نوري الجراح يصحح خطأ التاريخ
العدد 281 | 29 كانون الأول 2023
مفيد نجم


الكتابة عن تجربة الشاعر نوري الجراح والبحث في مقوماتها الجمالية والتعبيرية والفكرية يجب أن تنطلق من خصوصية التجربة باعتبارها مشروعاً شعرياً يمتلك وعيه الجمالي وأدوات تحفيزه وتجدده، يجري التعبير عنه في قدرة هذه التجربة على تطوير لغتها وأدواتها الفنية والتعبيرية وارتياد آفاق جديدة من دون أن تتخلى عن مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية تجاه قضايا الواقع والإنسان.

إن قراءة تحولات هذه التجربة وتحولاتها على مدار أكثر من أربعين عاماً سوف تكشف لنا عن الترابط القوي والدائم بين انشغال الشاعر بتطوير لغته الشعرية ووعيه الشعري والجمالي، وتجديد رؤيته الحضارية والتاريخية، على صعيد جدل العلاقة بين الأنا والآخر بعيدا عن الاستلاب أو إكراهات الإيديولوجيا. لقد حمل الشاعر هويته السورية معه في حلِّه وترحاله مشرداً ومقيماً في جغرافيات مختلفة، وظل يقتفي أثرها الضائع أو المنسي في جنبات تلك الأرض البعيدة لكي يؤنس غربة الغريب ويكمل في خطاه خطى من سبقوه، وقد اختلطت في سيرة المكان مصائر الحب ومصارعها. إن هذا التعدد في مستويات التجربة عند الشاعر يعكس حركة الشعور بين أزمنة وثقافات مختلفة في سياق جدل العلاقة بين الذات والعالم، وبين الذات التاريخ في لحظة عناقهما وافتراقهما معاً. إنه جواب آفاق في اللغة والعالم والذات، يقوده الشعر تارة ويقود الشعر تارة أخرى، وهو يعيد تشكيل العالم ابتداءً من جرحه السوري المفتوح وحتى حزنه الكوني وهو يرى العالم من حوله يتداعى.

إن قراءة هذا الخطاب المركّب، الذي تترد في فضائه أصداء الأزمنة والحضارات رموزاً وأسماء وأقنعة وقد اكتست في لحظة الشاعر الراهنة بعداً درامياً ودلالياً وجمالياً خاصاً تحتاج إلى مواكبة نقدية مستمرة يمكن من خلالها إدراك هويته والربط بين أجزائه، بغية الكشف عن شبكة علاقاته الدلالية والتركيبية التي تجمع بينها، والتحول والتجديد الذي طرأ عليها. إن هذه السمات النصية الخاصة في انبثاقها وتناسلها المستمرين داخل سياق لغوي وبلاغي متجدد لا تحيل إلى أي مرجع يقع خارجها وقد استطاعت أن تتمثل جميع روافدها الشعرية والأسطورية والتاريخية وتجعلها نسيج ذاتها من خلال انزياحات استبدالية تنقل تلك الرموز والأساطير والأسماء والأقنعة من مستواها الدلالي القار إلى مستوى جديد تستدعيه خصوصية التجربة على مستوى الدلالة والشعور والرؤية.

يحمل الشاعر سؤال الشعر المنفلت من كل قيد وهو يبحث عن التنوع في مقاصد التجربة وبنيتها التعبيرية والأسلوبية تأكيدا على دينامية التجربة من جهة، ومن جهة أخرى على وحدتها الجمالية وقدرتها على تأدية وظيفتها الشعرية.

من المهم أن نشير هنا إلى أن هذه التجربة شهدت مع بداية الانفجار السوري الكبير تحولاتها الأبرز، خاصة على مستوى البنية الدرامية الملحمية للقصيدة واستثمار وتوظيف الرموز الدينية والأسطورية بكثافة دالة، إضافة إلى أشكال التعبير المختلفة، وقد شكل حضور دمشق في هذه التجربة كرمز ودلالة تتداخل فيها مستويات ذاتية وموضوعية، واقعية ومتخيلة تعبيرا عن دور المكان كبؤرة درامية مركزية في تكثيف بلاغة صورة المأساة السورية وتجسيد أبعادها الإنسانية والوجودية. لكن هذا المكان سيتخذ أشكال أخرى مع اتساع حدود المأساة السورية التي ستتخذ أشكالا جديدة مع تجربة اللجوء هربا من الموت إلى الموت على أمل النجاة، وسيكون ديوان “قارب إلى ليسبوس” بمثابة ملحمة تتداخل فيها المصائر والأصوات والأزمنة باعتبارها تلخيصاً مشهدياً واسعاً لأحوال وتحولات المأساة السورية في عمقها ودلالاتها الأكثر رعباً ووجعاً وضياعاً.

لم يتوقف شاعر “قارب إلى ليسبوس” و”يأس نوح” و”الأيام السبعة للوقت” و”نهر على صليب” و”لا حرب في طروادة” عن كشوفاته الشعرية في المكان والتاريخ واللغة، تقوده في ذلك مخيلة ثرية وشعور يقظ يهجس بالمغيب والمسكوت عنه من أجل تصحيح خطأ التاريخ، واستعادة أنا الذات في عمقها التاريخي والحضاري، وحكايتها الثاوية في زوايا الأرض البعيدة وصمت الحجارة، وهو ما تجلى ساطعاً في ديوانه الأخير “الأفعوان الحجري”. من قصة حب منسية في ظلال سطر على حجر بدأت مخيلة الشاعر بناء حكايتها، لا لترويها كي تستعيدها من النسيان وحسب، بل لتطرح أسئلتها الوجودية وكأن الشاعر الذي يقتفي أثرها في الزمن يختفي وراءها وهو يواصل غربة السوري ومحنته في تلك “الأرض الأبعد من كل الأرض” ومعه جموع السوريين الهاربين من الموت إلى كل أرض تصلها خطاهم.

في هذه الملحمة يستحضر الشاعر سيرة التاريخ عندما كان السيف يرسم بالدم حدود الأمم . في هذا المشهد الدامي الذي كانت تختلط فيه الملهاة بالمأساة بصورة درامية عجيبة تحاول بلاغة الشاعر المحمولة على أجنحة مخيلة خلاقة بناء عالمها الملحمي وقد اختلطت فيه قصص الموت مع الحب، والبطولة مع الضعف، والإخلاص مع الخيانة، لجنود اختلطت وجوههم ولغاتهم ومصائرهم بعد أن دفعت بها رياح الإمبراطوريات من أقصى الأرض إلى أقصاها.

في هذه الحكاية يعيد الشاعر للسوري التائه في تلك الأرض الغريبة حكايته، منتصراً للحب على سيف المحارب وللحكاية على النسيان.

يعيد الشاعر في هذا الديوان للسوري حكاياته بوصفه صانع حضارات ومشارك فاعل في صنعها، بل وفي صياغة قيمها المدنية والحقوقية، إضافة إلى تراجيديا المصائر الحزينة التي انتهى إليها بعض ملوكها وهم يحاولون صنع حضاراتهم في تحد كبير لعظمة تلك الامبراطوريات العاتية.

تتجلى بلاغة اللغة والمعنى والحس الدرامي في هذه القصائد من خلال قدرتها على استنطاق تلك الحكايات لتصبح حكاية كل زمان، فائضة بصورها وبلاغة معناها كما فاضت تلك الحضارات على الأمم والتاريخ بالعلم والمعرفة والعمران والفنون.

إن شعرنة التاريخ والمكان في هذه القصائد هي القيمة الجمالية الأهم في بنية تزخر بالاستعارات واللغة الموحية في إطار مشهد سردي درامي ينمو مع نمو القصيدة وغناها الداخلي بالحركة المثيرة للخيال.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وناقد من سورية. من إصداراته: "طائر بأكثر من جناح"، و"أجنحة في زنزانة"، و"القصيدة المعلقة في شعر نوري الجراح".