“يونان”: لا شيء تغير سوى مغالبة الشوق والمنفى
العدد 301 | 16 تشرين الثاني 2025
زياد عبدالله


تبتعد الأصوات أكثر في جديد المخرج السوري أمير فخر الدين “يونان”، وتنأى متخذة من المخيلة ملاذاً استعادياً، وهي ليست أصوات قنابل وقذائف واقتتال تعبر السور الفاصل بين الوطن الأم والجولان السوري المحتل، كما في فيلمه الأول “الغريب”، مع أن منير في “يونان” غريب أيضاً في أرض غريبة،  كما كان عدنان غريباً في أرضه وبين أهله!

لا يصل عدنان (أشرف برهوم) من بلده الأم سورية المدمرة في “الغريب” (2021) سوى جريح كل أمنيته أن يدفن في الجولان، بينما لا يجد منير (جورج خبّاز)  في “يونان” (2025)، سوى مكالمات الفيديو، مع أخته وأمّه، وهذه الأخيرة تعاني من الزهايمر، وبالتالي إن الذاكرة في خطر، واجداً في حكاية كانت تحكيه له ملاذاً، وهي عن راعٍ: ” ما عندو تم ولا دينين ولا أنف. ما عندو غير قطيع الغنم ومرتو الحلوة متل القمر متل شق الرمان…”، وهذا هو الشيء الوحيد الذي سيستخلصه من الوطن الأم، من الأم الوطن.

منير كاتب يعيش في هامبورغ، وصراعه الرئيس مع ذاته، مأزقه كامن في المنفى والاغتراب والعزلة، في حنينه، في وحدته. نجده عاجزاً عن تبادل الحب مع صديقته الألمانية، وأنفاسه تخذله من دون أي علة فيزيولوجية بل نفسية، كما سنتبين مع بداية الفيلم، ولتكون استجابته لنصيحة الطبيب بأن يقصد الريف ويستجم، آتية من رغبته بالانتحار!

سيعيش منير في عالمين، واقعه الألماني وحكاية والدته، وسيتوزع الفيلم بين هذين المسارين، الأول ناطق والثاني صامت، وحين يقصد تلك القرية البحرية أو شبه الجزيرة، سيتصاعد صراع منير الداخلي بداية، ستتزايد وحدته، من دون أن تفارقه حكاية الراعي (علي سليمان) وزوجته (سيبل كيكيلي)، الحكاية التي لا تتنامى ولا تتطور، طالما أن الراعي “يرجع إلى مكان لم يتركه يوماً” أو أنه حين يعود إليه فإنه “ما من شيء تغير فيه”.

سيتيح موقع التصوير في شبه الجزيرة التي يقصدها منير أن تكون مجازاً عن ما يعتمل في دواخله، ولعل تعافيه، إن صحت الكلمة، سيكون تدريجياً على يد العجوز صاحبة النُزل في تلك القرية (هانا شيغولا)، والتي تتحول إلى معادل للأم، وللوطن ربما، وهي تحنو عليه، فتعالجه من وحدته، وما من شيء يعيق هذا المسار سوى ابنها كارل واستيائه من منير ووجوده هو الذي سيسأله “ماذا تفعل هنا؟” وإن كان من صراع خارجي سيخوضه منير فإنه سيكون مع كارل، والذي سيتجسد على هيئة مصارعة بدنية أيضاً، وهي تؤذن بقبول كارل لمنير! لكن القبول الكامل سيحتاج إلى عاصفة هوجاء تجتاح القرية يغمر فيها البحر أراضيها، وهنا يتضح عنوان الفيلم، وفي لقطة واحدة سريعة نرى فيها منير واقفاً وإلى جانبه حوت أسطوري انحسر البحر عنه بعد الطوفان، ولسان حاله يقول ها قد نجوت، كما لو أنه مثل يونان أو يونس وقد بقي في جوف الحوت لثلاثة أيام وثلاث ليال ولم يهلك وقد آن أوان العودة إلى هامبورغ.

وإن كانت نقطة الانعطاف الرئيسة في الفيلم تأتي مع العاصفة والطوفان، فإن ذروة الفيلم العاطفية، تأتي حين تفاجئ صاحبة النُزل منير، وبعد سيل من الأغاني الألمانية التي تصدح من المسجل ويرافقها غناء كل من في الحانة، بوضع أغنية “حوّل يا غنّام”، حينها فقط يمكن القول: لقد نجا منير من الموت والانتحار، لقد امتزج الوطن بالمنفى بأغنية، وما رقص منير رقصته المدهشة المليئة بالتعبير والجمال، إلا تأكيد على ذلك، تلك الرقصة التي سترسخ في وجدان وذاكرة كل من سيشاهد الفيلم، وقد تكثفت بها استثنائية تجسيد خبّاز للشخصية وبراعته.

الانقسام في ذات بطل فيلم أمير فخر الدين “يونان” مفصلي، لا بل هو كل ما يتأسس عليه الفيلم، فهو متوزع بين هنا وهناك، بين المنفى والوطن، بين أن تكون من دون فم وأذنين وأنف، لا صوت لك، لا حواس، مغيّب ومعزول ولا أحد يأبه بك، وبين أن تكون بلا أثر “نجماً في سماء مظلمة ووردة في صحراء مقفرة” كما يرد في مونولوج الفيلم الختامي حين يعود منير إلى هامبورغ، والصراع بينهما لا نصر فيه ولا هزيمة، وإن بدى الأمر ذاتياً في سياقه الفني والسينمائي، فهو نتيجة عوامل ليس لمنير ولا أحد يداً بها، ولا يمكن بحال من الحال أن يُحسم، إلا جراء متغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية، بينما “ما من شيء يتغير” على رأي الراعي في الفيلم، لا بل حالة مخرج هذا الفيلم وكاتبه فخر الدين تتخطى ثنائية وطن ومنفى، فهو لا يحمل الجنسية السورية ورفض الجنسية الإسرائيلية ويقيم حالياً في ألمانيا بعد أن نال إقامة فنية من وزارة الثقافة الألمانية، لديه وثيقة سفر من سلطات الاحتلال الإسرائيلية مخصصة للذين رفضوا الجنسية الإسرائيلية وهذه الوثيقة مكتوب عليها “غير معرّف”. وهذا يتخطى بيت المتنبي الذي صدّر فيه فخر الدين فيلمه: ” أغالب فيك الشوق والشوق أغلب/وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب”.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.