هوَ الذي تَبِعَ سِربَ القَطَـا
العدد 206 | 07 شباط 2017
يحيى علوان


[في مكانٍ ما بـ “أرض الألمان”، المحقق رجلٌ في منتصف العقد الخامس، مع لاب توب، حادّ القَسَمات مثل حشفةِ تمرٍ يابسة، يحقق مع هاربٍ من أرض كنعان]

 

– احكِ لنا بصراحةً.. كيف وصلتَ إلى هنا، ولماذا…؟

– … ببساطة.. تَبعتُ سربَ القطا…!

– ها أنتَ تُعيدُ ما قاله غيرك. لقد مرَّ عليَّ كثيرون غيركَ!

ألا تفهم؟! أريدُ أنْ أسجّلَ محضراً بأقوالك!  

– طيب، طيب..!! طوِّلْ بالك علينا، ياعمْ..!

 …………………

 – في الخريف لمّا تأخّرَ المطَرْ،

   سقط الناسُ مثل أوراق الشجَرْ،

   في موسمِ الحرثِ أيضاً ما أتى المطَرْ،

   وفي موسم الحصاد ما طلَّ القمَرْ،

 

قاطعه المحقّق

– قد حفظنا كل أساطير “ألف ليلة وليلة” وعلي بابا..!!

   أريدُ منكَ أسماء وعناوين. لا نفعَ للشِعرُ هنا!

 

– يا عم، أنا أروي لكَ ما حدث.. صبرَكْ علينا… شوَيْ!!

 

– اترك هذه الألاعيب اللغوية! لست عمَّك أو خالك، ولا صديقك..

   أنا موظف..! أطرحُ عليك أسئلة، وأنت تجيب… واضح؟! قالها بحدة ظاهرة

 

[تدخّل المترجم ليوضح للمحقّق أنَّ مفردة “عم” يُنادى بها للاحترام عند قوم اللاجئ]

 

– .. حسناً، أَسمِعنا شيئاً آخر…

 

– يا سيدي.. ! لمّا حل موسم الحصاد بلا بيادر، جاعَت القُبّرات. راحت تُنقِّرُ زجاجَ الشبابيك،

   تتسوَّل الناسَ حَبّاً…!

   وحينَ مرَّ رَفٌّ من “الطير الأبابيل!”، طاشَ صغارٌ كانوا يلعبون… مَنْ لم يَمُتْ منهم،

   “ماتَ حيّاً”!!

   فرقَعَتْ السماء، يا عمْ ــ عفواً يا سيدي ! ــ شبَّت النيرانُ في الدور والشوارع والحدائق…

   هجَرَني النعاس.. رُحتُ أُشَذِّبُ خوفي. ففي قمّة الجُرح يعزُّ البكاء كما تعلمْ!

   وأُدرّبُ عيني ألاّ تطرفَ خلال القصف والانفجارات، كي لا يفوتني مشهدٌ،  

   علَّني أكون أنا الشاهد، إنْ نَجوت!

   ولأنني مِعجَنةُ سرابٍ، صِرتُ أدُقُّ الريحَ والماء.. أعجنه أرغفَةً للجياع في الجحيم..

   لكنني، الله يعلم! سئمتُ الطَخَّ والقصفَ والقنصَ… الخنادقَ والحصار،

   ملَلتُ الانتظار على خنجر المذبحة، حتى تزول المتاريس من عتَبات المنازل    والدكاكين

   وأكتافِ لغةٍ، هي الأخرى راحَت تحترق…!!

   ببساطة، لم أستطعْ!!

   فقد صدأَت المساميرُ في سُرَّةِ الجُرح،                        

   كذلك لم أطمئن، لرفع المصاحف! فالبنادق كانت مرفوعة باليد الأخرى…!!

   نسفوا “الروزانه”… فلم يبقَ لحلب لا عنبَ “باخوس” ولا ما تحته من تفاحٍ   مُشتهى..!!

   وهكذا غَدَونا منذورينَ لفَرحٍ مُلَفَّقٍ… ولا دليلَ على صوابِ ما بعد…!!           

   ……………………………

   …………………………….

   بَكَتْ أُمي الضريرة، تَتَوسَّطُ مَنْ بقيَ من نسوة الجيران، لمّا عرفَتْ بعزمي، فأحرقت قلبي من جديد:

   “يَمّه لَوين بَدَّك تمشي؟؟ إخواتك راحو، الله يرحمهن… واحد بحمص وواحد    بحلب!!       

   ظلّيت وحدك ذُخر لا إلي.. مين إلي بعد ما تروح…؟!!”

   ……………………………..                                                 

   كنتُ، يا سيدي، قد سمعتُ كثيراً في نشرات الأخبار أنَّ بلادكم مُشرعة أبوابُها  للسوّاح

   والأجانب… والتجار من كل “الأصناف” !! لذلك حزمتُ أمري، تَخَوصرتُ الريحَ وأسرجتُ

   صهوةَ البرق… تَبِعتُ سِربَ القَطَا…

   وهكذا تراني الآن أمامك!!

                                             

[إستدارَ نحو المترجم هامساً: شو، معَلِّمْ.. إن شالله عَجبْتَك؟!

دَخلَك، تِفتِكِرْ يخلّونا نظل هون، وإللا يكسّحونا..؟؟!! ]

*****

خاص بأوكسجين


كاتب ومترجم عراقي مقيم في برلين. درس الأدب الانكليزي في "جامعة بغداد"". عمل في الصحافة والترجمة منذ عام 1968، من مؤلفاته: ""الجثة لا تسبح عكس التيار""، و""تقاسيم على وطن منفرد"". من ترجماته: "" ""أيها القناع الصغير أعرفك جيداً"" نصوص أدبية لأوغستو مونتيروسو، و""المشط العاج"" (رواية فيتنامية)، و""حوارات المنفيين""."

مساهمات أخرى للكاتب/ة: