“ابنُ المتوسط، يكتبُ الشعر باللغة العربية” هكذا يصفُ تكوين هويته. يكتبُ الشعرَ ليقول إنه ما زال بإمكان الشعر، ما زال بإمكان اللغة العربية أن تكون الملاذ الآمن، لفكرٍ عربي بثقافاتٍ متعددة.
من الأساطير وإليها، يأخذنا شعر نوري الجراح، إلى المكان المؤجل، لنبقى مُعلقين بين الحقيقة والأسطورة، بين الكينونة والجمال.
يحارب المأزق بالخَلق، فمآزق الشعر العربي بالنسبة له عديدة ومتعددة الأوجه. والمغامرة الشعرية لديه، هي في ذاك الضباب الذي يحيط بها، لكونها المصدر الأكثر إثارة للمخيلة والشغف، لذلك يفضل عدم الخوض في متاهات تعريف الشعر والكلام عنه.
أمَا القصيدة، فكل قصيدةٍ هي وجهٌ جديدٌ للغة، وبالنسبة للجراح لا تستحق أن تحمل اسمها ما لم تكن كذلك. وهي عملٌ خارقٌ مع الكلمات، عملٌ تلقائيٌ ومنضبط معاً، وهنا تكمن الصعوبة.
خضنا هذا الحوار معه ليفيض لنا عن تجربته ومقولاته وعن الشعر، الحقل الواسع الذي لا ينتهِ ولا يكف عن البحث فيه.
يُحدثنا عن أثر عام 2011 على شعره بوصفه:
“المطولة الشعرية “الأيام السبعة للوقت”، فتحت الباب في لغتي للاشتباك مع العالَم والوقائع والصدمات الكبرى بتحدٍ لغويٍ جديد لم تعهده قصيدتي من قبل، وهذا سيقودني لاحقاً إلى مواجهاتٍ أخرى له مع لغتي في قصائدي.
وقد بدأتُ بسؤالٍ موجهٍ للذات أولاً وللعالم ثانياً: “دم من هذا الذي يجري في قصيدتك أيها الشاعر” ولتتبدل لغة القصيدة وإيقاعاتها، وتتبلور معها بنية تستفيدُ في المواجهة الشعرية لواقعٍ تراجيديٍ سوري، احتشدت فيه كل صور الوحشية والعدمية الخالقة للأذى البشري والعذاب الإنساني.
كان عنوان هذا الاشتباك، وما يزال، هو كيف يمكن أن تنطق اللغة، لغة الشعر، المأساة الإنسانية بكل عنفها ووحشيتها وغرابة وقائعها بطرائق وموضوعات مُبتَكرة لا تُكرر الماضي الشعري الشخصي للشاعر ولا للقاموس الشعري الدارج في الثقافة العربية.
تؤكد على أنَ هويتك متوسطية، حدثنا عن توصيفك هذا لنفسك وهذا المصطلح؟
هذا السؤال ينطوي على مسألتين، الأولى، هل يتناقض كوني سوريا مع كوني متوسطياً، وأيهما يسبق إلى تعريفي ثقافيا وحضاريا؟ أنني ابن المتوسط الذي يحتضن سوريا؟ أم أنني ابن سوريا التي تقع في المتوسط؟ بداهة، أنا شاعرٌ يكتب شعره بالعربية، وهي اللغة التي سادت في سوريا وما ترامى من الجغرافيا في محيطها الأوسع الممتد شرقاً من الضفة الشرقية للمتوسط حتى ضفاف دجلة والفرات، ومن بادية الشام حتى ميناء حضرموت. سبقتها لغاتٌ ازدهرت في الجغرافيا نفسها، كالآرامية، بأطوارها المتعاقبة وفروعها المتعددة التي جعلتها الحواضر تُحلق جغرافياً، حتى بلغت الهند.
النقطة الأخرى، تتعلق فيما إذا كانت اللغة وحدها كافية في تعريف الهوية الحضارية لأمة أو شعب.
في ظني أن ابن مصر، رغم الثقل اللغوي /الديني البارز في هويته “العربية”، لم يستطع أن يفتَكّ من جاذبية فكرة أنه فرعوني أيضاً، وأن هذا الاعتقاد الذي أول من روَّج له هم المثقفون الأقباط وبعض الليبراليين المصريين، تجاوزهم إلى عموم الناس، لتسمعَ في مستهل الحديث معهم، “نحن الفراعنة”، ما يعني أنَ الهوية تتجلى بوصفها أكثر من طبقة واحدة، طبقات ثقافية لغوية فكرية وأدبية وفنية، تعبّرُ عن نفسها في شبكة من التجليات المتراكبة والمتداخلة عبر الزمن والصانعة بالضرورة للشخصية الحضارية.
من هنا، أجدُ أنَ الانتماء المعبّر عن نفسه في هوية عربية للمصري والسوري والعراقي واليمني..إلخ، لايتناقضُ أبداً مع الآرامي والكنعاني والفينيفي في سوريا أو الفرعوني في مصر أو الآشوري في العراق أو الأمازيغي/البونيقي والنوميدي في الشمال الإفريقي، بشرط ألا تصادر هذا الانتماء آيديولوجيا ما، وإلاَ فإنَ الغنى الحضاري يتحول إلى استنساب عنصري يناهض الهوية الحضارية للذات، متعددة الطبقات.
شعرياً، نلحظ مزاجاً يشترك فيه شعراء المتوسط على اختلاف لغاتهم وثقافاتهم، إذ لم تُحبط اللغة الخاصة، التفاعلَ بين أصحاب الألسن المختلفة ما داموا أبناء قدر جغرافي يشتركون في تجاورهم بدرجاتٍ من التعايش والتواصل والتفاعل والتنافس وصولاً إلى الاحتراب فيما بينهم أو انطلاقاً منه. فهم لايتقاسمون فقط التراب والماء وكروم العنب وخمورها، وشي الفخار، وصناعة الخمور والزيوت والشموع والأجبان بل تبادلوا الأرباب والربات والحكايات الخرافية وسِير الأبطال، وصولاً إلى الركوع والسجود لإلهٍ مُشترك، لتتواصل لقاءاتهم، بالسيف حيناً وبالأزهار أحياناً.
مما يؤسف له، أنَ الترجمة المعاصرة بين لغات المتوسط لم تُتِح تبادلية واسعة للشعر الذي أبدعه شعراء البحيرة على اختلاف لغاتهم، وبالتالي لم تبرهن الفرضية التي أتحدث عنها بصدد المزاج المشترك.
في الخلاصة ما نشترك فيه كأبناء للبحيرة أننا من أم واحدة وآباء متعددين وهذا شيء لا نظير لثرائه وجماله وخصوصيته.
من جهةٍ أخرى كتبت “الخروج من شرق المتوسط” عمل شعري ملحمي استلهم الفنان أسعد فرزات معرضه التشكيلي من مناخاته وفضائه ولغته، كيف تتراءى لك هذه البحيرة وضفافها بين صورة الإقامة القلقة وصورة الخروج المأساوي الجماعي للسوريين في مراكب الموت في ظل حضارة حديثة هي خلاصة حضارات الإنسان، وها هي تحول البشر إلى هاربين من شرق إلى غرب؟
لطالما عُني الشعر بالتجليات العميقة للمفارقات الإنسانية والتناقضات ذات البعد الوجودي، إنما المؤسف أن بحيرة المتوسط التي سبقَ لها أن صنعت فصولاً متعاقبة من أزهى ما عرفه تاريخ العالم، عادت لتتحول في الألفية الثالثة إلى مقبرةٍ للأجساد وللأحلام.
فبحيرة المتوسط نفسها التي دارت على جزرها أساطيرٌ زخرت بها السينما العالمية، وغذت الذائقة الفنية المعاصرة بقصص عن صراع الشعوب والامبراطوريات، وسطوة الآلهة وضعف البشر وظهور الأبطال في أقدارهم المراوحة بين أنصاف آلهة وأنصاف بشر، تحول في عهد الديكتاتوريات والفاشيات العسكرية المعاصرة إلى مقبرةٍ كبرى للهاربين بين ناج تائه على السواحل وغريق تغيبه حشائش الأعماق.
إن صمت الشعراء، ولا أقصد العرب وحدهم، عما جرى ويجري في شرق المتوسط خلال عقد متصل لهو في نظري علامة على سقوطٌ أخلاقيٌ مريع، ودليلٌ مرعب على انهيار الحقيقة وانتصار الجريمة على الإنسان.
الكلام عن الشعر أصعب من كتابة الشعر، اشرح لنا هذه العبارة؟
في ثقافتنا العربية، عادة ما يكون تعريف الشعر هو الأسبق في الكلام عنه، شخصيا أفضل ألا يتورط في متاهة التعريف، لأنَ ذلك الضباب الذي يحيط بمجمل تلك المغامرة الشعرية، هو المصدر الأكثر إثارة لمخيلاتهم وخوض المغامرة بشغف. فالخَدر النابه التي تولده العلاقة بين اللغة والمخيلة في الشاعر، يمكن أن يوقظه أيُ تفسيرٍ أو تفكيكٍ أو بحث موضوعي بارد من قبل هذا الشاعر، ما يضعه لاحقاً في مواجهة إشكالية مع ذاته لتحرير نفسه من أسر ذلك العمل العبثي في تكبيل القصيدة بالنظرية. كلامي هنا لايقصد تصوير الشاعر بنبيٍ هائمٍ في ضباب عالمه الشعري، ولا إلغاءَ نظرته النقدية الفاعلة خلال ما يكتب، ولكن ولكي اختصر أقول:
” الشعر نهر، والكتابة عن الشعر محاولة عابثة لاصطياد نهر”.
إذا كان الناقد في الشاعر موجوداً خلال العملية الإبداعية، الجراح الناقد، ماهو همه الأكبر خلال هذه العملية الإبداعية؟
أولاً تحفيز المخيلة على ابتكار صيغٍ جديدةٍ في اللغة، وثانياً التمرن على الغوص أعمق في الشعور، للعثور على اللؤلؤة، مع تجنب الغرق.
وفي سؤاله فيما إذا كان يمكن أن نعتبر أنَ كل قصيدة هي وجه جديد للغة يرى الشاعر أن:
“ما مِن قصيدةٍ تستحق اسمها، إن لم تكن كذلك”. ويأخذ الجراح بما يقوله الفرنسيون: “أنَ الشعراء يخلقون اللغات”، فما قيمة القصيدة، إن كانت نسخةً لغويةً من سابقةٍ لها. لابد من شئٍ جديد في لغة القصيدة، صورها، تراكيبها، جرسها، قاموسها اللغوي، والسؤال هنا في مستطاع كل الشعراء تحقيق مثل هذا المطلب، الذي انتبهت له فطنة القدامى، ومنهم ابنُ سلام الجمحي، في تقدير وزن الموهبة والتمييز بين شاعرٍ وآخر.
في ثقافتنا العربية عرفنا شعراء صنعوا تاريخ الشعر الحديث بتجاربهم، لكنَ ما يؤسف له أنَ نتاجاتهم الأخيرة هددت منجزهم الشعري بالاسترخاء، حتى لا أقول بالترهل، فأسماء هؤلاء سبقت منجزهم الذي تخلف عنهم! فهناك فخُ الضجيج الاجتماعي، الذي يُغري بأقوالٍ وصياغاتٍ مكرورة، لكنها مثيرة للجدل لدى الجموع، فإن غاب الشاعر عن الدنيا سكن الضجيج وتلاشى الذِكر، فكأنه لم يكن. مثلُ هذا المصير، لايمكن أن يُصيب شاعراً له مع كل قصيدةٍ جديدةٍ مغامرة مفتوحة على عوالم يتخلق فيها المدهشُ والمبتكر.
-قلت إنَ القصيدة عمل ممتع وشاق في آن مع اللغة، هل تعاند المفردات الجراح، أم كيف هي علاقتك مع المفردات، متى تكون ممتعة ومتى تكون شاقة؟
أولا دعينا يا عزيزتي نعترف أن القصيدة عمل خارق مع الكلمات، عمل تلقائي ومنضبط معاً، وهنا الصعوبة. وبالتالي فإن مغامرة الكتابة هي شاقة في الوقت نفسه الذي تكون فيه ممتعة. ما من قصيدة للشاعر من دون مكابدة استثنائية مع اللغة، لأن العملية الشعرية مغامرة في أرض يفترض أنها لم تطأها قدم، ومحاولة لبلوغ مساحات جديدة في الشعور والوجدان عبر مخيلة كلما كانت طليقة وجامحة كلما كان على اللغة أن تجدد نفسها حتى يمكنها مجاراة هذه الطلاقة وذلك الجموح، وأسرهما في نظام مبتكر للكلمات نسميه القصيدة.
-لم أكن في دمشق، “وصلتُ إلى نهاري على حصانٍ قتيل”، هل ما زال النهار نهاراً لديك؟
نهار دمشق ضوؤه ما يزال يملأ وجهي الفتي. إنما من البعد الذي أنا فيه، في الأرض، من الجغرافيا التي أسكن، والمدينة التي منحتني باب بيت وفراشاً ونافذة على العالم، نهاري هو جرح المنفى.
لم أكن هناك، لم أكن في المدينة التي تسكن جسدي، وتقتسم نصيبها من حاضري.. لذلك عندما جاء الزلزال حملني إلى الخندق الأول في انتفاضة شعبي، لم أعد أريد لأوديسيوس أن يموت مرة أخرى في القارب، ولا للبحر الأهوج أن يبتعد بشراعه عن تلك الأرض التي شخصت إليها أبصار الغزاة من كل جهة والتمعت لعيونهم كما تلتمع اللؤلؤة. مصارع السوريين هي التراجيديا التي نافست التراجيديات الكبرى، أزاحت مصطلح الهولوكوست من سياقه القديم وجددت صورة الضحية في التاريخ.
-“إخراج الشعرية العربية من مأزق الركود والعادية والتكرار الممل”، أين تكمن المشكلة، هل في استخدام مكرور للمفردات والاستعارات، أم أنَ المشكلة الحقيقية هي في ضعف انغماس الشعراء في هموم الواقع وانحسار اهتماماتهم إلى هموم شخصية ذات طابع شديد الفردية هو ما يجعل لغة الشعر قاصرة وبالتالي ينتجون قصيدة متقوقعة على ذاتها؟
الشعر العربي يعيش محنةً متعددة الأوجه، وتعصف به مشكلات لغوية وفنية وفكرية.
فموجة التجديد العالية التي أطلقها شعراء مطلع الثمانينات، في لغة القصيدة وتراكيبها وخيارات الشعراء ومواقفهم من أنفسهم ومن عالمهم، وأعني تحديداً في المختبر الشامي اللبناني، وما شرعوا في إنجازه تحديداً فيما اصطلح على تسميته قصيدة النثر، أسست لما أطلق عليه النقاد أحياناً “الحداثة الثالثة”، واتكأت عليها الكثيرُ من الأصوات الشعرية الشابة، التي وجدت ضالتها الجمالية في شعر هؤلاء المتمردين على الحداثة بطبعتها العربية الواحدة، التي روجت لها مجلة “شعر”، لكنَ هذه الحداثة نفسها ومنذ وقتٍ غير قليل، تحولت إلى جدارٍ صلبٍ أخذت تتكسر عليه ليس فقط الأصوات الهشة الجديدة، بل بعضُ أفضل التجارب نفسها التي برزت في ريادة هذه الموجة الشعرية التي نتحدث عنها. فقد استهلكت الحياة الشعرية العربية تماماً الصيغ والتراكيب والموضوعات والأزياء التي ميزت الحركة، وبات ما اصطلح النقّاد والكتّاب أمثال سلمى الخضراء الجيوسي وخلدون الشمعة في وصفه بـ “الإرهاق الجمالي” العنوان الأبرز لحال الشعر، ويرى هؤلاء في هذا العنوان العتبة التي تؤذن بالتغيير الشعري، لكونه علامة من علاماتٍ أخرى على تغير الذائقة الجمالية، وهو حالُ الشعرية العربية اليوم.
*****
خاص بأوكسجين