الجماعة تواجه المجتمع في أوروبا
قبل ثلاثين سنة، كان الأوروبيون ينظرون إلى تعدد الثقافات، وهو المصطلح الذي يشير إلى الانفتاح على مجتمع متنوع جامع لكل الثقافات والإثنيات، على أنه العلاج الشافي لمشاكل المجتمع الأوروبي. أما اليوم فالكثير منهم يعتبر هذا العلاج سبب المرض، والمسبب الأكبر لهذه المشاكل. إدراكٌ دفع بعض السياسيين المتنفذين في الأحزاب الحاكمة، بمن فيهم رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إلى شجب تعدد الثقافات علانية والتحدث عن سلبياته وتبعاته الخطيرة. فقد ساهم تعدد الثقافات في بث الحياة في الأحزاب اليمينة المتطرفة، وزاد من فرص نجاحها ونجاح رجال السياسة الشعبويين في كافة أنحاء أوروبا، ابتداءً من حزب الحرية في هولندا وصولاً إلى الجبهة الوطنية في فرنسا. وفي الحالات الأكثر تطرفاً، ساهم تعدد الثقافات في تشجيع أحداث العنف، كما حدث في الجريمة البشعة التي ارتكبها أندرش بهرنغ بريفيك في جزيرة أوتويا النرويجية في يوليو من العام 2011.
ما الذي أدى إذاً إلى حدوث هذا التحول؟ بحسب المعارضين لمفهوم تعدد الثقافات، فإن أوروبا قد سمحت بهجرات مكثفة إلى أراضيها دون المطالبة بالمستوى نفسه من الاندماج والتآلف اللازمين للحفاظ على وحدة المجتمع… والنتيجة كانت حالة من عدم التوافق الذي أدى إلى إضعاف التماسك الاجتماعي، وتقويض الانتماء القومي، وإصابة ثقة الشعب في مقتل. على المقلب الآخر لا يوافق مناصرو تعدد الثقافات على هذه النظرية، ويرون أن المشكلة لا تكمن في التنوع المفرط بل في التعصب المفرط.
إلا أن واقع تعدد الثقافات هو أكثر تعقيداً بكثير مما يفترضه الطرفان، والجدل الدائر حوله قد وصل إلى مرحلة السفسطة التي لا تفضي إلى أي مكان. لقد أصبح تعدد الثقافات رديفاً لكل المشاكل الاجتماعية والسياسية الأخرى، كالهجرة، وضياع الهوية، وخيبات الأمل السياسية، وتدهور أوضاع الطبقة العاملة. علاوة على ذلك، اتبعت الدول الأوروبية استراتيجيات متمايزة عن بعضها البعض، فقد ارتأت المملكة المتحدة مثلاً أن تمنح الجماعات الإثنية حصة متكافئة في النظام السياسي. أما ألمانيا فقد شجعت المهاجرين على عيش حياتهم بشكل مستقل بدلاً من منحهم الجنسية وحقوق المواطنة.
من جهتها رفضت فرنسا سياسات تعدد الثقافات واستعاضت عنها بالممارسات الاستيعابية وسياسات الاندماج البديلة. النتائج التي تمخضت عن كل نهج تنوعت أيضاً، فقد شهدت المملكة المتحدة بعض أعمال العنف الجماعي. أم في ألمانيا، فقد جنحت الجماعات التركية بعيداً عن النمط الاجتماعي السائد. وفي فرنسا أصبحت العلاقة التي تجمع السلطات الفرنسية بالجماعات الشمال إفريقية مشحونة بشكل كبير. لكن العواقب كانت نفسها في كل مكان… مجتمعات مفككة، وإقصاء للأقليات، ومواطنين يتآكلهم الغضب.
كأداة استُخدمت لأغراض سياسية، لم يوظّف مفهوم تعدد الثقافات للاستجابة للتنوع الثقافي فقط، إنما استُخدم أيضاً كوسيلة لكبح هذا التنوع. رؤية تكشف لنا عن مفارقة كبيرة، فقد تبنت سياسات تعدد الثقافات فرضية أن المجتمعات متنوعة بطبعها، وتعاملت مع هذه الفرضية كأمر مسلم به، لكنها افترضت ضمنياً أيضاً أن تنوعاً كهذا ينتهي عند حافة المجتمعات التي تسكنها الأقليات. كانت تلك الدول تنشد تنوعاً ممنهجاً عبر وضع الناس داخل صناديق إثنية وثقافية ضمن مجتمع إسلامي أحادي ومنعزل، وهذا على سبيل المثال لا الحصر، وتحديد احتياجاتهم وحقوقهم على هذا الأساس. سياسات كتلك، بكلمات أخرى، ساعدت على خلق انقسامات كانت تلك السياسات قد اعتُمدت في الأساس لتسويتها وحلها.
أسطورة التنوع
حلحلة العقد الكثيرة التي ينطوي عليها الجدل القائم حول تعدد الثقافات يتطلب فهماً للمنظومة بحد ذاتها. أتى مصطلح “تعدد الثقافات” ليحدد المجتمع الذي يتصف بالتنوع على وجه الخصوص، وعادة ما يتشكل هذا المجتمع نتيجة لما تدفق إليه من مهاجرين، والسياسات اللازمة لإدارة مجتمع كهذا في آن معاً. بهذا يجسد مفهوم تعدد الثقافات وصفاً للمجتمع ووصفة لكيفية التعامل معه في الوقت نفسه. الخلط بين التوصيف والوصفة، والذي يؤدي إلى النظر إلى المشكلة مع افتراض حل لها، قد أحكم العقدة في قلب الجدل. فك هذه العقدة يتطلب تقييماً متأنياً لكل من التوصيف والوصفة.
كلٌ من مناصري ومنتقدي تعدد الثقافات يتقبلون على نحو واسع فرضية أن الهجرات الجماعية قد أحدثت تحولاً في المجتمعات الأوروبية عبر جعلها أكثر تنوعاً. يبدو هذا إلى حد ما وكأنه حقيقة تحمل برهانها في ذاتها. تُعتبر ألمانيا اليوم ثاني أكثر وجهة تقصدها الهجرات في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية. في 2013، ولد أكثر من 10 ملايين إنسان، أو ما يزيد عن 12% من التعداد السكاني خارج أوطانهم الأصلية. أما في أستراليا فقد ارتفعت هذه النسبة إلى 16%، وفي السويد إلى 15%، وبلغت 12% في كل من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. لكن إذا ما نظرنا إلى الأمر من منظور تاريخي، نرى أن الادعاء القائل أن هذه البلدان هي الآن جامعة أكثر من أي وقت مضى ليس حقيقياً كما يبدو في الظاهر. قد تبدو المجتمعات الأوروبية في القرن التاسع عشر أكثر تجانساً إذا من نظرنا إليها من زاوية معاصرة، لكن تلك المجتمعات لم تكن تعتبر نفسها كذلك حينها.
لنأخذ فرنسا مثالاً، فخلال سنوات الثورة الفرنسية كان نصف التعداد السكني فقط يتحدث الفرنسية، وكان 12% منهم فقط يتحدثها بشكل صحيح. وكما أوضح الباحث التاريخي إيوجين ويبر، فإن عصرنة وتوحيد فرنسا ما بعد الثورة استدعى عملية مضنية وطويلة الأمد من الاستعمار الذاتي الثقافي والتعليمي والسياسي والاقتصادي. أدت تلك الجهود إلى نشوء جمهورية فرنسا الحديثة، ومن خلالها ولدت أفكار التفوق الفرنسي (والأوروبي) على الثقافات الأخرى غير الأوروبية. لكن هذا عزز أيضاً الشعور بعمق اليأس الاجتماعي والثقافي الذي ما زال يعاني منه معظم سكان فرنسا. في خطابه عن طب المجتمع النفسي، تساءل عالم الاجتماع المسيحي فيليبي بوتشيز “كيف يمكن أن يكون جزء كبير من تعدادنا السكاني قادماً من سلالات أخرى غريبة عنا، وأنا لا أتحدث هنا عن سلالة واحدة فقط، بل العديد من السلالات البائسة والمنحطة، والتي يُمكن أن تُصنف بدرجة أقل انحطاطاً من أكثر السلالات وضاعةً، ذلك أن وضاعتها مرضٌ لا براء منه”. تلك السلالات التي تسبب كل هذا القلق للسيد بوتشيز لا تعود في أصلها إلى أولئك الذين قدموا إلى فرنسا في هجرات جماعية من إفريقيا أو آسيا، إنما هم الطبقة الريفية الفقيرة والمعدمة في فرنسا!
خلال الحقبة الفيكتوريانية، كان العديد من البريطانيين ينظرون إلى الطبقة الريفية العاملة على أنها قادمة من سلالة أخرى. في مقالة عن حياة الطبقة العاملة في بيثنال غرين شرقي لندن ظهرت في العام 1864 في ملحق السبت لإحدى المجلات الرائجة في تلك الحقبة، تم تناول أوضاع الطبقة العاملة في الحقبة الفيكوريانية بصورة نموذجية. تقول القصة أن “فقراء بيثنال غرين” كانوا يعتبرون من طائفة مختلفة ومن سلالة لا نعرف عنها شيئاً. هؤلاء يتبعون أنماط حياة مختلفة عن أنماط حياتنا، ومن طبيعة تختلف عن طبيعتنا… أشخاص لا فائدة ترجى من التعاطي والتعامل معهم”. الواقع نفسه يسري إلى حد ما، وهذا على حد زعم كاتب المقال، على “النسبة الأكبر من المزارعين الفقراء”. وعلى الرغم من أن الفوارق بين طبقة العبيد وطبقة الأسياد كانت تعتبر “أكثر وضوحاً” من تلك التي تفصل بين طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء، فقد قدموا “بديلاً عادلاً جداً”، في الواقع كانت تلك الاختلافات عميقة جداً لدرجة أنها منعت قيام “أي مشاركة أو اختلاط”.
تشكل بيثنال غرين اليوم قلب المجتمع البنغالي الواقع شرقي لندن. العديد من البريطانيين البيض ينظرون إلى قاطنيه الآن على أنهم الفقراء الجدد لبيثنال غرين المنفصلين ثقافياً وعرقياً عن ذواتهم. لكن وحدها الأطراف السياسية كانت لتقارن بين الفوارق القائمة بين البريطانيين البيض وجيرانهم البنغاليين من جهة، وتلك التي بين العبيد والأسياد من جهة أخرى. على المقلب الآخر، الفوارق الاجتماعية والثقافية بين السيد الفيكتوري المحترم ومالك المصنع من جهة، والمزارع والميكانيكي من جهة أخرى، كانت في الواقع أكبر بكثير من تلك الفوارق القائمة بين المقيمين البيض وأولئك القادمين من أصول بنغالية مما هي عليه اليوم. لنأخذ على سبيل المثال مراهقين بالغين من العمر 16 عاماً، الأول قادم من أصول بنغالية ومقيم في بيثنال غرين، والآخر قادم من أصول بيضاء، نرى أنه مهما اختلفت الطريقة التي ينظران بها إلى بعضهما البعض فإن كليهما يرتدي الملابس نفسها ويستمع إلى الموسيقى نفسها، ويشجع فريق كرة القدم نفسه. مراكز التسوق والملاعب الرياضية ومواقع الإنترنت أصبحت تجمعهما معاً الآن ليعيشاً مجموعة من التجارب والممارسات الثقافية المشتركة بكثافة أكبر مما كانت عليه في الماضي.
حالة مشابهة من فقدان الذاكرة التاريخية أصابت تلك الجدالات المتعلقة بالهجرات الجماعية. ترى الكثير من المدن متعددة الثقافات أن الهجرات التي تحدث اليوم إلى أوروبا مختلفة عن تلك التي كانت تحدث في الماضي. في كتابه “تأملات في تداعيات الثورة في أوروبا”Reflections on the revolution in Europe، يشير الصحفي كريستوفر كولدويل إلى أنه قبل الحرب العالمية الثانية كانت الهجرات إلى أوروبا تأتي بشكل حصري تقريباً من القارة نفسها، ولهذا تم استيعاب تلك الهجرات بسهولة أكبر. يقول كولدويل: “استخدام كلمة (هجرة) لتوصيف التنقلات التي تتم ضمن القارة الأوروبية يشبه إلى حد ما استخدام كلمة “مهاجر” في وصف شخص ينتقل من نيويورك إلى كاليفورنيا!” بالنسبة إلى كولدويل، الهجرات التي كانت تحدث على مستوى شعوب أوروبا قبل الحرب تختلف عن تلك التي تأتي من خارج أوروبا بعد الحرب، ذلك أن “الهجرات الوافدة من البلدان المجاورة لا تحرّض على طرح تلك الأسئلة المقلقة المتعلقة بالهجرة، مثل “كيف سيتأقلمون مع الظروف الجديدة؟ هل ما ينشدونه هو الاستيعاب والاندماج؟ وفوق هذا وذاك “ما هي ولاءاتهم الحقيقية؟”.
لكن هذه الأسئلة نفسها كانت تجابه المهاجرين الأوروبيين في سنوات ما قبل الحرب. كان الباحث ماكس سيلفرمان قد وصف الفكرة القائلة إن فرنسا قد استوعبت المهاجرين الوافدين من باقي أرجاء أوروبا بأنها “وهم بائد”. الأمر نفسه يسري على المملكة المتحدة. في العام 1903، عبّر بعض شهود البعثة الملكية الخاصة بالمهاجرين الأجانب عن مخاوفهم من أن يجنح الوافدون الجدد إلى العيش “تبعاً لعاداتهم وأعرافهم”. كان هناك أيضاً مخاوف عبّر عنها الكاتب الصحفي جي إل سيلفر بقوله “النتاج المريض الشرير لأوروبا” التي يمكن “أن تصيب بعدواها المخزون البشري الإنجليزي”. القانون الأول المتعلق بالهجرة في البلاد، والذي حمل اسم “قانون الغرباء 1905” Aliens Act، تمت صياغته مبدئياً لوقف تدفق يهود أوروبا. بدون قانون كهذا، كما زعم رئيس الوزراء البريطاني آرثر بلفور في تلك الحقبة، “لن تعود الجنسية البريطانية هي نفسها، ولن تكون تلك الجنسية المرموقة التي ستنعم بها أجيالنا القادمة ويسعى كل من في العالم إلى امتلاكها”. نستطيع سماع أصداء لمخاوف معاصرة تتردد في هذا الكلام.
سباق إلى القمّة
أن تكون أوروبا الحالية جامعة ومنفتحة على الآخر أكثر مما كانت عليه فعلياً في القرن التاسع عشر هو أمر يقبل الجدال، لكن حقيقة أن الأوروبيين يرونها الآن أكثر تنوعاً من أي وقت مضى فهو أمر لا جدال فيه. يعود هذا في جزء كبير منه إلى التغير في طريقة تعريف الناس للفوارق الاجتماعية. منذ قرن ونصف، كانت الطبقة الاجتماعية تعتبر إطاراً بالغ الأهمية لفهم عمليات التفاعل الاجتماعي. وعلى الرغم من صعوبة تصور ذلك في وقتنا الحالي، فقد رأى الكثيرون أن التمييز العنصري كان يتم على أساس الفوارق الطبقية والاجتماعية وليس لون البشرة. لم يكن معظم مفكري القرن التاسع عشر مهتمين بالغرباء الذين يعبرون حدود بلادهم بقدر ما كانوا قلقين من أولئك الذين يقطنون في تلك الأحياء المظلمة البائسة داخل حدود بلادهم.
لكن أهمية الطبقة الاجتماعية كانت قد تضاءلت بشكل كبير على مدى العقود القليلة الماضية، سواء على المستوى السياسي أم كمؤشر على الهوية الاجتماعية. في الوقت نفسه أصبحت الثقافة أداة مركزية متزايدة الأهمية ينظر إليها الناس على أنها أحد الفوارق الاجتماعية. هذا التحول عكس توجهات أكثر شمولية. الانقسامات الأيدولوجية التي ميزت السياسات المهيمنة على مدى الـ200 سنة الماضية قد انحسرت، والفروق القديمة بين اليمين واليسار قد أصبحت أقل قيمة ومعنى. ومع فقدان الطبقات العاملة لقوتها السياسية، انحسر دور المنظمات العمالية والأيديولوجيات الجماعية. في هذه الأثناء كانت السوق قد تمددت لتصل إلى كل زاوية وركن في الحياة الاجتماعية. أما الهيئات التي كانت تجمع في العادة بين أشخاص من خلفيات مختلفة، بدءاً من المنظمات التجارية وصولاً إلى الكنيسة، فقد تلاشى دورها من الحياة العامة.
نتيجة لذلك بدأ الأوروبيون ينظرون إلى أنفسهم وإلى انتماءاتهم الاجتماعية بصورة مختلفة تماماً. وباتوا ينظرون إلى التكافل الاجتماعي ليس من المنظور السياسي بل من زاوية العرق أو الخلفية الثقافية أو الانتماء الديني. اصبح اهتمامهم بتحديد الجماعة التي يريدون الانتماء إليها أكبر من اهتمامهم بنوع المجتمع الذي يريدون بناءه. بدون شك هاتان المسألتان مرتبطتان معاً بشكل لصيق، وأي شعور بالانتماء الاجتماعي يجب أن يُنظر فيه إلى الناحيتين معاً. لكن الموشور الأيديولوجي كان قد أصبح أقل اتساعاً، وبما أن آليات التغيير أضحت بالية رثة، فقد أدت السياسات الأيديولوجية إلى ظهور السياسات القائمة على الانتماء. على هذه الخلفية أتى الأوروبيون ليروا أوطانهم بشكل خاص، وربما باحتمالية أكبر، منفتحة على التنوع، وبدؤوا بصياغة طرق للاستجابة إلى ذلك.
تحت مظلتي
إذا ما أمعنا النظر في وصف المجتمعات الأوروبية المعاصرة كمجتمعات متنوعة بصورة استثنائية، نرى عيباً واضحاَ في فهم تعدد الثقافات. ماذا يمكننا أن نقول أيضاً عن فرض تعدد الثقافات لإدارة ذلك التنوع المزعوم؟ على مدى العقود الثلاثة الماضية، تبنت العديد من الشعوب الأوروبية سياسات تعدد الثقافات، لكنها قامت بذلك كلٌ بأسلوبه الخاص. وبمقارنة تاريخية لاثنين من هذه الشعوب في ما يتعلق بهذه التجربة، وهما الشعب الألماني والبريطاني، وفهم ما لديهما من قواسم مشتركة، تتضح لنا الكثير من التفاصيل عن مفهوم تعدد الثقافات بحد ذاته.
إحدى أكثر الأساطير التي تتردد في أروقة السياسات الأوروبية هي حكاية أن الحكومات قد اعتمدت سياسات التعدد الثقافي لأن الأقليات أرادت أن ترسخ اختلافها. بالرغم من أن الأسئلة المتعلقة بالاستيعاب الثقافي قد استحوذت على التحالفات السياسية، إلا أنها لم تستحوذ على المهاجرين أنفسهم إلا مؤخراَ وبصورة نسبية. عندما وصل المهاجرون الوافدون من منطقة البحر الكاريبي والهند وباكستان إلى المملكة المتحدة في أوخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي لسد النقص في اليد العاملة، خشي المسؤولون البريطانيون من إمكانية أن يؤدي حضورهم إلى ضعضعة الشعور القومي. وكان تقريراً حكومياً صدر في العام 1953 قد حذر من هذه التداعيات، إذ ورد فيه “أن تسيطر جماعة ملونة على جزء كبير من المشهد في حياتنا الاجتماعية هو أمر من شأنه أن يُضعف المبادئ الإنجليزية أو البريطانية التي تشبّع بها شعب انجلترا طول فترة الحكم الديمقراطي لدولة الكومونويلث”.
حمل المهاجرون معهم تقاليدهم وعاداتهم من أوطانهم، وكان أغلبهم فخوراً بإرثه وتراثه. لكنهم كانوا معنيين بدرجة أقل بالمحافظة على اختلافاتهم الثقافية، ولم ينظروا عموماً إلى الجانب الثقافي على أنه مسألة سياسية. لكن ما كان يقلقهم ليس الرغبة بأن يتم التعامل معهم بصورة مختلفة، على العكس، حقيقة أنهم كانوا يُعاملون بصورة مختلفة هو ما كان يؤرقهم. العنصرية وعدم المساواة، وليس الدين أو العرق، هما ما كان يجسد مخاوفهم وضروب قلقهم الأساسية. في العقود اللاحقة، أنشأ جيل جديد من الناشطين السود والآسيويين مجموعات مثل “حركة الشباب الآسيوي” Asian Youth Movements و”تجمّع سلالة اليوم” Race Today Collective، وقد عملت هذه المجموعات على إسماع صوت من تمثلهم عبر تنظيم إضرابات ومظاهرات مناهضة للتمييز والتفرقة التي تُمارس في أماكن العمل، وعمليات الترحيل، والتعامل الوحشي من قبل قوات الشرطة. وصلت هذه الجهود إلى نقطة الانفجار بعد سلسلة من الإضرابات التي اجتاحت مدن المملكة المتحدة أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن المنصرم.
أدركت السلطات البريطانية عند هذه النقطة بأنها لن تتمكن من تخفيف التوتر والاضطرابات التي تهدد الاستقرار الداخلي للمدن ما لم تمنح الأقليات حصة في النظام السياسي. كان هذا هو السياق الذي نشأت فيه سياسات التعدد الثقافي. أطلقت الحكومة، على المستوى المحلي والقومي، استراتيجية جديدة لاجتذاب الجماعات الآسيوية والسوداء وتشجيعهم على أن يكونوا جزءاً من الحياة السياسية من خلال تعيين منظمات محددة أو قادة جماعات ليمثلوا مصالح تلك الجماعات. جسدت هذه المقاربة في جوهرها إعادة تعريف لمفاهيم العنصرية وعدم المساواة. لم تعد العنصرية تعني إنكار الحقوق التي تتخطى السلالة والعرق والثقافة والعقيدة وحسب، بل أصبحت تعني ترسيخ حقوق تختلف باختلاف تلك الخلفيات.
لنأخذ أحداث بيرمنغهام مثالاً، وهي ثاني مدينة من ناحية عدد السكان في المملكة المتحدة. في العام 1985، حيث كانت منطقة هاندسورث غارقة في أعمال الشغب التي أشعل شرارتها الغضب الذي سببه الفقر والبطالة، وفوق هذا وذاك، ممارسات الشرطة المجحفة. أسفرت المواجهات عن قتل اثنين من المتظاهرين وجرح العشرات منهم نتيجة العنف الذي جوبهت به تلك المظاهرات. تحت وطأة هذه الاضطرابات، حاول مجلس المدينة إشراك الأقليات من خلال إنشاء تسع من المجموعات التي سُميت في ذلك الوقت بالمنظمات الأم أو المنظمات الرئيسية، وهي عبارة عن مجموعات من المفترض أن تقدم الدعم والحماية لأعضائها بغض النظر عن سياسة المدينة التي تنشط ضمنها تلك المجموعات. كانت هذه اللجان تقرر احتياجات كل جماعة، وكيف ولمن سيتم صرف المخصصات والمصادر، وكيف سيتم توزيع السلطات السياسية. وقد أصبحت هذه اللجان أصواتاً بديلة لتلك القطاعات المقسمة على أساس عرقي.
كان مجلس المدينة يهدف إلى اجتذاب الأقليات للانخراط في العملية الديمقراطية، لكن المجموعات التي تنضوي تحتها ناضلت للحصول على حقوقها الفردية والجماعية. بعض تلك المجموعات، كالحركة الكاريبية والإفريقية، كانت تمثل مجموعات عرقية، بينما كانت مجموعات أخرى، مثل المجلس الذي كانت تسيّره كنائس السود، تمثل مجموعات دينية أيضاً. التنوع الموجود بين تلك المجموعات كان مماثلاً للتنوع الموجود ضمن كل مجموعة منها، بمعنى آخر: لم يكن كل المُمثلين في اللجنة الاستشارية للمشاريع الإسلامية البنغالية مثلاً متدينين بالقدر نفسه.
بالرغم من ذلك عملت الخطة التي وضعها مجلس المدينة على تعيين كل عضو من الأقلية في جماعة منفصلة، وتحديد احتياجات الجماعة ككل، وإنشاء مختلف المنظمات التي تتنافس مع بعضها للحصول على مصادر التمويل من المدينة التي تنشط ضمنها. وأي شخص لا ينتمي إلى هذه الجماعات بعينيها كان يتم استثناؤه من العملية السياسية التي تتم على مستوى التعدد الثقافي.
المشكلة في سياسات بيرمنغهام كما عبّر عنها جوي وارمينغتون في العام 2005، وهو مدير ما كان يعرف حينها بمنظمة العمل العرقي المشترك في بيرمنغهام Birmingham Race Action Partnership (وتُسمى الآن اختصاراً BRAP)، وهي عبارة عن منظمة خيرية تهدف إلى مكافحة الظلم والحد من ممارسات التمييز، “أنها كانت تجنح إلى ترسيخ الانتماء العرقي كعامل أساسي لتوزيع المخصصات والاستحقاقات. أصبح من المقبول توزيع المصادر والحقوق على أسس عرقية ودينية. وهكذا بدلاً من التفكير في تلبية متطلبات الناس أو توزيع المصادر بشكل عادل، اضطرت تلك المنظمات إلى توزيع كل شيء على أساس عرقي.” أما تبعات ذلك فقد كانت كارثية بكل معنى الكلمة.
في أكتوبر من العام 2005، وبعد عشرين عاماً من انطلاق أعمال الشغب في هاندوورث، اندلعت أعمال عنف في منطقة لوزيلس المجاورة لها. في العام 1985، انطلقت مظاهرات نظمها الآسيوين والسود والبيض معاً تنديداً بالفقر والبطالة ووحشية الشرطة. أما في العام 2005، فقد اندلعت المواجهات بين جماعات السود والجماعات الآسيوية، والشرارة التي أطلقت تلك المواجهات كانت عبارة عن شائعة لم يتم التحقق من صحتها تقول أن رجالاً آسيويين قاموا باغتصاب فتاة جامايكية. وقد استمرت تلك المواجهات طوال عطلة نهاية الأسبوع.
ما الذي يدفع جماعتين ناضلتا جنباً إلى جنب ضد الظلم والفقر في 1985 إلى قتال بعضهما في العام 2005؟ جزء كبير من الجواب يكمن في سياسات بيرمنغهام على مستوى التعدد الثقافي، وهذا ما أكدته إحدى الدراسات الأكاديمية حول تلك السياسات، والتي ورد فيها: “أدى نموذج المشاركة الذي اعتُمد من خلال المجموعات الرئيسية أو المجموعات الأم إلى حصول منافسة بين السود من جهة والأقليات العرقية من جهة أخرى للحصول على المصادر. وبدلاً من إعطاء الأولوية للاحتياجات الأساسية ومطالب الطبقة العاملة في المجتمع، حاولت مختلف المجموعات الأساسية الحصول على أكبر حصة من المصادر والمخصصات”.
____________________________________
عن مجلة “فورين بوليسي”
*****
خاص بأوكسجين