نشيد سيّد السبت
العدد 179 | 29 أيلول 2015
أشرف القرقني


(1)

أنا بيتٌ أخرقُ مهذارٌ. و أبي ربٌّ حجريٌّ ملعون. مهنتُهُ الصّمتُ.و موسيقاه التّرسّبُ في نفسه. رماهُ زملاء الألوهة على الأرض لأنّه لم يشارك و لو بحرف في كتبهم. كان كسولاً. لم يخلق شيئاً حتّى. لم يحلم بآدم يرصف حيّات في صدره و يغنّي للجاذبيّةِ. لم يسمِّ شيئا. حتّى أنا سمّيتُ نفسي بنفسي. وسمّيتُ المحّارات المطبقةَ في أعضائي قصائدَ. سمعتُ أعمدتي تتصدّع ألما لهسيسها. إذ لحقتني اللّعنة ذات يوم: نفثتُ السمّ في جسد طفل يستحمّ في أحشائي. و سيّدي أرسل إخوته إلى مصرَ ليحرمني من نظرة مشفقة و هو يدكّني على الأرض.

نصفي الآن منثور عليها، حجراتٍ تئنّ. و نصفي الآخر يتداعى، فيما تُفَرْقِعُ في القفر و بلا هوادةٍ ضحكات مسمومة.

 

(2)

مُقَيَّدًا إِلَى الشَّجَرَةِ، لَمْ أَذْهَبْ أَبْعَدَ مِنْ سِيَاجِ الحَقْلِ. لَمْ أَصِلْ بَعْدُ إِلَى حَتْفِي. لَكِنَّ الوَقْتَ المُتَكَدِّسَ خَلْفَ البَابِ يَعِدُنِي بِسِرٍّ أَخْضَرَ. كُنْتُ كُلَّ صَبَاحٍ أُلْقِي نَظَرَاتٍ زَرْقَاءَ خَلْفَ التَّلَّةِ. وَعَبَثًا أَنْتَظِرُهَا فِي المَسَاء. مِنْ فَرْطِ الانْتِظَارِ صَارَتْ يَدَايَ يَابِسَةً، وَعَيْنَايَ بَحْرًا تَزْحَمُ فِيهِ المَرَاكِبُ أَشْرِعَةَ الهَوَاء. وَ رَغْمَ ذَلِكَ، مَازِلْتُ الأَرْمَلَةَ التِي تُنْفِقُ آخِرَ دِرْهَمٍ مِنْ أَجْلِ دَمْعَةٍ أُخْرَى عَلَى خَدِّ المَسِيح. فِي النِّهَايَةِ، الحَجَرُ الوَحِيدُ الذِي صَدَّقْتُ صَمْتَهُ، كَانَ إسْخَرْيُوطِيًّا آخَرَ قَدْ هَرَّبَ أَحْلاَمِي إِلَى لَيْلِ آلِهَةِ الشِّرِّير، حَيْثُ العَوِيلُ وَ القَصَبُ المَجْرُوح. هَا هُو يَقْرَأُ قَطِيعًا مِنْ نَظَرَاتٍ سَائِبَةٍ، يُسَابِقُ بَابًا مَخْلُوعًا فِي الرِّيحِ. وَيُلْقِي حِكَايَاتِهِ عَنِ البَدْءِ وَالخَرَابِ العَظِيم فِي خَوَاءِ نَهَارَاتِكُمْ.

 

(3)

في مهبّ الرّيح، أذهبُ. لا أبلغ هدفاً. لا أفكّر في الوراء. حصاني العاصفةُ. و ما تكسّر من هواء على الحواجز الحجريّة، سيفي. فكرةُ الفارس ألقيتها في جراب الصّيّادين الذين تركوا الأسماك الحزينة تتخبّط في عطش النّبع و عادوا بالأنهار مصفّدة إلى صحراء أحلامهم.

أنا لا أحلم أصلا، بمماليك أحكمها أو سيّد ألعق ظلّه كلّما أشرقت شمس ولم تغرب.

كلّ ما في الأمر أنّني، قبل أن أصافح الرّيح لأوّل مرّة، رُبِّيتُ في كنف الصّمت و العزلة.

ومن بَلَلٍ يقطر في سقف آلهة قديمة، خلقتُ نفسي. وكنتُ خصمها الوحيدَ و سياج منفاها.

حصاني يطوف بنفسه، مرتشِفا جسد البرّيّة. وأنا أجرجرُ من خلفي العالمَ نحو مجرّات بعيدة.                                                          

 

موصَدٌ بابي، و لكنّها دخلتْنِي، هذه الحرب. لا أملك في رحاها جيشًا. لا غنيمة لي تحطّ مع أوزارها، مثل حجر تخطّفته النّسور قبل أن يسقط منهكا على أرضي. أنا ساحةُ حربٍ دخلتني عنوةً. فصرتُ الفارس الذي خبّأ أعضاءه في عجلات الهواء، من أجلها. محايدًا، أقتل باسمها فراخ البراكين التي تنزع للتّوّ درعها الكلسَ و نظرة العتمة البيضاء…

الجماهير تهتف باسمي و تلملم ندف الذّهب الأخيرة كي تشيّد لي تمثالا و كنيسة. و أنا أعدّ مجمرتي. أسوّرها بلهاث التنّين كي أحرق المدينة بمن فيها. ثمّ أخلع بابي و أرفع أوزاري من جديد.

 

(5)

تماما، كما ينطفئ تلفازٌ قديم، ينتهي العالمُ.

الغربانُ في طريقها إلى الغابة. و أنا أعددتُ جرّتي الخزفيّةَ، حيث أخبّئ أرواحا لوحيدين غرقوا في بئر أو صحراءَ. من لم يجد هدهدا أو إشارة إلى طريق واضحة، جاءت به مِبْخَرة الملاك إليّ. و في كلّ استدارة درب، رمتهم رعودًا سحابةٌ و سقتهم عواصفَ مروحةُ التّرابِ. لكنّهم وصلوا إليّ، أنبياءَ بلا تبّع، لهم صحفٌ مصعّدة و ألواحٌ و مزاميرُ.

اللاّشيءُ ينشر مناديله على العالم. و رغم ذلك مازلتُ وحدي هنا، بأصابع من ماء، أفرُكُ جرّتي. أشعل عالما جديدا. و أشطبُ القيامة من دواوين الشّعراء.

 

(6)

حذِرًا مثل حيّة، أخبّئ كلبي في يدي. أسمّيه رياحا. و أسأله أن يقعي مثل ماء آسن بين ضفّتيّ. أعرف أنّ فرّيسيّين كثرا سيجيئون بالمسامير الصّدئة من أجلي، مخبّئة في ثغاء دافئ و نظرات حانية.

لكنّني لا أنسى أن أخلع أعضائي فأرتّبها في شباكي الخاوية إلاّ من كنز مسموم.

أنا سيّد السّبت. يداي صليب الباب الضّيّق، إلى حيث تقودني روح بألف شراع. أترك عاصفة تنبح فوق العتبة و أمضي …

لكنّني الطّوفان الذي يأتي دائما مع أوّل نوح.

_________________________________

شاعر من تونس. والقصائد من مجموعة بعنوان “نشيد سيد السبت” تصدر قريباً عن “دار مسكيلياني” في تونس

الصورة للفوتوغرافية الأمريكية برنيس ابوت (Berenice Abbott)

*****

خاص بأوكسجين