أتساءل دائمًا.. هل للخذلان مذاق.. ملمس.. وقع خطوات.. هل هو مثلنا يشغل حيزًا ما من الفراغ المادي حولنا؟.. كيف يتسلل إلى حيواتنا، يحتلها ويستوطن أرضها، يخيم ويعشش ويتكاثر في إحدى جنباتها، ثم ما نلبث أن نقف مصفدة أقدامنا، مكبلة معاصمنا، بينما تتمدد أذرعه، تحاصرنا من كل اتجاه، ما تنفلت أصابعنا من جهة، حتى تقع الأخرى في شَراك لا فكاك منه، إلا بالموت، ذاك الذي نناديه ولا يجيب!
المرة الأولى ربما حين كنت في الرابعة من عمري.. ربما قبل ذلك بقليل.. نعم.. تجرعته، قطرة تلو الأخرى كانت تسقط في حلقي، أمررها إلى البلعوم ثم إلى المريء، ثم ما تلبث أن تصعد مجددا قاصدة هذا الراقد هناك، في الركن الأيسر بين أضلع القفص الصدري، بقعة صغيرة ربما زرقاء تميل إلى الإخضرار قليلا تمتد وتتسع كلما سقطت القطرة الجديدة.
«همم…» لا أتذكر جيدا، ذاكرتي لا تسعفني الآن، كنت طفلة برأس صغيرة وذاكرة فضفاضة، تسجل كل إيماءة وسكنة، المرات التي احتدم فيها الصراع بين أبي وأمى، كم مرة تطور إلى الضرب.. الصفعات التي استقبلتها أمي بنظرة باردة ودمعة لطالما ظلت عالقة في منتصف العين اليمنى. أظافري التي تقفز ناحية فمي مسرعة.. المساحة الزرقاء التي تمتد بطول اليد اليسرى، وتلك الأخرى المفترشة وسط الأصابع الخمس. رائحة حضنها في نهاية اليوم.. الدمعة الساخنة التي كانت تستقر في منتصف رأسي، تتسلل بين خصلات شعري البنية الناعمة.. لتستقر ممتدة على القشرة الخارجية للجمجمة.. أقول لكم كنت طفلة غير عادية!
«من ذا الذي أصدر حكمًا بألا نرى سعادة في حياتنا القصيرة تلك».. أوقفتها بالقوة بكلا ذراعي، حينما كانت تخطو ناحية باب المترو تريد الصعود بسرعة، عشر دقائق مرت على موعد البصمة اليومية في شركتها التي لا أعلم ما اسمها أو حتى أين موقعها، ألقيت عليها هذه العبارة، سبق وأن قرأتها في رواية أحدهم لا أذكر اسمه الآن، قلت لكم ذاكرتي فضفاضة أحيانا تتسع لاستقبال ملايين الحكايات، وأحيان أخرى تتجوف وتصدأ وتتساقط قشورها في قاع الجمجمة!.
«إنتي أكيد مجنونة أو فاضية معندكيش شغل ومدير يحرق دمك!».
لكمتني في صدري وقفزت، تاهت بين الحشود المتراصة والأكتاف المتلاصقة في عربة السيدات الثانية بالقطار، ما زلت أذكر كتفيها وهما يتسللان بين ثديي امرأتين سمينتين، يبدو أنها أفلتت من شراك أسئلتي الغبية لتقع في شراك أثداء ضخمة كهذه، ألقت علي بصقة التصقت في زجاج باب المترو.. راقبت لعابها يسيل بخط طولي نحو الأسفل.
دوامات من البشر تتدافع ناحية القطار الذي تأخر عن موعده خمس دقائق، ما زلت أبحث عنه بينهم، أربعة أعوام مرت على رحيله المباغت، لا لم يمت، تعلمون أنه ليس كل الرحيل موت، هو هناك في ركن قصي بالأرض يتنفس.. يعمل ربما ثماني ساعات باليوم.. يبادل إحداهن الهدايا.. عبارات الإعجاب والابتسامة الطفولية التى أحفظها حتى فى غيابه.. منذ رحيله توقفت الأرض من تحت قدميّ عن دورانها، أصبحت أراهم حولي بنصف وجه، نصف جسد، يد واحدة، وقدم واحدة، العشرات يصطفون على الرصيف بمحاذاة الخط الأصفر ، أنصاف أجساد هو ليس بينهم، لو كان بينهم لرأيته كاملًا، كنت قد أكملته وأكتملت به منذ اليوم الأول للقائنا في المكتب الذي كنا نعمل فيه سويا.
«هممم..» لا زلت أعمل بهذا المكتب، مكتب لوكالة أنباء «النبأ غير السار»، شقة حقيرة.. متسخة.. تطل نوافذها على سوق شعبي فى أحد الأحياء العتيقة بالقاهرة. توقفت عن الذهاب مدة أسبوع كامل فور رحيله، كنت أراهم أنصاف أجساد ولا تصل أصواتهم إلى سمعي، أقسمت ألا تطأ قدماي أرضية المكتب المتسخة مرة أخرى، كل يوم وأنا على رصيف محطة المترو، تدق الساعة تمام التاسعة صباحا أعيد ترتيل القسم على نفسي مرة.. اثنتين.. ثلاثة، ألقي على الركاب عبارات وأسئلة لا أجد لديهم إجابة عليها، أقسم ألا أذهب اليوم، فأجدني ضمن الفوج الكبير المتدافع ناحية جوف القطار فور فتحه.
نصف سيدة بشعر بني قصير تقف بجانبي، مرت رائحة عرقها النفاذة إلى أنفي وعبأت صدري، كانت تتحدث إلى إحداهن في الهاتف تخبرها برغبتها في ترك الوظيفة اللعينة والعودة لزوجها مرة أخرى، كانت تصرخ ولا أحد يجيب على الناحية الأخرى.
رأيت شبحه واقفًا على رصيف محطة مترو «سانت تيريزا»، يشير بإصبعه ناحيتي يبستم ويكشف عن أسنانا بيضاء ناصعة وغمازة ذقن تبحث عن طريق لها بين الشعيرات النابتة حولها.. طردت الفكرة من رأسي.. أكمل القطار مسيرته داخل النفق.. ابتلعه – وابتلعنا معه – الظلام مثلما ابتلع السحاب الطائرة التي أقلته بعيدا إلى حيث لا أعرف، وابتلعني الحنين فتوقدت في جوفه. أنصاف أجساد لسيدات بدينات وفتيات رشيقات، القطار يشارف على الوصول إلى وجهتي، أقسمت أن يكون هذا هو يومي الأخير في مكتب النبأ غير السار، وأن هذه اللحظة ستكون المرة الأخيرة التي أذكره وأمرر رائحته وصوته وابتسامته على رأسي.
وهبني حياة ناقصة وألماً مكتملاً، كفي وأصابعي ومعصمي وأسفل الكوع، صك غفران وجواز عبوره إليَّ، كنت أرغب أن أعطيه نفسي كاملة، دائما كانت تقف في طريقي كلمات أمي عن الخطوط الحمراء التي يجب أن أضعها في منتصف الطريق، قائمة المحظورات.. و«لستة الممنوعات». كنت أعلم أنه سيرحل في منتصف الطريق المعبأ بالخوف والرغبة والحلم غير المكتمل، أخبرني أنه سيعود قريبا ربما بعد شهر واحد من فراقنا، سيكون هنا، أقسمت حينها أنني سأعطيه نفسي كاملة فور عودته، وسيمنحني هو حياة مكتملة وبعضاً من أنفاسه الطيبة التي أشتهيها.
كان هو الخيط المتين الذي ربطني بهذا المكتب الحقير حتى هذه اللحظة، صنعت في رأسي السيناريوهات كعادتها، أخبرتني أنه سيعود إلى العمل فور تقديمي الاستقالة، فكان الهروب منه إليه، 12 ساعة يوميا معدل عملي بالمكتب، أتلصص وأتتبع أي خيط يصلني بموعد عودته للعمل مرة أخرى.. حصلت على مكافأة وتضاعف راتبي نظير عملي الجاد واجتهادي في إنجاز المهام الموكلة إليَّ!، أخبرني رئيسي أن حبي وانتمائي للمؤسسة العريقة تضاعف ربما عشرات المرات.. هاه ربما، ولكن كيف وأنا .. نصف أنا ؟!
أخذني بريق عينيها اللامعتين الصغيرتين وملامح وجهها الدقيقة، منعتني من عبور الباب الزجاجي بعربة المترو فور وصول القطار إلى محطته الثابتة.
«والنبي يا أبلة تاخدي منديل، يارب تنولي اللي في بالك».
جسد صغير يعترض طريقي الذي لا أريد أن أكمله، حتما هو في انتظاري أمام مدخل المكتب في مكاننا المفضل، أريد أن احمل تلك الفتاة وألقيها بعيدًا، تشبثت بطرف البلوفر وجذبتني إليها.
«آخر كيس منديل يا أبلة يارب تنولي اللي في بالك».
يضغط سائق المترو على زر إنذار إغلاق الباب، النداء الأخير قبل الولوج إلى النفق المظلم مرة أخرى. لم تتركني أعبر الباب، أغلق في أقل من الثانية بعد تكرار صوت الإنذار للمرة الرابعة.. كان يصعد السلم الكهربائي من دون أن يلتف إليّ أو يشير بانتظاري في الطابق الأعلى للمحطة.. يبدو أنه تأخر عن موعد البصمة اليومية!
***
خاص بأوكسجين