعد قليل جلسنا أنا وأختى على الطاولة، ونحن سعيدان، نرسم سفناً وأعلامها ترتفع حتى منتصف الصواري. لابد أننا كنا قد سمعنا أو شاهدنا السفن في المرفأ ترفع أعلامها حتى منتصف الصواري. وفي اليوم التالي وعلى مائدة الإفطار سمعت أناساً يحكون كيف مات أخي. ولابد أنني بعد ذلك أخبرتُ جدَّتي بأنني لن أرافقها عندما ذهبت تزور أناساً عجائز يلازمون الفراش لأنهم سيموتون قريباً.
*
كان منزلنا في العام الأول أو نحوه يقوم فوق قمة جرف، بحيث أنَّ في الطقس العاصف كان رذاذ المطر يبلل فراشي ليلاً، لأنني كنت قد أزلت الزجاج عن النوافذ، والإطار وكل شيء. وكان شغفي الأدبي بالهواء الطلق سيبقى معي بضع سنوات. ثم على مدى عام آخر أو عامين كان لدينا منزل يطل على المرفأ حيث المشهد الوحيد العظيم هو خروج ودخول أسطول الصيد. وكانت لدينا خادم منتظمة واحدة، زوجة صياد، بالإضافة إلى المساعدة غير المنتظمة من فتاة ضخمة، حمراء الوجه، التي أكلتْ ملء قدر كامل من المربّى في أثناء غياب أمي في الكنيسة واتهمتني بذلك. بعض من مثل هذه الترتيبات دام حتى بعد أنْ كتبت عنها بفترة طويلة، وإلى أنْ ولج والدي المطبخ مُصادفة ووجد الفتاة، التي كانت مخطوبة خلال فترة عوز عابرة، تبكي لأنها ستترك خادمتنا الأخرى، ووعدتها بألا تفترقا أبداً. ليس لدي أي شك في أننا عشنا في منطقة المرفأ إكراماً لأمي. وعندما كنا صغاراً، رفضت أنْ تأخذنا إلى مكان على شاطئ البحر لأنها علِمَتْ أنه يوجد فيه كشك للاستحمام، لكنها كانت تحب النشاطات في قرية صيد السمك. وعندما أفكر فيها، فإنها تتراءى لي دائماً تقريباً تتحدث وهي تشرب فنجاناً من الشاي في المطبخ مع خادمتنا، زوجة الصياد، حول المواضيع الوحيدة المُثيرة للاهتمام خارج نطاق منزلنا – عن الصيادين في هوث، أو عن مرشدي السفن والصيادين في روسيس بوينت. لم تكن تقرأ كتباً، لكنها كانت مع زوجة الصياد تتبادلان الحكايات التي كان يمكن لهومر أنْ يرويها، تسعد بأي لحظة من الغنى المفاجئ والضحك معاً حول أية نقطة مُثيرة للسخرية. كانت هناك مقالة عنوانها ” أشباح القرية ” في كتابي ” غسق كلتي ” وهي ليست أكثر من سجل لفترة بعد ظهيرة شبيهة بتلك، وقد ضاع عديد من الحكايات الممتعة لأنه لم يخطر في بالي في الوقت المناسب أنْ أحتفظ بدفتر ملاحظات. كان والدي دائماً يمتدحها أمام أخواتي وأمامي، لأنها لم تكن تدّعي إلا ما كانت تشعر به. كانت تكتب له رسائل تخبره فيها عن ابتهاجها بالغيوم الساقطة، لكنها لم تأبه بالسينما، ولم ترتد معرضاً فنياً حتى لتشاهد لوحاته هو، ولم تزر محترفه لترى ما يعمل، لا الآن ولا في أول سنوات زواجهما. إنني أتذكر هذا كله بوضوح شديد وما بعده بقليل إلى أنْ أُصيب دماغها بسكتة أصابتها بالشلل واكتشفت، بعد أنْ تحرّرت أخيراً من الهم المالي، السعادة المثالية بإطعام الطيور من النافذة في لندن. كان والدي يقول إنها لطالما اتصفت بالغزارة، وهذه الكلمة كان يستعملها كثيراً في المديح، وذات مرة أضاف إلى المديح ” إنَّ المبذر لا يتّخذ من الشاعر ابناً، وإنْ كان بخيلاً “
*
إنَّ الحدث الأهم في حياة الفتى هو يقظة الجنس لديه. إنه يستحم مرات عدة في اليوم، أو ينهض في الفجر ويبدأ بالقفز وهو عار من فوق عصا موضوعة بين كرسيين، ويكاد يجهل، دون أنْ يعترف، أنه بدأ يستمتع بعُريه، ولن يفهم التغيُّر الذي طرأ عليه إلى أنْ يكتشف ذلك في أحلامه.وقد لا يفهم أبداً التغيُّر الأكبر الذي طرأ على دماغه.
خطر لي الأمر كله وأنا أقترب من سن السابعة عشرة كانفجار قنبلة يدوية. فتيات ريفيات يسرن في نومهن، عندما يحدث لهنّ الأمر يرمين الأطباق، أو يشدهن من شعر طويل كما تفعل الروح الشريرة، أو يُصبحن وسائط روح خبيثة حقيقية، تستسلم لرغبتهن في الرائع. وبينما أستعرض الماضي، يبدو أنني اكتشف أنَّ انفعالاتي، ومصادر حبي ويأسي، بدل أنْ تكون أعدائي، وإزعاجاً وهجوماً، أصبحتْ من الجمال بحيث بات ينبغي أنْ أكون دائماً وحدي لكي أوليها كامل انتباهي. إنني ألاحظ الآن، وللمرة الأولى، أنَّ ما رأيته وأنا وحدي أشدّ حيوية في ذاكرتي مما رأيته وأنا مع صحبة.
دلّتني جماعة من الناس إلى كهف يقع على مسافة حوالي مائة وخمسين قدماً من درب على جُرف وفوق مستوى البحر بمائتي قدم، وأخبروني بأنَّ نزيلاً مطروداً اسمه ماكروم، مات قبل نحو خمسة عشر عاماً، كان قد عاش هناك على مدى سنوات عديدة، وأروني مسماراً صدئاً مغروزاً في الصخر ربما كان قد استُخدِمَ لتثبيت دريئة خشبية للحماية من الرياح وتقلبات الطقس. هنا أُخفيتُ علبة من القصدير تحتوي كاكاو وبعض البسكويت، وبدل أنْ آوي إلى سريري، كنتُ أتسلل إلى الخارج في الليالي الدافئة وأنام في الكهف بذريعة اصطياد العث. وكان ينبغي اجتياز حافة صخرية، آمنة بقدر كاف لكل صاحب عقل متوازن، ولكن إذا نظرت من فوق، فإنه يبدو ضيّقاً وزلقاً ؛ وقد ضاعفَ اعتراضُ شخصٍ غريب شاهدني أرتقيه من استمتاعي بالمغامرة. ولكن بعد أنْ صادفتُ في أحد أيام العطل عاشقين في الكهف، لم أعد أجد فيه بعد ذلك المتعة السابقة إلى أنْ سمعت أنْ شبح ماكروم قد شوهد، قُبيل بزوغ الفجر، ينحني فوق النار التي يُضرمها عند فوهة الكهف. كنتُ أحاول أنْ أطهو البيض، كما قرأت في أحد الكتب، بحرقه في التراب تحت موقد من الحطب.
***
خاص بأوكسجين
من سيرة الشاعر الإيرلندي وليم يتلر ييتس (1865 – 1939)