يرن الهاتف بعد العصر فتظهر صورة أمي في الخلفية، صورة التقطتها لها دون أن تدري أثناء محادثة فيديو ذات يوم. أترك هاتفي يرن برهة قبل أن أجيب. تشدني فكرة أن هناك من يتصل بك ليسأل عنك؛ هذا الرنين المحبب الساحر الذي ينجيك من الوحدة والإهمال في الغربة والشعور بالخواء في ليالي الأحد الحزينة. أفتح الكاميرا، تظهر أمي بشرودها المعهود، تبدو جميلة رغم تكسر الصورة. الأمهات لا يتأثرن بالاتصالات عن بعد، بانقطاعها ورداءتها، بل يبقين جميلات بطريقة لا يمكن فهمها! أتصل على الايمو. تقول: “انتقل من الواتساب إلى الإيمو”. أفكِّر في أن وسائل الاتصالات تتيح المكالمات بيسر ووضوح لكل الناس عدا مكالمة صغيرة بين ابن وأمه! ما إن ترد أمي حتى يتسلل ضوء كثيف مبهرعبر شاشة الهاتف يكاد يضيء السماء الرمادية في الخارج …أمي والشمس.
تقول لي بحزن إن صورتي لا تظهر على الشاشة فيما تلتقط يدها النحيلة قطعة بندورة حمراء من الطاولة حيث تجلس. تتخلى عني شجاعتي لقطع الاتصال والمحاولة من جديد… أبقي الاتصال جارياً على أمل أن تتحسن جودته.
قبل يومين أخبرتني أختي برسالة صغيرة أن أمنا تعاني من اكتئاب حاد، وأنها تعيش هواجس ومخاوف طارئة لم تعايشها من قبل.
اتصل بها!
قالت.
أشعر بأن مصطلح الاكتئاب بحد ذاته ثقيل ومخيف ولا يمكنني تخيل أن توسم به أمي. من الممكن أن أتخيلها حزينة لوهلة أو أنها تشعر ببعض الضيق، وربما مريضة، أما الاكتئاب فإنه ثقيل جدا بالنسبة لامرأة جميلة كأمي!
أؤمن بأن الاتصالات لا تنقذ القلب من التعفن! أحنّ إلى لقائها ولو لمرة في .
في الليلة التي هربت فيها من الوطن استطاع أصدقائي إحضارها ليلا إلى الحدود، وقد كانت ليلة مظلمة وباردة. من بعيد عرفتها على الفورمن مشيتها، كانت تسبق ظلّها. لا نعقد المواعيد غالبا مع الأمهات، المواعيد العاطفية التي اعتدنا عليها تكون مع الحبيبات أما الأمهات فلا يحتجن إلى مواعيد خاصة أو طارئة لأنهن ببساطة يملكن القلب .أحضروها لكي نودع بعضنا البعض… الوداع القسري ليس مجرد فيلم نذرف الدموع من أجله ثم ننساه بمجرد خروجنا من باب السينما، الوداع هنا وداع حقيقي مكتمل الشهقات .
قلت لها إنني لن أغيب طويلا، ولكنها لم تؤمن يوما بالكلمات.
تحمل أمي حبة البندورة وتنظر نحو الشاشة لحظة، فتتحول الثمرة في يدها إلى ورد جوري أحمر ثم تبدأ بتقطيعها مع قلبي، وعلى مهل يسيل ماء الثمرة على أصابعها الطويلة فأشعر بعطش مفاجئ.
التفكير في لقائها يجبرني على استحضار الكثير من الأشياء: ترتسم في مخيلتي بشكل سريع الدرب إلى دمشق، أتخيل كمية القرارات السياسية التي علي تجاوزها للوصول إلى هناك، التفاهمات الدولية والولوج إلى محاضر الاجتماعات ومحاولة تغييرها. أتخيل ضابط التفتيش في المطارات. أتخيل المعلومات المتضاربة على الفيسبوك عن المدن الوسيطة بين ألمانيا ودمشق. أتخيل أربيل وبيروت وعمان كمدن تنقل رسائل الحب والشوق… هذه المدن التي علينا اجتيازها لكي نرى أمهاتنا، أن ندخل في ظروفها السياسية والاقتصادية وأن نعالج مشكلة ارتفاع سعر رغيف الخبز وليتر المازوت، أن نوقف البطالة وندعم المواطن ونسقط أحزابا ونصوت لأخرى لكي نعبر الحدود الكئيبة نحو دمشق او نحو أمهاتنا، بيروت التي بلا كهرباء والشوفيرالذي سيقلني من بيروت إلى دمشق، أول حاجز عسكري ينتظرني هناك. أتخيل انتظار الفيزا إلى لبنان والموافقة الأمنية. كل ما أتخيله ينتمي إلى الخوف، إلى قائمة طويلة من الرفض والحرمان، ينتمي إلى رجال متجهمين بملامح مخيفة يفعلون ما يؤمرون. أفكر كم علي أن أجتاز لكي أصل إلى عناق صغير، إلى ارتماء في حضن أمي بضع دقائق. أتخيل حركة الكواكب الضخمة، دورانها، حياتنا هنا على هذا الكوكب المجنون، بحاره وأنهاره، كل قطرات المطر التي تهطل الآن، كل الأحداث العظيمة التي تجري لحظتها ، كيف لنا يا أمي أن نهرِّب عناقا صغيرا بيننا.
تمسك أمي قطعة باذنجان، تقشِّرها.تتحول السكين إلى عود كمان بين يديها، ويغدو سواد الثمرة الذي صبغ يديها حناء وعطراً. تشرّح الثمرة إلى شرائح ثم تنشرها أمامها على قماش ملون .
أتخيل ما علينا فعله كي نعانق أمهاتنا! كم رئيساً سيتوجب علينا إقناعه بأننا مشتاقون لأمهاتنا، كم دبابة سنخاطب وكم رصاصة سنحاور! هل نكتب رسائل إلى مجلس الأمن ونوقعها بدموعنا وتعطرها أمهاتنا هناك بأنفاسهن ليقتنع الرؤوساء والنواب والأحزاب بأن العناق أهم من السياسة وأن إطفاء الشوق يتساوى في أهميته مع إطفاء الحرب؟ هل تلتقط أنوفهم مثل هذه الروائح السحرية في الأصل؟ كيف سيتوجب علينا أن نقنعهم بأن يعطلوا السياسة يوما، بأن يحتالوا على سطوتها وبريقها القاتل ويمنحوا كل لاجئي العالم هذا الحق الصغير في عناق تافه كما يرونه؟ كم طائرة سنقنع وكم حقيبة سفر …كم زورقاً مطاطياً؟
سأجلس على طاولة الرؤساء في مجلس الأمن وسيمنحونني فرصة للتحدث كمندوب عن التفاهة البعيدة عن الواقع. سأخدعهم ولن ألقي كلمة عاطفية مملة كما يراها السياسيون بل سأقترح بأن ثمة فائدة للعناق وأن هناك مصلحة عظمى لكل دولة عندما تسمح للمبعدين والمنفيين أن يلتقوا أمهاتهم. ثمة مصادر طاقة هائلة في تلك الأمكنة عليهم استغلالها ،هناك مناطق نفوذ ضخمة تنتظرهم عندما يوافقون على ذلك.
سأرشو الرجل الذي سيمنحني فيزا إلى لبنان أو الأردن، سأشرح له أن ثمة فائدة إدارية للعناق وأنه ليس سيئا كما يروجون له ولربما استكان الرجل لمطلبي! سأساعده في ختم ملايين جوازات السفر لأناس يحلمون بالمغادرة.
سأدفع للطيار وللمضيفين وللمضيفات ليفسحوا لي مكانا للصعود! سأقول لهم جربوا أن تعانقوا بعضكم بعضاً وعندها قد تقفزون من الطائرة بارتياح.
سأرشو الرجل المنتظر على الحاجز، وسأهديه مشطاً من الرصاص، بل حبالاً يزين بها صدره المنتفخ، لعلّه يتركني أعبر دون أن يعتقلني، سأعطيه بضع رمانات يدوية يلهو بها عندما يشعر بالملل وهو يتصيد زجاجات الكوكولا الفارغة، وسأقترح عليه أن يجرب مرة معانقة ضحيته قبل قنصها من بعيد فلربما يغير رأيه!
سأقرأ بصدر رحب كل قصائد الشوق والحنين، وسأجامل الشعراء والأدباء مدّعياً أن الشعر يقي من الشوق والحنين، وأن قصة صغيرة تروي عطشنا ونهمنا لأمهاتنا، وأن الكلمات والتفعيلات المكررة تقينا من انكساراتنا التي لا تنتهي.
سأرشو الزمن والأيام والدقائق، لكي تؤمن لنا نصف ساعة نلتقي فيها بعيداً عن كل هذا الموت والخراب.
تقطع أمي فصوص الثوم إلى شرائح دائرية فأحك أنفي. أكتشف مدى رداءة العطور في أوروبا، وأحاول أن أقرأ في أي مكان في وجهها يستقر هذا الاكتئاب المباغت.
أمي امرأة لا تعرف الاكتئاب، فهي تلهو بنا دوماً، ولديها من المرح والحياة ما يكفي لطرد كل الملل والهجر والمرارة. تغسل بضعة عروق من البقدونس فتتسع عروق قلبي، ويتحول صوت الماء إلى سقسقة جداول، وصوت القلي إلى موسيقا. أتابع تحضيرها لطبختها الصغيرة إلى النهاية؛ ثمة كرسي فارغ بجانبها، كرسي لعين محبط ينتظر غائباً واقفاً منتحراً ميتاً محتضراً ساخراً خائر القوى واهناً يحدِّق بي بازدراء وأنا على بعد آلاف الكيلومترات.
أتذكر كلمات أختي في أن حال أمي تسوء يوما بعد يوم.
تضع أمي الطبق على الطاولة، فيتصاعد بخار شهي عذب من الصحن؛ شرائح البندورة والباذنجان ورائحة الزيت البلدي ممتزجة برائحة الثوم الطازج؛ ندى أصابع أمي في الطبق. كل ذلك يحرك عصائر الروح والقلب والمعدة ضمن خليط غرائبي.
تنظر أمي دقائق نحو الشاشة.
أقول لها:
صحة وهنا.
ولكنها لا تراني ولا تسمع صوتي. تزفر نفساً طويلاً، ثم تنظر بأسى نحو الصحن الذي يتوسطنا.
أقول لها:
أرجوك لا تفعلي…
أصرخ، ولكنها لا تسمعني!
تحمله ببطء وهدوء ثم ترميه في كيس القمامة
و
ينقطع الاتصال.
*****
خاص بأوكسجينأ