كان صباحاً بارداً رمادياً والهواء مثل الدخان، وما إن استعيد ما حدث، حتى تحركت السماء الداكنة، الشفيفة، الكتيمة مثل بحرٍ في يوم صامت.
ياقة المعطف تضغط بقوة على عنقها ووجنتيها الباردتين، كما لو أنهما غسلتا بماء مثلج. تنشقت بحرية مع النسيم، شريط المرج المتقد الذي انثنى بصمت يساراً خالياً من اللهب. وفي الأعلى هدلت حمامة. مشت على العشب اليابس، متتبعةً الأشجار، على الدرب، خارج الدرب. بعيداً إلى الأمام، فوق تشكيلات الأغصان، وفوق الخطوط المنحدرة للعشب الأسود والبلاتيني –المتداخلة بتدرجات متباينة بلا ألوان، مثل النقوش المحفورة- ترامى الأفق، والتفت الغيمة حول حوافه.
نفث العشب الندي المحترق غباراً أسود واهناً من تحت قدميها. كان بمقدورها سماع نفسها تبتلع.
رأت على مسافة بعيدة هيئة شخص على رأسه شيء أحمر، واستمدت منه إحساس التوازن الذي تشعر به عندما تضع نقطة على شكل ما في صورة. كانت هنا، وأحدهم هناك . . . ومن ثم اختفت النقطة الحمراء، ضاعت مع انحناءات الأشجار. نقلت حقيبتها والرزمة التي تحملها من ذراع إلى أخرى وأحست بالصباح ملموساً، عميق البرودة وماثلاً أمام عينيها.
وصلت نهاية الدرب الممتدة باستقامة وانعطفت معه حول الصنوبرة والشجيرة داكنة الحواف، الجافة والهشة الآن، وقد تذكرتها معلقة مع باقات من الزهور البيضاء مثل الكريستال في الصيف. كان أحد السكان الأصليين معتمراً قبعة صوفية حمراء واقفاً عند مجموعة من الأشجار، حيث يجتاز الطريق خندقاً وتحده حجارة مخططة بالأبيض. انتزعت غمداً من أوراق الصنوبر الإبرية، ربما ثلاث إبر في غلاف بني رقيق، وأخذت تمررها على إبهامها وهي تمضي في مشيها. قاعدتها، ناعمة ومتصلبة. أطرافها، تقاوم بلطف حيث تدبباتها الدقيقة تنغرس في جلدها. كان يقف مديراً ظهره لها، ينظر على امتداد الطريق الذي جاء منه؛ حين وخزت طرف إبهامها بإبرة الصنوبر. كانت إحدى فردتي بنطاله ممزقة أعلى الركبة، وعلى ربلة ساقه المكشوفة وكعبه نصف الملتف ظهر ذرور أسود متماوت جراء البرد. أصبحت أقرب إليه الآن، لكنها عرفت أنه لم يسمعها قادمة على الدرب الترابي الرطب. أصبحت بموازاته، اجتازته، فالتفت ببطء ونظر خلفها، من دون رمشة اهتمام وبجمود نظرات بقرة.
عيناه حمراوتان، كما لو أنه لم ينم منذ زمن طويل، ورائحة العرق القديم النفاذة حرقت منخريها. عندما مرت من أمامه أرادت أن تسعل، لكن شعوراً بالذنب طفا من العينين الحمراوتين أوقفها. وكل ما كان يرتديه قماشة قذرة – قطعة من قميص قديم؟ من دون أكمام ومهترئ من تحت الإبطين حتى الخصر. أخذها تيار الهواء البارد حين اجتازته. لقد أسقطت الثلاثي الأنيق من إبر الصنوبر في مكان ما، في لحظة تجهلها، وها هي الآن، وبينما تتذكر شيئاً من طفولتها، ترفع يدها إلى وجهها وتتنشقها: نعم، إنها كما تتذكرها، ليس كما يبتدعها الكيميائيون في أملاح الاستحمام، ولكن برائحة خضراء ترابية، خضرية أكثر منها زهرية. نظيفة وبرية. لزجة بعض الشيء أيضاً، تركت دبقها على أصابعها. عليها أن تغسل يديها فور وصولها، فما لم تكن يداها نظيفتين تماماً، فإنها لن تتوقف عن التفكير بهما، لقد هيمن عليها هذا الهاجس.
أحست بصوت خافت يتسلل إليها عبر الأرض كصوت أرنب يركض مذعوراً واستدارت فإذا به أمامها، مروِّع، يتخطى أي توقع، يلهث في وجهها مباشرة. كان جامداً كميّت وكانت جامد كميتة. وقد هجرها كل قدر من التحكم، والإحساس، والتفكير مثل غرفة غرقت فجأة بالعتمة بعد عطل في الكهرباء ووجدت نفسها تنتحب كحمقاء أو كطفلة. خرجت عن حنجرتها أصوات حيوانية. بدأت تهذي. لدقيقة كان الخوف قابضاً على ذراعيها، على ساقيها، على حنجرتها، لا ليس الخوف من الرجل، أو من كل خطر قد يمثله، بل الخوف كاملاً مجرداً. لو أطلقت الأرض نيرانها على قدميها، أو أن وحشاً فتح شدقيه ليبتلعها، لما انكمشت وانطوت على ما هي عليه الآن.
عبر دموعها رأت صدراً نابضاً مقابلها، وجهاً لاهثاً، وتحت القبعة الحمراء الصوفية عينان حمراوتان مائلتان إلى الصفرة ترمقانها بارتياب. قدم واحدة متشققة من كثرة انكشافها حتى بدت كخشبة مكسورة، تحركت، فقط لتعيد التوازن بعد الدوّار الذي يتبع الركض، لكن أي حركة بدت لها كما لو أنها موجهة إليها، فحاولت أن تصرخ لكن فظاعة الأحلام تحققت ولم يخرج عنها شيء. أرادت أن ترميه بحقيبتها والرزمة التي تحملها، وبينما كانت تتعثر بفعل ذلك سمعته يأخذ نفساً عميقاً صاخباً ماداً ذراعه نحوها، وآه! لقد وصلت. يده قبضت على كتفها.
إنها تتصارع معه الآن وترتجف من القوة. تصاعد الغبار حول حذائها وأصابع قدميه. صدمتها رائحته – وقد كان يرتدي جاكيت بيجاما وليس قميصاً – وجهه متجهم وفيه بقع وردية مكشوطة. وشهيقه بائسٌ لاهث. بدأت أسنانها تصطك، وضربته بعنف برأسها، وانطلقت، لكنه التقطها من أسفل معطفها وأعادها.
تأرجح رأسها للأعلى ورأت نسيج السماء الرمادية، وطائر كركي يخوض غمارها، جميلاً كصارية سفينة.
تمايلت لتتوازن فسقطت منها الحقيبة والرزمة، وعلى الفور انحنى ليلتقطها، وحاولت استعادتهما، وبينما كادت تسقط على ركبتيها، انتابها شعور مفاجئ بالراحة، كدفقة دموع، واستعاضت عن ذلك بأن ركضت وركضت متعثرة بسويقات العشب الميت، وكعبيها ينغرسان في أكوام أعشاب الشتاء اليابسة، متخبطة بين الأشجار والأكمات. انغلقت نبتات الميموزا الصغيرة، ومُهّد الدغل الذي عبرته بأقدامها، لكنها أنهكت نفسها، وشعرت بالتراب في عينيها والأغصان المتقشرة عالقة في شعرها. كان هناك خندق، مليء بنباتات تصل لغاية الركبة: ومثل الدبابيس التي تنجذب لمغناطيس التفت وأوثقت ساقيها، ولكن ومن ناحية أخرى كان هناك سياج وخلفه شارع . . . علقت في السياج وبيدين عاجزتين حاولت أن تجر نفسها بين الأسلاك، لكن معطفها علق بالأشواك، وانحبست هناك، بنصف محني، تعتريها موجات من الذعر على هيئة حرارة وارتجاف. في النهاية مزق السلك الثياب، وتسلقت السياج هلعة مترنحة.
وأصبحت في الخارج. أصبحت في الخارج على الطريق، وليس بعيداً عنها كانت هناك بيوت بحدائق، بصناديق بريد، بأراجيح أطفال. وكلب صغير يجلس أمام البوابة. سمعت همهمة غائمة، كما لو أنها من حياة، من حديث، أو من خطوط الهاتف.
كانت ترتجف حتى أنها لم تستطع الوقوف. كان عليها أن تواصل المشي بسرعة عبر الشارع الذي بدا هادئاً ورمادياً، مثل الصباح. وبارد. الآن أصبحت تشعر بالهواء البارد حول فمها وبين حاجبيها، حيث تتبلل البشرة بشيء من العرق وتتسرب رطوبة باردة إلى الإبطين وبين الردفين. كان قلبها يثب ببطء وانقباض. نعم، كانت الريح باردة، وشعرت فجأة بالبرد، بالبرد الرطب يتخللها. رفعت يدها المرتجفة، ومسدت شعرها الذي كان رطباً عند الفرق. مدت يدها إلى جيبها وعثرت على منديل لتمسح أنفها.
بدت أمامها بوابة أول بيت.
فكرت بالمرأة المتوجهة إلى الباب، فكرت بإيضاحاتها، بوجه المرأة، بالشرطة. لماذا قاومت؟ خطر لها فجأة هذا الخاطر. ما الذي قاومته؟ لماذا لم أعطه المال وتركته يمضي؟ عيناه الحمراوتان، الرائحة وتشققات قدميه، شروخها، تآكلها. ارتعدت. برد الصباح طاف بداخلها.
عادت أدراجها من البوابة ومضت في الشارع بخطوات بطيئة، كأنها معتلة، تنزع أوراق النباتات العشبية عن جوربيها.
*****
خاص بأوكسجين