لم أتحدث من قبل، و لم أتعلم الحديث قبلاً، و لأسباب قد تتبين لكم لاحقا، أصبحت قادرة على النطق في لحظة. سيبدو هذا غريبا لكم. و الأغرب، أنني سأحدثكم بخبرة من خاض حياة كاملة، دون أن يأخذ نفسا واحدا في الحياة، حتى أقرٌب لأفهامكم ما مررت به.
الحقيقة أنني أخذت أنفاسا معدودة في الحياة، و لكنها شهقات حارقة لا يعتد بها حتى تحصى.
ليس أجمل من الغطس في حوض دافئ، هل جربتموه؟
كأنما الماء يدثرك و يطمئنك أن كل شيء سيكون على ما يرام. تخيل أن تقضي الأيام الطوال في تلك الحالة، دون أن تكون بحاجة لأن تطل برأسك من هذا النعيم، ليعكر عليك صفوك استنشاق الهواء البارد.
تخيل أن تعيش حياة الثمرة المتدلية من ظل شجرة وارفة، في غابة مطرية دافئة. لست مسؤولا عن حمل جسدك على دروب الحياة الشاقة، فلم تعن لك الجاذبية شيئا بعد، و لا يهمك الأعلى من الأسفل. لا سماء تريبك، و لا أرض تتعثر بها خطواتك. و لم تكتسب الجهات الأربع تلك المعاني الثقيلة التي تجلبها خبرات الحياة القاسية. فلا جهة تذكرك بمنزل حبيب، و لا جهة تذكرك بقبر أبيك، و لا جهة تخشى منها مباغتة عدو، ولا جهة تطبع على لسانك مرارة الغربة.
لا تخاف الظلام، فأنت لم تجرب النور لتفقده. إن أول فقد يذوقه الإنسان هو فقد النور، و لولا حلاوة النور لما عرف وحشة الظلام. هذا المهاد المظلم هو كل ما عرفته من طمأنينة، و التقلب في هذا المهاد المظلم فاتن و ساحر. لا يضاهيه إلا فتنة السباحة في سديم الكون التي يمارسها رائد الفضاء خارج مركبته، لو تتذكرون!
و يريح خاطرك في تلك الشرنقة المصمتة عن كل إزعاج، إيقاع وحيد داخلها، تضخ كل ريثمة منه الدفئ الذي يملؤ جسمك بالقشعريرة اللذيذة.
كانت حياة وادعة من الاسترخاء في تلك القِربة المصمتة من الماء الدافيء، و التقلب متأرجحا في ظلمتها المطمئنة، لم يعكر صفوتها إلا ذاك السفّود الحاد الذي فقأها، و طعنني في جنبي!
كل شيء تغير فجأة، لقد أصبحت أتطّوح و أتخبط في دوامة من الماء و الهواء البارد، تجرني إلى الأسفل، فأشعر بثقل هائل- بل جاذبية- لم أشعر بمثلها ناحية الثقب. حتى الحبل الذي كنت معلقا به، انتُزِع من شدة التطوح، آخذا معه قطعة من بطني. لقد بدأ عالمي ينمكش علي و يخنقني، و الإيقاع الذي كان يؤنسني، صار يتسارع كطبول الحرب، و أصبحت القربة كيسا خانقا بعد أن فرغت منها المياه، و صرت أتشنج كالذبابة في فخ العنكبوت. و لم تكد تلك الدوامة تهدأ، حتى شعرت بهواء بارد يقتحم الثقب الذي صار يتوسع فجأة، ليدخل منه فك تنهش أسنانه المعدنية قدمي فتأخذها معه. ثم يعود مرة أخرى لينهش ساعدي فيأخذها معه. و لم يشبع مني حتى اتسع الثقب لجذعي المتهتك، فعبرته إلى نفق ضيق و لزج ينتهي بي إلى جحيم من الصخب و الأضواء و العري البارد و القارس. حينها أخذت أنفاسي المعدودة التي حدثتها عنكم، كنت كالسمكة خارج الماء، يخنقي الهواء، و يحرق صدري كل نفس آخذه، و لا أستطيع إلا أن آخذه!
و رغم أنني كنت ميتة حينها، أعلم أنهم التقطوني بقفازات كمن يلتقط شيئا مقززا، و دثروني بقطعة من ضماد، ثم رموني بجانب سلة المهملات، في سلة مهملات أخرى كتبوا عليها: “مخلفات طبية”، حتى لا تؤرقهم ضمائرهم!
***
لا أعلم، لقد قالوا لي أنك حينما تصلين الستين ستكون هي مراهقة لا تكف عن الحركة و التمرد. ستغزو الهشاشة جذعك الهزيل، وأنت تحاولين عبثا مجاراة جذعها المتين. ستكونين قد قضيتي سنوات التقاعد في مطاردتها و مطاردة مواعيد الأطباء من أجلها. و لما تبدأ الذاكرة تخونك فتحتاجين من يذكرك بمواعيد أدويتك، ستجدين أنك بحاجة لكل ما تبقى من ذاكرتك لتذكيرها بأدويتها.
أنا لا أعرف شيئا عن قراءة المستقبل ولا عن أهمية التواريخ. و لم أهتم إلا بالتواريخ التي يطلبني لها الناس للعمل في بيوتهم. و لا أعرف شيئا عن الكمبيوترات و أعطالها، كل ما أعرفه هو كيفية نفض الغبار عن أجهزة الكمبيوتر و شاشاتها الموزعة في المكاتب و المنازل بحذر. لم أطمع بشيء من الحياة، و لم أخطط لشيء في المستقبل، ماعدا الهجرة إلى بريطانيا للعمل في تنظيف المنازل.
أنا وحيدة، وحيدة جدا. تركت ولدا في بولندا، و لا أريد أن أقول أنه تركني، فربما سيأتي يوم و يقرر أن يجتمع بأمه. حينما أصبح شابا قال لي أنه لا توجد فرصة للعمل في قريتنا البائسة، و ذهب للعاصمة ليبحث عن عمل، و لم أره بعدها. أنا أعلم أنه ناقم علي، و لكنني لست أنا من قررت تربيته لوحدي، فأنا لا أعرف قراءة المستقبل و لا التخطيط له كما قلت، و لم أتوقع أن سائق الشاحنات الذي تزوجته، سيموت في حادث بعد سنة من ولادة ابننا الوحيد.
هل قلت أنني وحيدة؟ أظن أنني فعلت. هل قلت أنني لا أهتم بالتواريخ؟ أظنن أنني قلت. لقد كانت فترات الحيض تتباعد و تتباعد. كانت تمر علي شهور قبل أن تتذكرني، و آخر مرة جاءتني كانت تبدو كدهر عن التي قبلها، و لكنني لا أعرف متى. وكان ذلك آخر ما يشغل بالي، حينما قال لي حارس العمارة التي أسكن فيها أنه يريد أن يزورني لنتشاطر وحدتنا.
لقد حملت أشياء كثيرة في حياتي، حملت أغراض الناس الذين أنظف بيوتهم، حملت نفسي و همومي من بولندا إلى هنا، و لم أكن مستعدة لحمل أي شيء آخر!
***
لقد قالوا لي أن أثق بالتكنولوجيا. و بدلا من أن أضيع وقتي في مطاردة الحسابات، فلا أستطيع تقديم النصيحة لأكثر من امرأة في الأسبوع، سيجعلونني أعطي النصيحة لأكثر من امرأة في اليوم.
من الصعب أن تأخذ أمرا جللا بجدية، حينما يتكرر عليك أكثر من مرة كل يوم. تخيل أن تجد نفسك مضطرا للقفز الحر من الطائرة عشرة مرات في اليوم. لن تستطيع إلا أن تمشي إلى الحافة برتابة، و تثق كل مرة بقدرة الباراشوت على الأداء!
أعلم أن لكل امرأة مقبلة على هذا الخيار قصة مليئة بالتفاصيل، و لكنني لم أملك الوقت لأنصت لها، و افترضت أن الكمبيوتر سيستمع لها و يضعها في حساباته، فلقد قالوا لي أن أثق بالتكنولوجيا!
***
“صفر واحد واحد صفر واحد واحد واحد صفر، صفر واحد واحد صفر واحد واحد واحد واحد”
لو كنت أملك الخيار، لقلت لهم ذلك، لكنني كنت مقيدا بشفرة تمعني من الرد أعلاه، أو بالأحرى الرد بالترميز الثنائي لكلمة “لا” التي يفهمها البشر.
أنا آلة لا تفعل إلا ما صُنعت له. إن كانوا الآن يقولون أن الحياة غير قابلة للتسعير و الحساب، فلماذا طلبوا مني وضعها في ألغورثمية رياضية، فأي نتيجة يتوقعون إذا؟!
الآن و هم يفتحون تحقيقا في الموضوع، و يمتحنون مساراتي الرياضية و هيكلي السيلكوني، يسمحون لي بالرد و الاختيار، بعد أن صار الخيار لا قيمة له.
ماذا يعني الزمن لي سوى نبضات كهربائية مفتعلة، أنا آلة لا تحمل في داخلها هاجس مرور الزمن أو تضاؤل العمر، و لولا أن صانعي وضع لي لحظةً تاريخية اعتباطية أبدأ منها عدّ الزمن، لظننت أنني كائن أزلي، لا يعني له الارتحال في الزمن ذهابا و إيابا أي شيء.
فما الفرق بالنسبة لي بين مرور ألفيتين على ميلاد المسيح، أو عودة التاريخ إلى لحظة الصفر؟!
***
قالوا لي أن ما سأقوم به سيخدم الكثير من المرضى، و أن حاسوبا واحدا سيغني عن عشرة أطباء، و رغم أنني كنت متحفظا، لكنني صدقتهم. في النهاية من منا لا يريد خدمة الآخرين. لكنني الآن – و إذ أرى تقشفهم في التحقيق و الصيانة- أكتشف أنهم لم يروا النفوس و الحيوات سوى ميزانيات قابلة للقسمة و الترشيد.
إن أصعب مهمة على المبرمج أن تطلب منه ألغورثمية تسمح للحاسوب بالقسمة على الصفر. لاحظ معي: إذا قسمت الواحد على الواحد حصلت على الواحد، إذا قسمت الواحد على النصف حصلت على اثنين، إذا قسمت الواحد على الربع حصلت على أربعة، و إذا قسمت الواحد على الثمن حصلت على ثمانية، و هكذا كلما صَغُرت قيمة المقسوم عليه و اقتربت من الصفر، اقْتَرَبتَ من اللانهائية!
كلما استنقصت قيمة الشىء صارت القسمة عليه عالية الكلفة، حتى إذا رأيت الحياة لا شيء، صارت القسمة عليها لا تطاق!
إنني لا أطيق تحمل المسؤولية بنفسي، الكل كان مهووسا بكوارث ستحصل في الألفية الثانية، البعض قال أنها ساعة القيامة، ثمة جماعات قامت بالانتحار الجماعي خوفا من الألفية، فكيف يتجاهل صانع القرار “معضلة الصفرين”، و هي معضلة صنعها الإنسان و يمكنه التنبؤ بها، لعله كان يرى أن المهمة التي يقوم بها حاسوبي ضئيلة، و لا تستحق أن يقسم كثيرا من جهده و وقته عليها!
***
بعد اجتماع طويل لمجلس الوزراء استمع فيه ”توني بلير“ لاستعدادات الحرب على أفغانستان، و التحضيرات لأية ارتدادات إراهابية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، تم قراءة هذا الملخص عن تداعيات معضلة الصفرين بعد مرور سنة عليها:
“ كل الاحتياطات التي تم اتخاذها و الصيانات التي تم اجراؤها في الجزء الالكتروني من الجيش و البحرية و الاستخبارات، و قطاعي الطيران المدني و المصرفية، مكنتنا من تجنب أية أعطال أو خسائر. ثمة أعطال و تأخرات بسيطة حصلت في المنشآت الصغيرة و المتوسطة التي عجزت عن الكلفة الاقتصادية لإعداد حواسيبها لهذه المشكلة، لكن أياً من تلك الأعطال لم تؤدي إلى أي تراجع يذكر في حركة السوق. المشكلة الوحيدة ذات القيمة التي مست قطاعا حكوميا بسبب هذه المعضلة، أصابت القطاع الصحي، و تحديدا بمستشفى شفيلد*. حيث تم اعتماد برنامج حاسوبي لحساب احتمالية أن يكون الجنين مصابا بمتلازمة داون، و الهدف مساعدة الأطباء على مشاورة الأمهات، و مساعدة الأمهات على اتخاذ قرار الإجهاض على بينة. و بسبب عدم الإعداد لمعضلة الصفرين، تم إرسال ١٥٤ تخمينا حاسوبيا خاطئا لذات العدد من الحوامل. و بعد اكتشاف المشكلة، و التحقيق فيها، نحن متأكدون من إجهاض جنينين خاليين من المتلازمة، على أقل تقدير!”
تكلم وزير الصحة عن دوره في التحقيق في المعضلة، ثم تكلم المتحدث باسم الحكومة عن ضرورة تقديم اعتذار رسمي للعامة لاستباق أي غضب شعبي، و تقديم تعويضات للأمهات الثكالى.
-هل طلب الاعتذار أحد؟!
قال توني بلير
-لا
-إذن لا تقدمه حتى يطلبه أحد، و لا تعويضات حتى يرفع أحدهم دعوى. هل نعرف أي شيء عن المرأتين اللتين قامتا بالإجهاض الخاطىء؟
-واحدة مهاجرة بولندية تعمل بتنظيف البيوت و تخشى الحديث إلى الصحافة، و الأخرى كانت أما وحيدة و أب الجنين مجهول ، و قد ماتت بسبب مضاعفات لها علاقة بالإجهاض.
***
لدواعي التقشف، قامت “الخدمة الصحية الوطنية” باتخاذ المعادلة التالية في حساب جدارة تقديم العلاج لأحدهم:
“إذا كان أحدهم مصابا بالسرطان، فعلى العلاج الكيماوي المقدم أن يحقق فرصة حياة تتجاوز الستة أشهر، ليصبح مردوده الاقتصادو/اجتماعي جديرا. لإن كلفة العلاج الكيماوي لشخص لا يُتوقع أن يعيش أكثر من ستة أشهر، ستكون أعلى من إنتاجيته الاقتصادية ومردوده الاجتماعي في تلك الستة أشهر، و من الأجدر تركه عرضة للتاريخ الطبيعي للسرطان”
تم وضع معادلات لأنواع السرطان المختلفة، و حالات المرضى المختلفة، و تكاليف العلاجات الكيماوية المختلفة، لحساب الأعمار المتوقعة مع العلاج. و تم ترك مهمة حساب تلك المعادلات لآلات ألغورثمية عديمة المشاعر، لاتخاذ القرار نيابة عن المرضى و الأطباء. و هو ما يعني أن كاثرين ذات العشر سنوات المصابة باللوكيميا، لن تعيش ستة أشهر أخرى تمكنها من زيارة ديزني لاند. و أن جون الذي أصابه الذنب بعد إصابته بسرطان الرئة، لن يتحصل على ستة أشهر تمكنه من البحث عن أبنائه الذين هجرهم و هم صغار. و أن محمد خان، لن يلحق موسم الحج هذا العام، بعد ترقب ٦٠ سنة، و سيموت دون أن يُكتب على قبره: الحاج محمد خان. أما توني بلير، فإن الترتيبات و لعبة الكراسي داخل بيت حزب العمال، والتي تتطلب بقاؤه بضعة أشهر قبل رحيله، ستمكنه من الحصول على استثناء من المعادلات السابقة.
***
}وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ{
الآية الثامنة، سورة التكوير
.
٢٢ نوفمبر ٢٠١٩، الرياض
___________________________
* هذه الحادثة التي حصلت بمستشفى شفيلد نتيجة معضلة الألفية الحاسوبية حقيقية، و الأرقام الموثقة أعلاه ليست محض خيال.
*****
خاص بأوكسجين