بدأ فيرجسون شبابه، مثل أوستر، في ستينيات القرن الماضي: “أردت أن أعطي القارئ فكرة عن معنى أن يترعرع المرء إبان تلك الفترة”، وقال أوستر إن روايته الجديدة هي “قصة عن تطور مراحل عُمر الإنسان … ولقد عمِلت وفكرت بشدة في تفاصيل تلك المراحل المختلفة”، لحياة شخص في مُقتبل عمره. بدأت قصة فيرجسون ب: “والدته تُدعى روز، وعندما يصبح في سن تسمح له بربط سيور حذائه بنفسه، والتوقف عن التبول في فراشه – فسيتزوجها. تهدف “4321” إلى إيصال الطريقة التي تشكلت بها شخصيات فيرجسون، بكل تجسيداتها، نتيجة لظروفها الشخصية والأحداث العامة. اليوم الذي قُتل فيه كينيدي، كان هو ايضًا اليوم الذي مارس فيه فيرجسون الجنس للمرة الأولى مع حبيبته إيمي: جلس كلاهما وشاهدا تغطية حادث الاغتيال لساعات طويلة على التلفاز، ومن ثمّ، هوى كلاهما على الفراش. (علّق أوستر: لا تخلو حياة أي فتى في سن المراهقة من “استحواذ الجنس على تفكيره … يكون من الصعب وضع أي فكرة أخرى برأسك حينها.”)
وينكشف تاريخ أميركا تدريجيًا، فتشير إحدى شخصيات فيرجسون إلى أن قوات أمن ولاية ألاباما قامت بمهاجمة متظاهري حركة الحقوق المدنية في مدينة سيلما، وقد تمت مضاعفة عدد القوات الأمريكية في فيتنام. وظهر بعدها زود أم في المشهد، وبدأت الرياضة تحظى باهتمام الجميع، وأصبح قيادة السيارات ممكنة للمرة الأولى، وتم تقييم تسجيلات ليندون جونسون. كانت جميع شخصيات فيرجسون، خلال هذه الفترة، تمتاز بالمرونة، فقد كانت في صدد تشكلها الأولى. كانوا جميعًا ناشئين قبل الأوان، ومحبوبين وذي مشاعر مرهفة وبصيرة ثاقبة: أراد أوستر أن يصور “طبيعة الفوضى المُربِكة في نفس، فيرجسون، والاضطراب المُتناقض بين إصدار الأحكام الصعبة القاسية و الشعور بالاحتقار والسخط تجاه الجشع الأمريكي المادي، وتضارب كلاهما مع نفسه الرقيقة … وبين استقامة الفتى الجيد داخل نفسه وحماقة قلبه الجريء.”
كانت رغبة أوستر في تصوير حمّية الشباب في روايته هي السبب وراء تغيير أسلوب كتابته (انتُقدت كتابات أوستر في الماضي بأنها متمركزة حول أفكار مكررة أكثر من اللازم). وصف أوستر روايته بأنها “أكثر عمل واقعي كتبته … يوجد خيال ملحوظ في بنية النص، لكنها رواية واقعية للغاية.” لا يوجد خصائص نوارية في الرواية أو أي استعارات من الرواية بوصفها جنساً أدبياً، ولا يوجد أي أثر لاستخدامه أسلوبه التبسيطي المعتاد: لا تكتظ 4321 بالتفاصيل فقط، ولكنها ايضًا كُتبت في جُمل طويلة خاطفة للأنفاس – يصل طول بعضها إلى عدة صفحات.
وأكمل أوستر قائلًا: “لقد كنت أُجهز لهذه الخطوة في أعمالي الأخيرة، وشعرت بنوع من الحرية في كتابة جُمل يبلغ طولها ثلاث صفحات. إنها تمنح طاقة محفزة.” لا يستخدم أوستر في روايته تقنية تيار الوعي، بل يجعل القارئ “يتتبع عمليات تسلسل أفكار الشخصيات”. تجاهل أوستر، عند الجزء الخاص بشخصية فيرجسون الرابعة، النصيحة المعتادة في الكتابة، وهي “الإبداء لا الإفصاح”، واستبدلها ب “أفصح وأفصح وأفصح”، فيقول أوستر أن الرواية نفسها عبارة عن “إفصاح ومزيد من الإفصاح”. وبالتالي، “بها الكثير من الأفكار التي شغلتني خلال كل تلك الأعوام، ولكنها طُرِحت بطريقة مختلفة تمامًا”.
وهذا لا يعني أن الرواية لا تتناول أيًا من موضوعات أوستر المعتادة، أو تلجأ إلى الحيل باستخدام القص الما ورائي. فعلى سبيل المثال، في أثناء سرد تفاصيل اشتراك فيرجسون في إعتصامات جامعة كولومبيا، ظهرت شخصيات أخرى من روايات أوستر، كانت قد تخرجت من الجامعة نفسها – ماركو ستانلي فوج من رواية “قلعة القمر”، وديفيد زيمر من “كتاب الأوهام”، وبيتر آرون من “لوياثان”، وآدم ووكر من “المَخْفيّ”. فيدخل القارئ بشكل لحظي، كما يحدث مع روايات أوستر عادة، إلى بهو من المرايا. ويؤكد أوستر: “نعم، جميعهم هناك. أردت أن أعيد كل فتياني إلى الذاكرة، واجمعهم جميعًا هناك في الوقت نفسه … فقط، على سبيل التسلية. إنه رابط لأعمالي”.
على نحو مماثل، في الصفحات الأخيرة من الرواية، تُشير إحدى العبارات المُهِمة إلى “الطرق المتشعبة بشكل لا نهائي، التي يجب على المرء أن يواجهها أثناء سيره في رحلة الحياة”. هذه إشارة إلى خورخي بورخيس وقصته “حديقة الطرق المتشعبة” – والتي تعرض كل النتائج المحتملة لحدث ما، في ذات الوقت. وما هو أهم من ذلك، هو إنهاء أوستر للرواية بطريقة خادعة، مما يغير طبيعة الرواية بأكملها.
استعار أوستر في 4321، كما يفعل عادة في معظم أعماله، من تجاربه الخاصة. فعلى سبيل المثال، نحن نعلم من قراءة سيرته الذاتية أنه عندما كان شابًا، عاش، مثل شخصية فيرجسون الثالثة، في غرفة في طابق علوي في باريس، كما قصد العاهرات – وفي الرواية الكثير من المواقف المماثلة الأخرى. وللحقيقة، فإن فهذه الرواية تعتبر، للقرّاء المطلعين على أعمال أوستر، كغرفة الصدى; مليئة بالموضوعات و المواقف المألوفة التي يتردد صداها بين تفاصيل سرد قصص فيرجسون المتعددة. الكاتب، كما يبدو، سكب كل حياته في روايته هذه.
قال أوستر: “لقد استعرت بعض الأشياء من حياتي الخاصة، ولكن، أي من الكتّاب لم يفعل ذلك؟” ولكن، على عكس الكتّاب الآخرين، فنادرًا ما يُنهي أوستر هذه المحادثات بالملاحظة المثيرة للضجر ذاتها والتي تشير إلى أن الأدب في النهاية يعتمد على الخيال، ولكن يقوم، بدلًا عن ذلك، بالإشارة تلقائيًا إلى الأجزاء التي استعارها من حياته الشخصية. على سبيل المثال، ففي الرواية، تلعب الشخصية الرابعة لفيرجسون مباراة كرة سلة، والتي تنتهي برمية حظ، يترتب عليها افتعال شجار بين الأولاد السود والبيض. كان أوستر في مباراة مثل تلك، وعلق أنها كانت، “مُربِكة لي للغاية، لقد كنت طفلًا في الرابعة عشرة من عمري و مليء بالقيم المثالية”. وذكر أوستر إحدى الشخصيات المستوحاة بطريقة مباشرة من شخصية صديق والده – والذي كان رجلًا مليء بالحكايات الرائعة عن “الرحلات البحرية، واللاسلكي، وجوارب النساء، وأول شراب مسكر تذوقه”. وأضاف أوستر، “واستخدمت ايضًا شقة جدي وجدتي، والتي كانت في مبنى عند زاوية سنترال بارك”.
لم تشمل استعارات الكاتب لمواقف وأماكن فقط، بل تضمنت ايضًا اهتماماته الشخصية. فاستطاع أوستر الإشارة إلى حبه ذائع الصيت للثنائي الكوميدي لوريل وهاردي، عندما كانت شخصية فيرجسون الثانية تشاهد أفلامهما في منزله، بشكل مستمر. وأحيا الكاتب ماضيه عندما كان طالبًا يدرس ترجمة الشعر الفرنسي (يوجد لشخصية فيرجسون الأولى ميل مشابه). حتى أنه أدرج في السرد، نصًا كان قد كتبه وهو في التاسعة عشرة من عمره، تحت عنوان “درونز” – وصفه بأنه “أكثر محاولات [شخصية فيرجسون الرابعة] غرابة حتى الآن” – والتي تضمنت هذا السطر الفريد: “بعد ثلاثة أيام وثلاث ليالي، وصلت إلى قرية فلوم”. علق أوستر: “لقد نقلت القصيدة كما هي، لأنني قلت في نفسي: هذا ما كنت أكتبه وأنا في التاسعة عشرة من عمري، فلماذا إذًا التلاعب به؟”.
أما عن سرد إعتصامات جامعة كولومبيا، فعلق أوستر قائلًا إن تفاصيل الأحداث “قيلت بدقة” وتعامل معها على أنها “تاريخ بحت”. وفي عام 1967 اشترك أوستر في المظاهرات، وقال أوستر، “تم إلقاء القبض عليّ وضربي [حينها] من قبل قوات الأمن، إنني سعيد للغاية لأنني فعلت هذا”. وفي إحدى لحظات تفاقم العصيان الطلابي، كان أوستر على معرفة بسبعة أشخاص من قائمة أكثر عشر أشخاص مطلوبين لمكتب التحقيقات الفدرالي.
***
يحب أوستر تحديد بداياته ككاتب، إلى اليوم الذي بلغ فيه الثامنة من عمره، حين قابل ويلي مايز، بطله في رياضة البيسبول في فريق نيويورك جاينتس، واستطاع استجماع شجاعته وطلب منه توقيعه. لكن لم يملك والده أو والدته قلمًا، وفي النهاية تركه اللاعب وذهب. بكى أوستر حينها وكره نفسه بسبب بكائه، ولكن منذ ذلك اليوم لم يخرج أوستر من المنزل من دون قلم: ” إن كان يوجد دائمًا قلم في جيب معطفك، فغالبًا سيأتي يومًا ويغريك لاستخدامه. (بعد هذه المباراة ب 52 سنة، أعطاه مايز كُرة موقّعة).
جاء نجاح أوستر بسبب ثلاثية “نيويورك” عندما كان في الثلاثين من عمره (وحتى حينها رفضت 17 دار نشر روايته “مدينة من الزجاج”). كتب أوستر في عدة أعمال عن سنوات ما قبل النجاح، وتحديدًا في سيرته الذاتية “عيش الكفاف: وقائع الإخفاقات السابقة”. ومنذ عام 1971، عاش أوستر في فرنسا مع الكاتبة ليديا دافيز، والتي تعرّف عليها في الجامعة. اهتم كلاهما بالنقد والترجمة، و كانا يعتبران فقرهم شاعريًا للغاية – إلى أن تفاقم الحال بعدها. عاد كلاهما في النهاية إلى الولايات المتحدة، وهم لا يملكان سوى 9 دولارات، وتزوجا عام 1974. وفي العام التالي، عندما حملت دافيز – بطفلهما الأول دانيال – اشترى سويًا منزلًا قديمًا في مقاطعة دوتشيز في نيويورك.
كانت الأعوام التالية هي أكثرها بؤسًا في حياة أوستر. كان أوستر مفلسًا لدرجة أنه كان يروج للعبة بيسبول اخترعها بنفسه باستخدام ورق اللعب، كما كان يستجيب لإعلانات على وتيرة، “كيف تربح المال عن طريق تربية الديدان في قبو المنزل”. كتب أوستر في سيرته الذاتية “عيش الكفاف”، “لقد كنت أتجنب طوال حياتي الكتابة عن موضوع المال، وفجأة الآن، لا أستطيع التفكير في أي شيء آخر. انفصل أوستر عن زوجته دافيز في عام 1978، وترتب على ذلك مواجهة أوستر، لما أطلق عليه “أزمة سيئة للغاية” : “كانت الأرض تهتز من تحت قدمي، لم تعد تلك الأشياء التي تعلّقت بها موجودة بعد الآن”.
وأدت وفاة والده في العام التالي (بسبب أزمة قلبية أثناء ممارسته الجنس مع حبيبته) إلى تغيير كبير في حياته. فلم يساعده ميراث والده القليل على استكمال الكتابة فقط، بل بدأ في كتابة نص نثري بهدف البحث عن والده الغائب البعيد، والتي أصبحت سيرة ذاتية رائعة تحت عنوان “اختراع العزلة”. من أكثر اللحظات صدمة في حياته هي عندما علم أن جدته أطلقت الرصاص على جده وقتلته عام 1919. برأتها المحكمة على أساس تشخيصها بمرض الجنون المرحلي الجزئي، وتناسى أولادها الخمسة هذه الفضيحة.
وفي عام 1981، قبل عام واحد من نشر “اختراع العزلة”، قابل أوستر سيري هوستفيدت في إحدى الجلسات الشِعرية. قالت هوستفيدت، “نمزح دائمًا قائلين إن الأمر استغرق مني بضع ثوان حتى أقع في حبه بشدة، أما هو فأخذ الأمر منه بضع ساعات. كانت عملية سريعة قليلًا في حقيقة الأمر.” يشير أوستر دائمًا إلى أنها أنقذته، وعلّق قائلًا: “قد يبدو الأمر عاطفيًا لأننا سويًا منذ 36 عامًا، إلا أنها بالفعل الأكثر ذكاءاً ممن قابلتهن في حياتي”. دائمًا ما تكون هوستفيدت قارئة أعماله الأولى، كما هو أيضًا قارئًا لأعمالها. نشرت هوستفيدت منذ فترة مجموعة من المقالات تحت عنوان “امرأة تبحث عن رجل يراقب النساء”. وسألْت أوستر إذا ما كانت انتقدت تصويره للنساء في أعماله، فأجاب، “لا، ابدًا، لقد تعلمت الكثير منها خلال هذه الأعوام. إنها نسوية متفانية، وأنا أوافقها على كل آرائها، فهي آرائي أيضًا.”
***
يرى أوستر أن مقابلة هوستفيدت، والتي غيرت حياته، هي خير مثال على الأثر “المربك” للصدف. وعلى نحو مماثل، أشار أوستر أنه ما كان كتب روايته “مدينة من زجاج”، لو لم يتلقَ مكالمتين، عن طريق الخطأ، من رجل يطلب التحدث إلى مكتب بينكرتون للتحقيق. يمكن أن يتمادى المرء في تفسير الأحداث من هذا المنطلق، أو ربما تبدو مملة، لكن ينجذب أوستر بشدة إلى قصص الصدف والمواقف الغريبة. “هؤلاء الذين لا يعجبهم أعمالي يشيرون إلى أن الرابط بين الأحداث يبدو إعتباطيًا، لكن هكذا هي الحياة في الواقع”.
يوجد في بداية ونهاية “4321” سخرية من الصدفة، وهي مقتبسة من نكتة قديمة عن المهاجرين اليهود في الولايات المتحدة. فقبل أن يقابل جد فيرجسون مسؤول الهجرة، نصحه صديقه الروسي اليهودي أن يختار اسمًا لنفسه شبيهًا بالأسماء الأمريكية، مثل روكفيلر. ولكن عندما بدأت المقابلة، نسي الرجل الاسم، وأخذ بضرب رأسه وهو يردد “Ikh hob fargessen” (لقد نسيت). وبالتالي، كتب المسؤول اسمه “فيرجسون” – وهكذا خطأ حدث في لحظة واحدة فقط، لكن نتائجه كبيرة.
وأنتج أوستر روايته “4321” بنفسه، محتفظًا بعاداته القديمة في الكتابة، تحديدًا اهتمامه بالكتابة العادية، واستخدامه للآلة الكاتبة، والتي يملكها منذ عام 1974. حتى أنه نشر كتاباً مصوراً مع الفنان “سام مسير”، تحت عنوان “حكاية آلتي الكاتبة”. يحب أوستر صوت مفاتيح الآلة، ولكنه يستخدمها فقط حين ينتهي من كتابة فقرة كاملة في مفكرته. لا يحب أوستر الحاسوب ويعتقد أن موقع أمازون هو “العدو”. شعر أوستر “بالاستنزاف” عند الانتهاء من روايته الجديدة، بعد العمل عليها لمدة ست ساعات يوميًا، وكتب أن كتابة الكتب “عملية مرهقة نفسيًا وجسديًا”. ومع وجود زوجته هوستفيدت، فإنه غالبًا ما يروّح أوستر عن نفسه بمشاهدة فيلمٍ كلاسيكي معها.
بالنسبة لأوستر، “فقط الشخص الذي يشعر أنه مدفوع للكتابة هو من يُغلق الغرفة على نفسه للكتابة يوميًا … عندما أفكر بطريقة أخرى للحياة – وكيف يمكن لها أن تكون مثيرة للاهتمام وجميلة – أفكر أن الحياة بهذه الطريقة هي ضرب من الجنون”. وعند عودتنا للحديث عن ترامب وحال الولايات المتحدة، أشار أوستر أنه دائمًا ما يؤرقه السؤال الذي سألته شخصية فيرجسون الرابعة: “إذا كان العالم يحترق، فما هي فائدة الأدب؟”. ويقول أوستر ” عندما يمتلك المرء ضميراً اجتماعياً، تصبح هناك معاناة بداخله حول الطريقة التي يجب أن يعيش بها حياته.” وهذا مما لم يجد له أوستر إجابة حتى الآن. ويؤكد أوستر أن هذا هو الدافع وراء “العطش للكتابة”، أن “تُكمل الكتابة”، حتى لو رفضت العبارات الجيدة المجيء. فعند الكتابة، “تنشط الإثارة والمعاناة. أنا فقط أشعر أنني مفعم بالحياة أكثر وأنا اكتب”.
______________________________
عن الغارديان
تصدر الترجمة العربية لرواية بول أوستر “1234” عن منشورات المتوسط في ميلانو – إيطاليا.
*****
خاص بأوكسجين