آخر رقصةٍ كانت في غرفةٍ بعيدة.. ربما في الأعلى أو مهملةٍ وضيقةٍ في نهاية الممرّ .
ما أعرفه أنّ هذه الغرفة تشبهها تماماً، وأنّ أسئلةً لا متناهية تطارد الجدران الأربعة والنافذة الصغيرة، وفي كلّ مساء، صورةٌ لفتاةٍ بملامح إفريقية تهمس في أذنها: كيف لامرأةٍ تعيش عامين لا تفكر في رقصةٍ واحدة..!
امرأةٌ طمأنت أصابع البيانو وعلمتها ألا تخاف حين تغلق طفلتها الباب عليها.. يرعبها ظلامٌ ممتدٌّ لمترين في الشارع!!
تكتب على ذراعيها أبياتا لمظفر وجبران والسياب وتسجن الكلمة أعواما طويلة!!، كلّ شيءٍ يبكيها وحين تضحك تصنع بحراً وحديقةً أسفل شرفتها.
امرأةٌ تنام هنا، وأقدامها في الشوارع، تبحث عن ضحكاتٍ سقطت من جيوب المارة وتلتقط حبات المطر..!
كل قطعةٍ في دولابها رتبتها معها.. المقاسات من الحذاء إلى حمالات الصدر، عرفتها بمفردي، أذكر أنها ساعدتني قليلا، وأذكر أيضاً جمال الألوان في القطع الصغيرة، وكيف كانت دهشتها من سحر الأحمر الداكن على كتفيها.
كلّ شيء لديها عنده رغبةٌ في الحياة، كل ما لديها يحبها، أقمشةٌ في دولابها، أعشابٌ باليةٌ تجتثها كلّ أسبوعٍ دونما رحمة، كل ذرة غبارٍ فوق كرسيّ دراجتها، غرفة الرقص البعيدة المهملة، أنا..
أنا أيضا أحبها مثلهم بل أكثر، لكنها تتركني لتقابل نفسها أمام مرآتها كلّ ليلةٍ بدوني..!!
هناك.. تقف ساعاتٍ طويلة تراقب الحزن على وجنتيها، بيدٍ تقبض على خصلتين من شعرها، ويدٍ أخرى تتحسس ببطئٍ ملامحها، تفتح عينيها كأنها ترى للمرة الأولى، تبكي دقيقةً واحدة، ثم تضحك وتهمس بأغنيةٍ قديمة، وتقرر أن تفتح في المرآة باباً صغيراً يدخلني أنا فقط، لنعيد ترتيب القطع مجدداً، ونتأمل طقوس يوم الغسيل وفرحة الملابس على “الحبال” ونختار للشتاء كلّ ما يناسب سهراتنا الطويلة.
لا أعرف هذه المرأة، وأعرفها أكثر مني، هي لا تعرف من هي، لكنها تعرف جيدا كلّ من شوهوا ماضيها وأحرقوا أيامها فأسكنوها الوحدة..
أما أنا، فحين تقول أحبك كأنّ العالم كله بداخلها يقول أحبك، كلّ هذا الحبّ بداخلها وتحزن في الشهر مرتين، وتبكي في الشهر مرتين، وتضحك كلّ يومٍ ألف ضحكة، ولا تصدق منها إلا واحدةً تأتي من بعيد، من مغامرات جبال الرمل وحكايات الأطفال.
في بلادها القريبة البعيدة، زرعت الوردات ووزعتها، في حضن أبيها بستانٌ أتلفه أمام عينيها.. يشمّ ورداتها ويجحد الطيب.. أمها لما تكن على علاقةٍ بالورد.
كلّ الوردات الحلوة كانت في يد جدتها، كل الحكايات القديمة منقوشةٌ في كفها، كانت تخبئ لها الحلوى وترسم بعصاها حقلا ومظلةً ودراجةً حمراء.
طفلتنا الأولى هناك أيضا، في ساعةٍ واحدةٍ انتقينا لها اسماً ورسمنا ملامحها، قالت أرسم لها شفتين وشامة، الشفتان للضحك فقط، والشامة أسفل ظهرها بقليل، أرسم عينيها دوائر كبيرةً وأخبرها أن ورداتها لبستانها الصغير فقط، قل لها أمك تكره المكياج وتعشق الشام وبغداد وتحفظ أربعة خطاباتٍ لنصرالله، تحبّ الشتاء وتأكل بأسنانها من يتجرأ على “عبدالناصر”، وتحلم كلّ ليلةٍ أنها حبست كلّ من داسوا ورداتها أسفل كأس النبيذ!.. كعنكبوتٍ تسلل من الحديقة إلى المطبخ فكرت ألف مرة في قتله وفي النهاية تركته أسبوعاً كاملاً يموت من الوحدة.
*****
خاص بأوكسجين