لا اعرف اين قرأت هذه النادرة ومتى… ولكن، انطبعت فصولها في خاطري منذ سنين وتثبتت حقيقتها بمرور الزمن ومعاينة ما آلت إليه الثقافة أو ما يسمى هكذا في محيطنا العربي المعاصر، حتى لا أحدد أكثر ونتيه في التأويلات والمزايدات في فترة إن لم تزايد فيها على غيرك يستنقص منك شيء ما…
على ما أتذكر، تدور الأحداث في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) بمدينة البصرة قبيل اندلاع “ثورة الزنج” (839-869 م) تحت قيادة ذاك الداعية المتقلب الأهواء والتحالفات والانتماءات “علي بن محمد” الذي كان شخصية درامية طريفة تناولها كاتبنا عز الدين المدني في مسرحيته الشهيرة “الزنج”… فنتيجة للنفوذ المتزايد لطبقة الغلمان والمرتزقة الأتراك الذين تعهدوا الأمن والملذات ببغداد وتضاعف نفوذ البرامكة وكثرة الانقلابات داخل القصور العباسية للفترة الوسطى وتدهور الحالة الاقتصادية في بقاع الخلافة مع تشتت أوصالها وضعف الروابط الاجتماعية وبطالة متزايدة بين شباب الخلافة وثراء فاحش بين طبقة الأثرياء الجدد وانعزال الخليفة العباسي “المعتصم بالله” وتأثير حاشيته المميت، تأثير أبعده عما يكون الحياة العامة رغم “وامعتصماه” الشهيرة نتيجة هذا الانفلات كله ليس فقط في حاضرة الخلافة، بغداد، بل في كل المدن العباسية الكبرى، ناهيك عن العبيد الذين سيكونون رحى ثورة الزنج تلك… بدأت علامات أفول الخلافة العباسية وانطفاء أنوارها مع انطفاء “أبو تمام” و”البحتري” و”المتنبي” إلى أن يأتي القرن الرابع الهجري مع معريه وجاحظه ومعتزلته وغيرهم…
الشيخ والمخطوط
تقول النادرة، أن من بين رجال العلم المتواضعين الذين ابتعدوا عن السلطان ونزواته، ونذروا حياتهم لحلقات التدريس وربط الصلة بين المعارف وإرساء الممرات بين الفنون والمحافظة على إشعاع بغداد رغم تدهور الأحوال الاقتصادية وانتشار الظلم التركي واستغلال العبيد وعبودية الأحرار من العرب ولهو الخليفة بين جواريه وغلمانه، يوجد شيخ تعدى عمره العقد الخامس، فابيضت لحيته وانسدلت على صدره الهزيل وسقط شعره رغم عمامته المتواضعة وهرمت قامته رغم عنايته بنفسه واهتمام زوجته به ولم يقلل كل ذلك من طيبته المعاينة وولعه بالمعرفة واقتصار أيامه ولياليه على المحافظة على العقد الفريد بينه وبين مرتادي حلقته حتى أصبحت المعرفة لديه “محنة” يجد فيها لذة يلجأ اليها ليجد فيها راحة بينه وذاته…
غير أن الشيخ لم يهدأ له بال ولم تشبعه لذته ما لم يضع يده على مخطوط فريد في علم الأجرام قيل أن “جالينوس” ألفه ولم يترجم للعربية رغم حملة المأمون وبيت حكمته، فأعلم الشيخ كل الوراقين والخطاطين والرحالة والمارين ببغداد بطلبه وتوسل إليهم أن يمدوه بالمخطوط إن وجدوه وسيدفع لهم ما يطلبونه…
ومرت الأشهر والشيخ يتمنى وآماله تنمحي ومحنته تتضاعف كل يوم يمر فيها ولم يحصل على ضالته فيما طلبته لا علم لهم بتمنياته…
وذات يوم، وهو يحاضر في تحليلات منطق “ارسطاطاليس” والتفنيد السفسطائي وإذ بغلام يدخل عليه حلقته ويعلمه أن سيده وضع اليد على ضالته… وما أن استمع الشيخ لما استمع إلا وهرع خارج الحلقة وكأنه شاب في العشرين راكضا بين السبل وجحافل الأتراك وتجمعات الفقراء والمساكين وخانات التجار، ركض نحو محل الوراق… والغلام يلهث وراءه غير قادر على اقتفاء إثره حتى كاد يقع على وجهه من شدة الهرولة…
محنة الخروج عن المعرفة
وما أن دخل الشيخ محل الورّاق إلا ورحب به صاحبه وهدّأ من روعه وأعلمه أن المخطوط موجود وسيمده إياه لحين ينتهي من تلبية طلبات أحد الأعيان الجالس بين الكتب ومخطوطات البردي ينظر الى هذه فيتمعن في لون ورقها ويطلب تلك دون حتى النظر فيها…
وهو على هذه الهيئة من التمعن وإذ به يتفطن إلى لهف الشيخ ورغبته الملحة في الحصول على أمر يرغب فيه… فسأل الوراق فأجابه بلياقة وأدب أن الشيخ-المعلم يترقب منذ زمن كاد يكون دهرا مخطوطا لطلبته حول الأجرام… تملكت بالأمير رغبة التطفل فطلب المخطوط… فجاءه به الوراق والشيخ ينظر من بعيد… أخذ الأمير المخطوط فقلبه على أوجهه وتكهن مقاساته وتصفح خطه وعاين حبره وتمعن في لون ورقه الأصفر الفاتح وغلافه المذهب… والشيخ من بعيد ينظر… سأل الأمير عن سعر المخطوط، فقال الوراق أنه للشيخ وبطلب ملح منه… قال الأمير أنه يريده، فقال الوراق أنه ليس للبيع… فتدخل الشيخ وقال إنه يبتغيه وقابل لشرائه… فقال الأمير إنه يريده بالمبلغ الذي يطلبه الوراق… قال الوراق إن الشيخ قد حدد المبلغ بعشرين دينارا… قال الأمير إنه قابل لأن يدفع فيه ضعف ذلك… قال الشيخ إنه يدفع فيه خمسين دينار… أضاف الأمير إنه يدفع فيه ضعف ذلك…
وحينما رأى الشيخ أن الأمر سينفلت منه قال إنه يدفع فيه مائة وعشرة دنانير… من دون أن ينظر الأمير لا للوراق ولا للشيخ وهو ممسك بالمخطوط يقلبه ويمسح عليه براحة يده بصفة بطيئة، قال بصوت رتيب “أدفع فيه ضعف ذلك”… واصفر وجه الشيخ وشحب وجه الوراق… مائتان وعشرون دينارا مقابل مخطوط عن الأجرام، فذلك ما لم تره بغداد من قبل…
وأمام إلحاح الأمير وإصراره الثابت سأله الشيخ وقد باتت علامات التعجب ترتسم على وجهه المصفر: “سيدي، قد لا تعلم والوراق يعلم أني لطالما انتظرت هذا المخطوط منذ أشهر ولم أعلم أنكم تريدونه أيضا، أتهتمون بشؤون الأجرام وحركة الكواكب ومسار الأقمار؟
أجاب الأمير: معاذ الله، فتلك مشيئة الرحمن وليس لي فيها أي غرض…
قال الشيخ : أنا أطلب المخطوط لطلبتي وأبحث عنه لثرائهم وأنت لا تهتم له وترغب فيه، فما السبب؟
قال الأمير وهو يضع المخطوط بجانبه: وددت أن أتركه لك ولطلبتنا ولكن مع الأسف الشديد لا أقدر وإلا محنة الخيبة قد تأتي علي يا شيخي الوقور … إن مقاساته ولون غلافه يتجانسان مع كوة فارغة بهذا الحجم في مكتبة بهذا اللون في فضاء الإخلاص في قصري الجديد بضاحية بغداد الشمالية… حينها شهق الشيخ عند سماع الأمير، فلم ينبس بكلمة. نظر إليه نظرة رجل سقطت منه تسعة أعشار من الأمل والإيمان بالعلم… فاستدار ورجع خطاه ليس إلى حلقة ذكره بجامعه ودروسه ولكن إلى داره…
ومن يومها لم نسمع قط عنه وعما آل إليه مصيره.
أما المخطوط، فقد تم ترميمه وحفظ من بين مجموعة الأمير فلان بن فلان، “راعي الأدب والفنون” في عصر الخليفة المعتصم بالله، غالب ثورات الزنج والخرمية والطالقان… أما الشيخ، فهناك من قال أنه هجر بغداد إلى بلاد الروم وهناك من قال أنه هجر التعليم وهناك من قال أنه هجر المعرفة جملة وتفصيلا. ولم نسمع عن الشيخ، صاحب محنة المعرفة والتفاني في إسدائها ولم يذكر اسمه إلا في هوامش بعض الدراسات المختصة والنادرة حول علم الفلك عند العرب القدامى…
______________________________
المقطع مأخوذ من كتاب “الثقافة محنة لذيذة” الصادر أخيراً عن دار “نقوش عربية” – تونس 2016 مع رسوم لتوفيق عمران.