هو الشاعرُ الملحميُّ الذي لم يخرج من دمشق، ولم يحد يوماً عن الطريق إليها، هو القادمُ من بلاد الشامِ، السوري الذي احتضنتهُ خيمة فلسطينية في بيروت، و”الصبي” الذي أصدرَ ديوانه الأول والمدينة تُقصف في اجتياح العام 1982، بهذا العنوان اللّامع الذي أعلن يومها ولادةَ شاعرٍ بصوتٍ متفرِّدٍ عصيٍّ على التصنيف، حظي أخيراً بجائزة “ماكس جاكوب” المرموقة عن “ابتسامة النائم”.
هو المهاجرُ اللاجئُ المثقفُ الثائرُ المشتّتُ بين أكثر من مدينةٍ ومنفى، لكنّه الشاهدُ المسافر المقاومُ الذي يروي تغريبة السوريين أو “طرواديي العصر” كما سمّاهم في مدوّنته الشعرية. والجرّاح يجرحه سؤال الحاضر والمستقبل، فيستعين بالماضي مستحضراً ما تناسته هذه الشعوب في امتداد تاريخها الحضاري وإرثها المتوسطي، من تجارب إنسانية وقصص حب ومعارك أسطورية يعيد نسج خيوطها مع الراهن الممزّق، وقد أمسى الشتاتُ عربياً في العقد الأخير؛ الغزاة يأتون من الداخل والأسوار ترتفع في الخارج والمراكبُ تغرق والمدن تحرق وتُهدم والجثث تدفن في مقابر جماعية أو تطفو على سطح البحر وعلى الشاشات والكلّ يتفرج.
هو الشاعر الدمشقيّ الشاميّ العربيّ المتوسّطي صاحب قصيدة متعدّدة الأصوات، يمتزج فيها الواقع المأساوي بسرديات قديمةٍ قِدم الوجود الإنساني؛ انتصاراً لقيم جمالية حداثية وكتابةٍ لا تتنازل عن شروط الإبداع كفعل مقاومةٍ، ليصنعَ مدينةً مجازية للمنفيين المناهضين الثائرين على كل المتون المغلقة والمدن المقهورة والديكتاتوريات والأنظمة الشمولية التي تمنع أيّ ذرّة أوكسجين لتسبح بحرية في الهواء.
نوري الجرّاح كما أبطاله التاريخيين وضحايا التراجيدية السورية اليوم، لم ينجُ من قدرهِ في الخروج من الوطن، وهو الذي ولد في منطقة المهاجرين، بعد أن ضاق به، وبالكثير من رفاقه، الأفق وسُدّت في وجوههم الأبواب وبات الوطنُ سجناً كبيراً لكل من يطمح إلى الحرية ويمضي وراء حلمِ التغيير. وفي السفر والترحال استمرارٌ للتجربة، لمسرح الحياة وقد اعتلى خشبته الجرّاح شاباً، قبل أن يتفرّغ لكتابة الشعر والنضال السياسي، ثمّ في المهجر بتأسيس العديد من المجلّات الأدبية وإدارته الآن لسلسة مشاريع وكتب في الأدب الجغرافي وأدب الرحلة.
ولأن المقام مقامُ شعرٍ بامتياز، فإن تجربة الشاعر السوري نوري الجرّاج تتأسّس على حوارية مديدة ومترامية بين مآسي الحاضر وما وقع في أزمنة بعيدة في هذه الجغرافيا القلقة، ملتقى الثقافات والحضارات ومرتع حروبٍ ومعارك دامية وترحالٍ فردي وجماعي على مرّ العصور. فالخسارة هنا فادحةٌ، والألم مدمِّرٌ، والواقع سريالي، هنا أحلام تتسرّب من ثقوب الرصاص في الجثث والجدران، هنا وعيٌ بلعنةِ الدم والقهر والاضطهاد والملاحقة والدمار الشامل… هنا توهّجٌ شعريٌّ متّسعُ الرؤية، كثيفُ العبارة، إنسانيّ الهمّ.
وفي عبارة الشاعر “كثافة العيش في دمشق القديمة” تكثيفٌ قاتلٌ للحنين والحبّ والشوقِ والأمل الخفّي، وهو حين ينام في بيته المؤقت لا يضع رأسه على الوسادة إنما على سفح جبل قاسيون. لا يلتئم جرح نوري برثاء المكان أو بالوقوف على الأطلال، إنّما بمواصلة المعركة مع ذاتهِ، وهو يكتب نشيد الغرق الدامي، يفصّل في التعريف بأبطالِ قصائدهِ الملحمية، يمنحهم صوتاً بعدّة لغاتٍ، يدافعُ عن أحلامهم المستلَبة، وآمالهم التي ترهنُها الميديا، وأفكارهم التي يصادِرُها المضاربون، وجراحهم التي يتاجِرُ بها الانتهازيون؛ يفردُ لهم ساعاتٍ طويلةً من أيّامه ولياليه، أوراقاً وأسطراً مضيئة في عتمة الفصول، وقصائدَ مرّت بـ “مجاراة الصوت”، وعاشت “طفولة موت”، وتجوّلت في “حدائق هاملت”، ولم تحد عن “طريق دمشق”، حتى وهي تضيف للرزنامة “يوم قابيل”، وتمضي في “قارب إلى لِسْبُوس” متحديةً أهوال البحر ومآسيه، معتقدةً أن “لا حرب في طروادة”، مردِّدةً “كلمات هوميروس الأخيرة”، حتى وهي تعيدُ سرد “مرثية بَرْعتا التدمري لمحبوبته ريجينا” في كتابه الأخير “الأفعوان الحجري”، تلك الـ سيرنادا الشرقية، وذلك السّطر التدمري اليتيم في حجرٍ روماني الذي أشعل مخيّلة الشاعر.
الشاعر نوري الجراح شاعرٌ قلِقٌ مغامرٌ يموتُ ويحيىَ وهو يكتبُ قصيدته التي تعيدُ ترتيبَ الأشياء اليوميّة الصغيرة، وهو يبتسمُ نائماً في رحلة العودة من لندن، من قبرص، من بيروت إلى مكانِه الأوّل… إلى دمشق.
****
خاص بأوكسجين