شاعر التراجيديا العربية المعاصرة
العدد 281 | 29 كانون الأول 2023
مخلص الصغير


تمثل تجربة الشاعر السوري نوري الجراح أقصى درجات التحديث في تاريخ الشعرية العربية المعاصرة. حديثنا هنا عن الشعر العربي المعاصر لا الحديث ولا الحداثي، ولكن باصطلاحات الفنون المعاصرة، غير بعيد عن الوعي الذي صدرت عنه نازك الملائكة في التسمية، ونحن نحتفي السنةَ الجاريةَ بالذكرى المائوية لميلادها. وما أحوج هذه الأمة اليوم إلى من يجدد أمر شعرها!

شاعر معاصر

لعل هذا الشعر المعاصر، كما تضمه الأنطولوجيا التي بين أيدينا، هو ما آثر خلدون الشمعة أن يصطلح عليه اسم “الحداثة الثالثة”[1]. وكان القصد من وراء ذلك أن التجارب الكلاسيكية في فجر النهضة “حداثة أولى”، تليها “حداثة ثانية”، تجلت في تفعيلية نازك والسياب، ونزار، في تجارب غزيرة، بلغت مداها ومنتهاها مع درويش… بينما جاءت الحداثة الثالثة متحررة من كل المواضعات، مع شعراء انتصروا، منذ البداية، لقصيدة النثر، أو للشعر الحر، من أنسي الحاج إلى محمد الصباغ إلى نوري الجراح…

تسمية “الشعر الحر” هذه هي التي ينتصر لها الشاعر السوري نوري الجراح، أيضا، يقينا منه أنْ لا كتابةَ شعريةً إلا عندما تتحرر من كل تصور سابق على الكتابة ذاتها. وبمعنى آخر، لا يمكن أن نكتب شعرنا اليوم بلغة الماضي، لأنه لن يندرج ضمن ما نسميه “الشعر المعاصر”، حيث ما عاد الشعر ينتمي، اليومَ، إلى تقليد معين، أو إلى حركة أو مذهب أو تيار، على مستوى الإيقاع كما على مستوى الرؤى والأساليب. إنما الشعر المعاصر موقف شعري من العالم، وتجاوز للغة باللغة ذاتها.

لعل هذا هو الصراع الفني الذي يكابده الشاعر باستمرار، والتحدي الجمالي الذي يعيشه المتلقي مع الشعر المعاصر. لكن القصد عند نوري الجراح هو “القصيدة الحرة”، تحديدا… فبعدما احتفت نازك ومن جرى مجراها بتحرر القصيدة من نظام الشطرين ووحدة القافية، ها هي تتخلص، مع نوري، ومن سبقه وعاصره في هذا الباب، من كل قيد إيقاعي، أو من أغلال بلاغية سابقة، أو من أفق تخييلي مسقوف، الأمر الذي جعل هذه القصيدة الحرة، بما هي قصيدة نثر، تخوض منعطفا كتابيا فارقا، وهي تدشن نوعا من القطيعة الشعرية مع مراحل التحديث السابقة.

ولئن كان الشعر المعاصر موقفا من العالم واللغة، فإن الاختيارات الشعرية موقف جمالي أيضا[2]. من هنا، كان لهذه الاختيارات ما يسوغها ويبررها، وما ينتظمها ويعمق إشكاليتها الجمالية.

زمانا:

1- نشرت هذه القصائد المختارة خلال العشر سنوات الأخيرة (2013-2023)، وظهرت بعد خمس سنوات من صدور الجزء الثاني من الأعمال الشعرية للشاعر، سنة 2008. وكثير منها متضمن في الجزء الثالث من أعماله الشعرية. هنا، وجبت الإشارة إلى أن هذه الأنطولوجيا إنما تتكون من اختيارات وقعت من سبعة دواوين، الأول والثاني صدرا تباعا، سنتي 2013 و2014. والثالث والرابع في السنة نفسها (2018)، والخامس في السنة الموالية (2019)، والسادس في سنة 2023. إلى جانب نصوص من ديوان “ندم سقراط”، أمدني به الشاعر مخطوطا، ومشكورا، ولمّا يصدر هذا الديوان بعد.

2- كما كتبت هذه القصائد بعد اندلاع “الربيع العربي”، وما أصاب الجغرافيا العربية واعتراها من خراب ويباب في هذه الفترة، خاصة في بلد الشاعر “سوريا”، حيث لم يضع الموت أوزاره إلى يوم الناس هذا، وقد تحولت الأقدار الإنسانية إلى أقدار تراجيدية جماعية. لهذا، فقد اصطفينا قصيدة واحدة من الديوان الأول “يوم قابيل”، وهي قصيدة “الأيام السبعة للوقت”، كتبت سنتي 2011 و2012، واستغرقت نصف الديوان، تحديدا، بينما ضم القسم الثاني منه نصوصا كتبت على مدى اثنين وعشرين عاما. وبرغم هذه المسافة الزمنية الممتدة، ينبهنا الناقد صبحي حديدي في تقديم الديوان المذكور إلى أننا أمام “خلاصات شعرية تنبسط على عقدين ونيف من كتابة شعرية دائمة التبدل، رغم نهوضها على عناصر استقرار كثيرة، تخص الشكل، أسوة بالمحتوى. ليس مرجحا، في مثال تفصيلي أول، أن يظل الجهاز التخييلي والتصويري والتعبيري، اللغوي والشعوري، لشاعر مثل الجراح، على درجة من التجانس أو الاتصال أو التقارب في مجموعة تستجمع 22 سنة من التبدلات”[3].

ومع ذلك، سوف نجد في هذه النصوص نبوءة شاعر بلا معجزة، غير قصائده[4]، منذ القصيدة الأولى من القسم الثاني، وحملت عنوان “العاصفة”، وهي تتنبأ بمآلات الوضع العربي الراهن:

تَعَالَيْ يَا عَاصِفَةُ وَانْكَسِرِي، هُنَا، وَكُونِي نَافِذَتِي

أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَ ضَجَّةَ الْعَاصِفَة

وَأَنتَ يَا جَسَدِي، أَيُّهَا الْقَمِيصُ الْخَفِيفُ فِي بَرْقٍ..

كُنْ رَسُولِي فِي تُرَابْ

وَكُنْ

ضَوْءَ الْيَرَقَةِ وَرَفِيفَ الْجَنَاحْ

وَفِي ضَوْءٍ بَاهِرٍ رَأَيْتُ صَدْرِيَ مَفْتُوحاً، وَالْأَيْدِي تسْتَخْرج،

وَدَمِي رَأَيْتُهُ حَرِيرِياً يَضْحَكُ وَيسِيلُ عَلَى الْأَيْدِي”[5].

وكما تنذر هذه القصيدة بعاصفة لا تبقي ولا تذر، تتبعها القصيدة الموالية بالوعد ذاته:

جَاءَتْ رِيحٌ عَاصِفٌ وَالْمَوْجُ جَاءَ يَضْحَكْ

جَاءَتْ رِيحٌ عَاصِفٌ وَالْمَوْجُ بَلَغَ فَمَ الْكَهْف

أو حين يردد في قصيدة “أغنية في مركب”:

فِي الْمَدِينَةِ الدَّامِيَة، الْمَدِينَة الدَّامِيَة

الْقَمَرُ صَخْرِيٌّ

وَالضَّوْءُ يَسِيلُ مِنْ عُنُقِ الْفَتَى”[6].

وسواها من القصائد والصور التي تشبه مواويل أليمة تَرَدَّدُ على أسماعنا قبل انطلاق هذا “النشيد الدامي”. قصائد تُدين، بحس شعري رفيع، واقعا كان يغلي على فوهة بركان، بينما يأتي التحذير والرفض من الشاعر… تشهد على ذلك القصيدة الموالية أيضا، وهي بعنوان “المارش الدامي.. في شكر كلمة لا”، حين يردد:

لَا أَبَداً يَا رَبُّ، بُكْرَةً وَأَصِيلَا،

أَبَداً، وَعَلَى الدَّوَامِ، وَبِلَا تَرَدُّدٍ

لَا

خَفِيفَةً وَلَاهِيَةً

بِوَجْهٍ

وَبِلَا…

فِي الْحَوَاسِ وَفِي الْكَلِمَاتِ وَفِي بَرْقِ مَا تَحَطَّمْ،

فِي الدَّمِ النَّافِرِ وَالْعِظَامِ الَّتِي فُتِّتَتْ

فِي الْأَلَمْ،

فِي التَّرَقُّبِ الْفَاجِعِ

فِي الْمَدِيدْ:

لَا،

دَامِيَةً وَمُلْهِمَة”[7].

قبل أن تنتهي قصيدة نوري ونبوءته بهذا المقطع:

لَا

أَبَداً،

يَا

رَبُّ،

لَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرُ الْفِتْيَةِ الْمُضَرَّجِينَ بِدَمِ النَّهَارْ،

هَذَا [النَّشِيدُ الدَّامِي]

لِي وَلَكْ

وَلْلْفَتَى الْهَائِمِ بِجَمَالِ صَرْخَتِهْ عَلَى أَرْضِهْ لَا. دَمُهُ الدَّلِيلُ”[8].

لكن هذا كله لن يسوغ لنا إدراج هذه القصائد ضمن النصوص الشاهدة على مرحلة “الربيع العربي” وخريفه المبكر، باستثناء قصيدة “الأيام السبعة للوقت”، والتي كتبت مع انطلاقة هذا “الربيع”… ولعل هذا بالضبط ما وعاه نوري الجراح حين أعاد نشر هذه القصيدة في الديوان الموالي “يأس نوح”، وجعلها هذه المرة في القسم الثاني من الديوان، وقد أصبح عنوانها “الأيام السبعة”، وأهداها كما في الديوان السابق إلى ابنه “إلى رامي ورفاقه في التراجيديا السورية”.

ويمكن أن نقول مع مفيد نجم إن الانتفاضة السورية قد شكلت “نقطة تحول هامة وأساسية في تجربة الشاعر، من خلال عوامل التحفيز المعنوية والفكرية التي جعلته يدفع بقصيدته من حيث اللغة والتشكيل وأدوات التعبير إلى طور آخر من الكتابة التي تستثمر في جدل مفتوح مع رؤيته الحداثية”[9]. هنا حيث انصرف نوري الجراح إلى ربط التراجيديا السورية بنظائرها عبر التاريخ والأساطير والملاحم الكبرى، كما جرت وقائعها على ضفاف المتوسط. ومن ثم، يكتب نوري الجراح تاريخ الكائن الإنساني باعتباره بطلا تراجيديا يئن تحت قسوة الطغاة، ومقصلة التاريخ، وهو يردد هذا “النشيد الدامي”، مثل شاهد يريد أن يدون شهادته قبل أن يلفظ أنفاسه، مثل وصية تتناقلها الأجيال.

وفضاءً:

3- تجري أغلب مشاهد هذا الديوان في البحر الأبيض المتوسط، وقد تحول إلى قارب كبير يقل اللاجئين والهاربين من “الجحيم العربي” المستعر. ولعل هذه الرحلة التراجيدية للإنسان العربي، المفجوعة والمحفوفة بموج المنايا على قوارب الموت، منذ عشر سنوات، هي الرحلة ذاتها التي خاضها الشاعر بنفسه قبل ثلاثين سنة، هاربا من جحيم النظام السياسي نحو المنافي، عبر خريطة الطريق نفسها التي يعبرها اللاجئون السوريون من سواحل اليونان وتركيا في اتجاه أوروبا. يستحيل الشاعر هنا إلى نبي بلا معجزة، وبطل بلا مجد، يقتفي الناس آثاره مكرهين. ويمثل ديوان “قارب إلى لسبوس”[10] هذه الاستعارة الكبرى، بينما تتواصل الاستعارة نفسها، وقد تحولت إلى حقيقة، في الديوان الموالي “نهر على صليب”[11]، منذ القصيدة الأولى “الخروج من شرق المتوسط”.

4- من هنا، تقيم قصائد الديوان حوارا مع الكثير من الأساطير والملاحم والمدونات الشعرية المتوسطية الكبرى، والتي تعود إلى آلاف السنين، وأخرى إلى عهود قريبة. ما يضعنا أمام فضاء شعري موسع ينتمي إليه الشاعر هو الفضاء المتوسطي، وليس الفضاء السوري أو العربي فقط.

شاعر متوسطي:

نحن، إذن، أمام “شاعر متوسطي يكتب بالعربية”، كما يحكي نوري الجراح عن نفسه في حوار أجرته معه الروائية والمترجمة اليونانية بيرسا كوموتسي، ونشر في مجلة Fractal اليونانية، إذ يقول “لطالما اعتبرت نفسي شاعراً متوسطياً يكتب بالعربية. ليس فقط انطلاقا من وعي بهذا الانتماء يستند إلى الكتب والقراءات الأدبية والتاريخية وغيرها المتصلة بالمتوسط والأقوام الموجودة على ضفافه، والثقافات التي تفاعلت في ما بينها لمئات القرون، وتوجت بالعصرين الهيليني والهيلنيستي، ولكن أيضاً انطلاقا من معرفة انبنت على تجربة السفر والتواصل”[12].

من هنا تتأسس حداثة القصيدة ومعاصرتها عند نوري الجراح على الأصول الشعرية الكونية الكبرى، يتعلق الأمر بالتراجيديا الإغريقية -التي يتقصى الشاعر غالباً المصادر والصلات الشرقية لها- بوصفها أعظم الإبداعات الإنسانية التي لا نزال نستلهمها ونعيد كتابتها شعريا أو مسرحيا أو سينمائيا، منذ خمسة وعشرين قرنا، أو يزيد.

في كتابها حول “التراجيديا الإغريقية”، ترى الباحثة الفرنسية جاكلين روميلي Jacqueline Romilly أن عبقرية هذه التراجيديا الإغريقية إنما تعود إلى “سعة الدلالة، وإلى غنى الفكر الذي اشتهر به مؤلفو هذه التراجيديات، بوصفها تأملا في المصير الإنساني، عبر لغة عاطفية مباشرة يسهل الوصول إليها. الأمر الذي يفرض علينا في مثل هذه المراحل والمنعطفات الكبرى، كَمَثَلِ المرحلةِ التي نحياها اليوم، أن نعود إلى هذا الشكل الأولي للإبداع الإنساني”[13].

في أنطولوجيتها حول “شعراء المتوسط”، تصور الباحثة من أصل مصري إجلال إيريرا Eglal Errera الفضاء المتوسطي “في هيئة غرفة تتصادى فيها أربعة وعشرون لغة.. على أن هذه الأصداء التي تتردد في هذه الغرفة هي التي تمثل قمة الشعرية المتوسطية وخصوصيتها”[14]. وما تعدد الأصوات والمرجعيات، وتقابل الصور وتعدد المصادر الشعرية في تجربة نوري الجراح، إلا تعبير عن هذه الأصداء المتوسطية التي تلتقي في الملحمة الشعرية المعاصرة لهذا المبدع المتوسطي.

وعلى مستوى الكتابة الشعرية، أمكن القول إن قصائد هذه الأنطولوجيا إنما تمثل المرحلة التراجيدية والملحمية في شعر نوري الجراح، بعد المرحلة الغنائية، التي افتتحت القول برؤى “الصبي”، عنوان الديوان الأول للشاعر، الصادر سنة 1982، حيث ينطلق الديوان بهذا السؤال، مع قصيدة “أغنية قديمة”:

مَنْ رَآه؟

مَنْ رَأَى الْقَمَرْ

يَزْحَفُ نَحْوَ غَابَةِ الْقَصَبْ”[15].

تليها قصيدة “أغنية”، وتبدأ بمناداة ومناجاة النهر:

أَيُّهَا النَّهْرُ

هَأَنَذَا أَعُودُ

ضُمَّنِي إِلَيْكْ[16].

ثم قصيدة “أغنية ثانية”، وهي تتوجه بالنداء إلى الأم هذه المرة:

أُمَّاهْ

مَاذَا تَشْتَهِينْ؟

الْأَرْضُ تَهْتَزُّ تَحْتَ قَدَمِي

وَخَيْطُ النُّجُومِ الَّذِي رَسَمْتُ يَنْقَطِعْ[17].

وهي غنائية بتطلع رؤيوي، وبكتابة شعرية حداثية، لها خلفية طفولية من جهة، تنقل لنا تمثلات الشاعر بعين الصبي، في الديوان الأول، كما في ديوانه الثاني “مجاراة الصوت”، وبخلفية طبيعية ملؤها السماوات والأقمار والأشجار والفصول والأزهار والفراشات…

لعل هذه الغنائية تصل مداها مع ديوان “حدائق هاملت”، وهو عبارة عن “قصيدة ذاتية غنائية تتأسس معماريتها على وحدة الموضوع وتنوع المعالجة، توحي بذلك مقاطعها ومتوالياتها الشعرية التي ينتظمها خيط رفيع ورؤية شاملة”[18]. لكن غنائية نوري في هذه الفترة كانت قد بلغت مداها، ودنت من التراجيدي من حيث القالبُ الذي صيغت فيه، والعوالمُ الشكسبيريةُ التي تناصّتْ معها، انطلاقا من شخصية “هاملت” ومصرع أوفيليا في النهر، وفي الشعر. لكأننا وجها لوجه أمام لوحة جون إفريت ميليه في متحف Tate Britain. والحال أن جل قصائد هذا الديوان إنما تجري وقائعها حيث كُتبت في لندن، وليس في الفضاء المتوسطي. وبمعنى آخر، أمكن القول إن هذا الديوان مثَّل تذكرة عبور شعري من الغنائي/الدرامي إلى الدرامي/التراجيدي في تجربة الشاعر نوري الجراح، دون أن يختفي الغنائي هذه المرة، وإنما تجده يستمر في القصيدة التراجيدية وهي تبني أفقها الملحمي الأكبر. هنا، يدفعنا الشاعر إلى إعادة مساءلة حدود الشعر، على مستوى أجناس الكتابة، وهل قدر الشعر أن يظل كتابة خالصة لا تشوبها شائبة، ولا تتأثر بالأجناس الأدبية الأخرى، ضمن وهم “الصفائية”، ونموذج الكتابة المتعالية التي لا تطالها آثار تجربة كتابية أخرى. ولعل هذا ما صدر عنه محمد آيت ميهوب في تقديم دراسة الباحث أيمن باي في أطروحته حول “النزوع الدرامي في شعر نوري الجراح”، وهي الدراسة التي تتبعت مختلف العناصر الدرامية في قصيدة الجراح، بما هي قصيدة نثر مطولة، “على غرار الصراع والمشهد الدرامي والقناع وتعدد الأصوات والحوار الباطني”، فضلا عن عناصر مستحدثة، على حد توصيفه، من قبيل توظيف التقنيات السينمائية في القصيدة، وتداخل عنصر القناع مع عنصري الصراع والحوار الباطني، وهو “الأمر الذي يسبغ على القصيدة بعدا متفردا ينزع بها إلى الدرامي في وحدة عضوية متوهجة تراهن على الجمالي قبل الدلالي”[19]. ثم هي قصيدة منسرحة وممتدة، أشبه ما تكون بمعلقات معاصرة، حيث تتدفق الصور، وتتوالى الأحداث والمشاهد، بينما تلتقط كاميرا الشاعر كل ذلك لتعرض علينا روبورطاجا شعريا عن الحرب، أو عن النزوح، مثلا… يحدث ذلك في فضاء واحد هو المتوسط، بينما تتداخل الأزمنة السحيقة وهي تتفاعل مع الأزمنة الراهنة، مقدارَ ما تتفاعل القصيدة مع مرجعياتها الأسطورية والأدبية وغيرها.

هذا الانتقال من الغنائي إلى التراجيدي، يقابله، على مستوى التشكيل اللغوي، انتقال من الصوتي إلى البصري، حيث المرحلة الأولى صوتية، تشتغل على إيقاع داخلي (نثري)، إذ نجد الأغنية نفسها مرجعا من مرجعيات الشاعر، على غرار احتفائه بأغنية “مارجريتا مارجارو” للموسيقار اليوناني ليكيس ثيودوراكيس، في قصيدة “مارجريتا”، وهكذا، منذ الديوان الأول، صوب الديوان الثاني “مجاراة الصوت”، والثالث “نشيد صوت”…

أما المرحلة الثانية فهي مرحلة بصرية، أشبه ما تكون بسيناريو شعري لقصيدة مشهدية. فلئن كانت المرحلة الأولى غنائية، فالمرحلة الثانية ليست تراجيدية فقط، بل هي، أبعد من ذلك، ملحمة حول تراجيديا راهنة تعتمل في واقع الأمر، وفي معترك الحياة. وهو ما جعل قصيدة نوري وملحمته تدخل في حوارات وتقاطعات مع نصوص وأساطير إنسانية وتراجيديات إغريقية وغيرها، ومحكيات دينية وغير دينية، مع قصة نوح، وقصة قابيل وهابيل، مثلا، ما أفضى إلى تعدد مرجعيات القصيدة الجديدة عند هذا الشاعر، وإن كنا نلتمس إرهاصات هذه الكتابة الشعرية “المركبة” في الأعمال السابقة على هذه التجربة، وخاصة “طريق دمشق”، وديوان “الحديقة الفارسية”، الذي كتبت قصائده في العقد الأخير من القرن الماضي.

انتهى زمن القصيدة الصوتية، حينما انتهى زيف كل الأصوات والشعارات، لننتقل من القصيدة الشعار إلى القصيدة الشعر، وحين فقد المغني صوته:

البَحَّارَةُ وَالفَلاَّحُونَ وَرُعَاةُ التِّلاَلِ، الأَثِينِيُّونَ، القَبَارِصَةُ، الكِرِيتِيُّونَ، المَالْطِيُونَ، القَرْطَاجِيُّونَ الأَنْدَلُسِيُّونَ، الصِّقِلِّيُونَ، الجَنَوِيُّونَ والبُرْتُغَال، وَحَتَّى رُعَاةُ مَادِيرَا وَمَاعِزُهُمْ بِلَحْمِهِ المُرِّ وَقُرُونِهِ التَّائِهَةِ قُرْبَ غُيُومِ إيبِيرِيَا، الذِينَ ظَهَرُوا فِي الشَّوَاطَئِ وَمَعَهُمْ أَهْلُ بُومْبِي المُتَحَجِّرُونَ مِنَ المُتْعَةِ.. دَفَنُوا رُؤُوسَهُمُ فِي جِرَارٍ عِمْلاَقَةٍ وَمَلَأُوهَا دُمُوعًا عَلَى شَعْبِيَ الصَّرِيعِ..

فَكَيْفَ لِي فِي بَحْرِ هَذَا الحُطَامِ أَنْ أُعِيدَ أُغْنِيَتِي إِلَى صَوْتِ المُغَنِّي

وَإلىَ البَحْرِ مَراكِبَهُ المُسَافِرَةَ

وَالبَحْرُ هَاوِيَةٌ وَمَقْبَرَةٌ وَصَحْرَاءُ[20].

وحين تحول الصمت إلى ركام أيضا، كما في هذه الصورة الخراب:

لَكِنَّ الْهَوَاءَ فِي دِمَشْقَ حُطَامُ أَجْسَادٍ وَحُطَامُ أَصْوَاتٍ[21].

وبعد كل هذا الحطام الذي خلفه دمار الموت لم يبق هنالك غير الصمت يصف ما جرى شعريا:

وَالْآنَ، بَعْدَ الْآسِ فِي الشُّرُفَات

يَتَوَرَّدُ الصَّمْتُ

وَيَنْزِفُ الْكِتَّانْ[22].

وهنا ما عاد للشاعر من عزاء سوى كتابة الصورة بعدما ضج المكان صمتا، كما في نهاية ديوان “نهر على صليب”:

ذَهَبْتُ إِلَى الْمَوْتِ لِكَيْ أَسْتَعِيدَ مِنَ الْمَوْتِ صُورَتِي

وَكِتَابِي[23].

الانتقال من الغنائي إلى التراجيدي، ومن الصوتي إلى البصري، هو الانتقال من الأنشودات التي ختم بها الشاعر الجزء الثاني من أعماله الشعرية، إلى هذا “النشيد الدامي” الذي ينزف في الجزء الثالث من أعماله، وفي ديوان “الأفعوان الحجري”، وصولا إلى ديوان “ندم سقراط”، الذي لم ينشر بعد.

في هذه المرحلة، سينبعث الشاعرُ تجربةً أخرى، وقصيدةً جديدة، كما يبدأ ديوان “يأس نوح”:

مِنْ قَبْرِيَ الَّذِي كَسَرَتْهُ زَهْرَةٌ فِي النَّشِيدِ

نَادَيْتُ:

أُمَّيَ الْأَرْضُ

الرَّبِيعُ هَزَّ رُقَادِي

النَّحْلَةُ لَسَعَتْ شَفَتِي فِي الْمَنَامْ

وَطَافَتْ عَلَى رُخَامِ يَدِي فَرَاشَةُ السَّنَوَاتْ

فَلْأَنْهَضْ، إِذَنْ،

كَمَا تَنْهَضُ فَلْقَةُ الصَّخْرِ مِنْ صَيْحَةِ الْأُخْدُودْ[24].

ويقدم لنا الجراح بطاقة هوية جديدة مصاحبة لشعره الجديد، وهو يردد:

أَنَا الدِّمَشْقِيُّ، وَالسَّاحِلُ السُّورِيُّ جُرْحٌ فِي نَشِيدِي[25].

ثم يستحضر الشاعر ثلاثة عقود قضاها في المنفى الاضطراري والشعري، لعلها العقود الثلاثة نفسها التي تغطي التجربة الغنائية أعلاه..

يَمِيلُ الْمُغَنِّي عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَجِدُ الْأُغْنِيَاتْ

ثَلاَثُونَ عَاماً، وَأُغْنِيَتِي طَائِرٌ هَائِمٌ فِي مُحِيطِ الْمَنَامْ

أَهَذَا أَنَا، الْيَوْمَ، أَمْ حَفْنَةٌ مِنْ غَمَامْ[26].

وإلى جانب تعدد المرجعيات هنالك تعدد الأصوات في القصيدة الجديدة عندي نوري الجراح، ما جعل الشاعر يتجاوز مرحلة “أحادية الصوت” التي طبعت قصيدته، ولا تزال تهيمن على القصيدة العربية، إلى حد بعيد، وتتركها أسيرة الغنائية والذاتية. وكما تشكل التراجيديا مرجعا أساسا، ضمن تعدد المرجعيات النصية، تمثل هذه التراجيديا مرجعا فنيا، على مستوى تعدد الأصوات، من الشاعر (الراوي) إلى أصوات الشخصيات، إلى الخلفية التي تؤثثها “جوقة” أخرى من المكونات التي تشكل القصيدة. فالمتكلم في قصيدة نوري لم يعد هو الشاعر الذي يصدر عن يقين “شعري”، ولا هو الصانع الأمهر الذي يثق في لغته الشعرية، وفي بلاغة جاهزة، أو إيقاع سابق على القصيدة، ولكنه شاعر قلق ومتشظ يتحدث بأصوات كثيرة، أو تَتَحَدَّثُه أصوات كثيرة على الأصح. يمكن أن نستعير هنا صورة العمل الذي تؤديه الفرقة المسرحية مقابل أداء الممثل في “المونودراما”، أو المسرح الفردي. أو حين نقارن، مثلا، ما بين العمل الموسيقي الأوركسترالي والعزف المنفرد.

ففي قصيدة “يأس نوح”، يكون المتكلم هو نوح، بدل الشاعر، وهو صاحب النشيد، والصوت الذي يَجْهَرُ النداء:

أَنَا نُوحُ، يَا خَالِقِي،

أُنَادِيكَ مِنْ قَاسْيُون، سَفِينَتِي انْكَسَرَتْ،

وَأَلْوَاحِي حُطامٌ في حُطامٍ في حُطامْ،

وَالْوُجُودُ،

حَفْنَةٌ مِنْ رَمَادْ[27].

 

ونجد هذا الوعي المسرحي والسينمائي لدى الشاعر، وهو يقوم بمهمة “إدارة الممثل”، كما هو متعارف عليها في المسرح والسينما، في ديوان “يوم قابيل”، حين يصور لنا نوري الجراح هذا المشهد على لسان أحد “الممثلين” المفترضين، يستلهم فيها مقومات الشعر المسرحي:

قال الممثِّلُ: كنتُ قبل اليوم بلا صوت

ومَسرحي معلق في ستارة؛

ملابسي سرقها الموتى

وصوتي

غَابَ

فِي

الْبِئْرْ.

قالتْ طفلةٌ: كنتُ بلا عينين

والآنَ

صِرتُ فراشةً[28].

وفي قصيدة “مرثية البنفسج” تتعاقب أصوات أخرى وهي تَتَدَاوَلُ القصيدةَ بدل الشاعر:

قَالَتِ الشِّآمِيَاتُ للنَّهْرِ:

خُذْ أَسَاوِرَنَا،

يَا

نَهْرُ،

وَآتْرُكْ لَنَا قَمَرَ الْبَنَفْسَجِ فِي وِشَاحِ الصَّيفْ،

وَبُكَاءَ الْعَنْدَلِيبِ فِي السَّاقِيَهْ.

 

مَنْ أَنْتَ يَا بَرَدَى، أَنَبْعٌ يَفْلِقُ الصَّخْرَ،

لِيَطُوفَ بِالْكَأْسِ وَرَاءَ زَهْرَةٍ

هَارِبَةٍ

أَمِ ابْنٌ لِنَجارٍ دِمَشْقِيٍّ

وَيَداكَ الصَّلِيبْ؟

 

قَالَتِ الْمَريَمَاتُ لِلنَّهرِ: هَا قَدْ مَضَى الْوَقْتُ،

وَلَا وَقْتَ،

فَخُذْ أَسْمَاءَنَا، يَا نَهْرُ،

وآتْرُكْ أَسَاوِرَنَا لِتَلْمَعَ

فِي نشيج الماء.

 

وقَالَتِ الشآمياتُ للنَّهْر:

نَحْنُ

آلِهَةُ

البنفسجِ

أُمَّهَاتُ الْحُزنِ،

رَبَّاتُ بُيُوتٍ طَافَ فِيهَا الْجُنْدُ ومَاتَ فِيهَا الْهَوَاءْ

فَمَنْ أَنْتَ فِي حُزْنِنِا، يَا بَنَفْسَجُ؟

مَنْ أنتَ يَا بَرَدَى[29]؟

تعدد الأصوات هذا هو ما نلمسه جليا في ديوان “قارب إلى لسبوس”، منذ القصيدة الأولى “لوح إغريقي.. نداء سافو”، حيث تكون القصيدة خطابا عاما يتكون من خطابات فرعية، وهذا الخطاب العام هو نداء “سافو”، الشاعرة الإغريقية التي نشأت في لسبوس خلال القرن السابع قبل الميلاد. وهنا، يلتقي تعدد المرجعيات مع تعدد الأصوات، من خلال هذا النداء، بما هو خطاب عام، بينما نجد مجموعة من الأصوات تتعاقب، في شكل خطابات مخصوصة، وهي تأخذ الكلمة من الشاعر في القصيدة[30]. وهذه الأصوات، في النهاية، إنما تقدم مشاهدَ وصورا، ما يذكرنا بمقولة شهيرة للفنان الإسباني جاومي بلينسا Jaume Plensa يرى فيها أنه بوصفه كائنا متوسطيا عليه أن يحس بكل شيء ويشعر به، ولذلك فهو لا يكتفي بسماع الأنغام والموسيقى والأصوات، ولكنه يراها، يلمسها ويشاهدها.

هكذا، نقرأ في ديوان “قارب إلى لسبوس” ونشاهد ما يأتي:

صَوتْ

أَهْرُبُ مِنَ الْمَوْتِ بِعَرَبةِ الْمَوْتْ/ السَّمَاءُ تَرْمِينِي بِأَجْنِحَةٍ مُمَزَّقَةٍ، لأتَخَبَّطَ فِي دَمِي

وَفِي

دَمِهَا

أَتَخَبَّطَ

وأَفُوزُ بالْغِيَابْ.

 

والآنَ، فِي دِمِشْقَ

لِي صُورَتَانِ؛

قَبْضَةٌ تُهَشِّمُ البَابَ،

دَامِيَةً،

وَجَبْهَةٌ مَفْجُوجَةٌ تَطْرُقُ.

 

صَوتْ

أَبَابُ البيتِ هَذَا،

أَمْ أَنَا والظِّلُّ بَابٌ فِي خَيَالِ الْبَيتِ؟

والشَّمْسُ الَّتِي كَانَتْ هُنَا

يَومَاً،

عَلَى زَغَبِ الصِّبَا،

أَمْسٌ

وَهَذَا البَابُ

ظِلٌّ وَاقِفٌ

فِي شَمْسِ أُغْنِيَتِي.

 

صوت

أَعُودُ لَأفْتَحَ الْبَابَ الَّذِي أَطْبَقتُ

فِي الْأَعْوُامِ،

أَمْشِي فِي خَلَاءٍ رَاعِبٍ

والظِّلُ الَّذِي أَهْدَاهُ بَابُ الْبَيتِ لِلشَّمْسِ

يُؤَرْجِحُ نَفْسَهُ

فِي

الظِّلِّ

مُنْكَسِراً

وَيَتْرُكُ خُطْوتِي مَبْلُولَةً فِي صَمْتِ أُغْنِيَتِي[31].

 

صَوت

تُرِيدِينَنِي فِي لِبَاسِ الشَّهِيدِ

وفِي مَاءِ صَمْتِكِ

مُسْتَلْقِيَا؛

مَشِيئَتُكِ

أَنَّنِي

زَهْرَةٌ

فِي عُرْوَةِ الْقَمِيصْ.

 

صَوتْ

لَو كَانَ لِي قَدَرٌ سِوَى قَدَرِي

لَمَا أَحْبَبْتُ لِي اسْمَاً يُسَمِّيهِ

سَواكِ،

يَا شآمُ..

يَا أُخْتِيَ الصَّغِيرةَ، أَنْتِ

يَا

ضَوْءَ

الْفَرَاشَةِ

فِي شِتَاءِ الَأَرْضِ،

ويَا دَمَ التَّارِيخْ.

حيث تتولد أصوات جديدة تتعاقب على خشبة القصيدة حتى نهايتها. وهي القصيدة المركزية في الديوان، وتمتد على مدى 85 صفحة، لا تضاهيها طولا سوى قصيدته الأخيرة، “الأفعوان الحجري”[32]، التي استغرقت كل ديوانه بالاسم نفسه، وقد جاءت في عدد الصفحات نفسه، ولكن بهوامشها وملحقاتها.

قصيدة “الأفعوان الحجري” ترد هي الأخرى بصوت بَرْعَتَا التدمري وعلى لسانه، وهو يرثي محبوبته ريجينا السلتية، نسبة إلى قبيلة كاتافالوني السلتية. وهي الشابة البريطانية التي بيعت لأسرة رومانية، خلال القرن الثاني الميلادي، وافتداها تاجر، أو بحار سوري اسمه برعتا، أو “باراتيس”، ونصبها ملكة على قلبه، لكنها توفيت وهي شابة، فرثاها كما جاء في لوح كبير (شاهد جنائزي) تم العثور عليه، منذ قرن ونصف، في منطقة Arbeia المعروفة باسم “قلعة الجنود العرب”، وهي قلعة رومانية تقع في مدينة ساوث شيلدز البريطانية. ويذهب باحثون أمثال واورويك بول إلى أن أصل Arbeia تعني منطقة عربية، بناء على أن العرب استوطنوا هذه القلعة إبان العصر التدمري[33].

لَكَمْ ظَلَّ صوتُ الشاعر مهيمنا، وصاحب الغلبة، إن لم ينفرد بالكلام في كل القصيدة، وبضمير المتكلم الواثق في نفسه، المزهو ببلاغته. بينما في تجارب عربية وعالمية نادرة، ومنها تجربة نوري الجراح، يخفت صوت الشاعر ويمعن في الصمت، بما هو لحظة سانحة للتأمل والرؤيا. يتراجع صوت الشاعر إلى الوراء، لكي يتأمل المشهد كاملا، ويراقب كل التفاصيل، ولكي ينصت لأصوات الآخرين وآلامهم وأنينهم.

هكذا، وفي “الأفعوان الحجري”، سوف يتراجع حتى اسم الشاعر نوري الجراح، على ظهر الغلاف، إلى السطر الثاني، بينما طالعنا السطر الأول هكذا:

 

سيرنادا شرقية

نوري الجراح

الأفعوان الحجري

مرثية برعتا التدمري لمحبوبته ريجينا

ومعلوم أن السيرنادا، أو السيرناتا Serenade أو Serenat، وإن كانت توددا من العاشق لمعشوقته، فهي، بوصفها عملا موسيقيا، لا تؤدى إلا بشكل جماعي، وبعزف جماعي وأوبرالي، على نحو ما فعل موزارت في دون جيوفاني Don Giovani، وكذلك فعل بيتهوفن وبرامز وتشايكوفسكي وسترانفنسكي.

ومع هذا الديوان الأخير تكون القصيدة البصرية قد بلغت مداها عند نوري الجراح، حيث ننتقل من المقاطع/ المشاهد التي يوقعها الشاعر بعنوان جانبي (صوت)، إلى مقاطع، أو مشاهد، موقعة بعنوان جانبي (لوحة)، ما يكشف عن وعي بصري تشكيلي، أو وعي الكتابة بذاتها بوصفها تشخيصا وتمثيلا مرئيا للصورة الشعرية التي ما سميت كذلك إلا لأنها كذلك. وقد اخترنا في هذه الأنطولوجيا مقاطع أولى من هذه القصيدة التي يجمل بالقارئ أن يقرأها كاملة وبهوامشها، في ديوان استثنائي هو الآخر “الأفعوان الحجري”، الذي يذكرنا بالمتون والمصنفات المتوسطية الكبرى، بحواشيها وشروحها وهوامشها، بما هي طبقات من النصوص المتراكبة والمتداخلة والمتعددة. بينما ترتبط مشهدية “اللوحة” في هذه القصيدة بالألواح وشواهد القبور القديمة التي استحضرها نوري في دواوين سابقة، بينما استقر شعره هنا على هذا اللوح التدمري الذي يضم مرثية شعرية من عاشق لمحبوبته. فاللوح هنا ليس نصا فقط، ليس صوتا وحسب، ولكنه صورة ومشهد بصري وشاهدة ترقى إلى مستوى العمل الفني. ولعل هذا ما حدا بأحد الدارسين لقصيدة “الأفعوان الحجري” إلى إدراجها تحت مسمى “دينامية الصورة الشعرية ومشهدية التنوير”، حيث تتحول القصيدة عند نوري الجراح إلى قصيدة رؤيا “تعرض فيها الصورة الشعرية مفرداتها وتفاصيلها وأجزاءها داخل حدود العين الرائية، ضمن امتداد وقياس متكامل”[34]. وكثيرا ما ترد بعض مشاهد الشعر في هذه الأنطولوجيا في هيئة صور فوتوغرافية، تجعلنا نستحضر شغف نوري الجراح بالتصوير الفوتوغرافي تأملا وممارسة.

وبذلك التنقيب الأركيولوجي في “الأفعوان الحجري”، وهذا الاستقصاء، مع تحري المرجعيات، واستحضار مختلف المدونات المتوسطية الكبرى، وعقد المقارنات، واستعارة المحكيات، وخوض الكتابة الشعرية المركبة بدل الصور والأشكال الشعرية البسيطة، وطرح التساؤلات بدل الاطمئنان للمسلمات، ومساءلة اليقين التاريخي والشعري نفسه، مع كل هذا الغوص في قرار المتوسط وأعماقه، وارتياد مختلف آفاقه وأمدائه، تغدو القصيدة عند نوري الجراح بمثابة بحث، والكتابة بحث وسؤال، كما يرى موريس بلانشو، إذ “السؤال بحث، والبحث بحث عن الجذور. إنه الاستقصاء والغوص حتى الأعماق، والحفر في الأسس وتقصي الأصول”[35]. وهنا تغدو الكتابة الشعرية سؤالا أبديا، ومساءلة لكل شيء، بما في ذلك مساءلة اللغة باللغة ذاتها.

————————————————————————————————–

[1] – نوري الجراح، رسائل أوديسيوس، اختارها وقدم لها خلدون الشمعة، منشورات خطوط وظلال، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 2021، ص 12 وما بعدها.

[2] – يُنظر كتاب “الاختيارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب”، لإدريس بلمليح، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى، 1995. ما يستوقفنا في أطروحة بلمليح استناده إلى منهج جمالية التلقي الألمانية، خاصة مع فولغانغ إيزر. والحال أن ما تمت ترجمته تجاوزا تحت مسمى “نظرية التلقي” إنما المقصود منه “جمالية التلقي”، كما يفصح عن ذلك كتاب ” من أجل جمالية للتلقي  Pour une esthétique de la réception، عنوان الكتاب المرجع لهذا التوجه القرائي والمنهجي لمؤلفه هانز روبرت ياوس Hans Robert Jauss، الصادر في منتصف سبعينيات القرن الماضي. وجب أن نرد هنا مقولة التلقي، كما ابتدعها النقاد الألمان، إلى أصولها الجمالية في ألمانيا، دائما، حيث تأسس علم الجمال، وكيف يرتبط فعل القراءة (إيزر) والتأويل (إنغاردن غادمير، ياوس…) بأفعال الذوق والخبرة الجمالية عند كانط وهيجل وشُرّاحهما المعاصرين.

[3] – نوري الجراح، يوم قابيل، نشر ضمن سلسلة “كتاب دبي الثقافية”، الإصدار 87، دار الصدى، الإمارات العربية المتحدة، دبي، الطبعة الأولى، يوليو، 2013، ص 12-13.

[4] – سبق لنوري الجراح أن تحدث عن هذا الانتقال من الرؤيوي إلى النبوئي في تقديم الجزء الأول من أعماله الشعرية.

[5] – يوم قابيل، م. س، 76-77.

[6] – نفسه، ص 84.

[7] – نفسه، ص 85.

[8] – نفسه، ص 86.

[9] – مفيد نجم، القصيدة المعلقة في شعر نوري الجراح، منشورات المتوسط، ميلانو، إيطاليا، الطبعة الأولى 2018، ص 121.

[10] – نوري الجراح، قارب إلى لسبوس.. مرثية بنات نعش وقصائد أخرى، منشورات المتوسط، ميلانو، إيطاليا، الطبعة الأولى، 2016.

[11] – نوري الجراح، نهر على صليب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2018.

[12] – https://www.fractalart.gr/nouri-al-jarrah/

[13] – Jacqueline Romilly, La tragedie grecque, éd. PUF, Paris, 2018, p 7.

[14] – Eglal Errera, Les poètes de la Méditerranée, éd Gallimard , 2010, p 9.

[15] – نوري الجراح، الأعمال الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 2008، الجزء الأول، ص 27.

[16] – نفسه،

[17] – نفسه، ص 81.

[18] – عبد القادر الجموسي، من تقديم ديوان”حدائق هاملت”، لنوري الجراح، دار الحرف، القنيطرة، المغرب، الطبعة الأولى، 2009، ص 5.  وهي مقتطف من كتاب الجموسي “ما الذي يحدث في حدائق هاملت” المنشور

[19] – أيمن باي، النزوع الدرامي في شعر نوري الجراح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 2018، ص 42.

[20] – نهر على صليب، م س، ص 22.

[21] – نفسه، ص 52.

[22] – ص82.

[23] – ص150.

[24] – يأس نوح، م س، ص 9.

[25] – نفسه، ص 22.

[26] – نفسه ص 31.

[27] – يأس نوح، م س، ص 9-10.

[28] – يوم قابيل، م س، ص 38-39.

[29] – نهر على صليب، ص 69-73.

[30] – سبق للشاعر أن استعار هذه التقنية الشعر- سردية في قصيدة “ابتسامة النائم”، في ديوان “طريق دمشق”، بتخييل شعري أقل عناية بالمشهدية، كما هو الحال في “قارب إلى لسبوس”… الأعمال الكاملة المجلد الثاني، ص 759 وما بعدها.

[31] – (صمت أغنيتي) والتشديد من عندي، حيث تتحول قصيدة نوري إلى أغنية صامتة، أغنية مشهدية بالمعنى الذي تقدم في هذا السياق.

[32] – نوري الجراح، الأفعوان الحجري، منشورات المتوسط، ميلانو، إيطاليا، الطبعة الأولى، 2023.

[33] – warwick ball, Rome in the East: The Transformation of an Empire, P. Routledge, London, 2 illustrated, 2016.

[34] – محمد صابر عبيد، البقع الشعرية الأرجوانية.. مقاربة جمالية في ديوان “لا حرب في طروادة”، منشورات خطوط وظلال، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2021، ص 131..

[35] – موريس بلانشو، أسئلة الكتابة، ترجمة نعمية بنعبد العالي وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 2004، ص 9.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من المغرب.