نافذة تحكي
العدد 273 | 14 تشرين الأول 2022
تيم الكردي


 

يَلّفُ صباحٌ ممطرٌ آخرٌ عزلَتيَ الصَّغيرةَ التي أعودُ إليها، تسبقُني كلُّ الأشياءِ إلى الاستيقاظ، ويترددُ صَدى ثرثرةِ النافذةِ في الغرفةِ بصوتٍ تستَعيرُه من الماء. أنهضُ لأنفُثَ في فراغٍ صباحيٍ هائلٍ دخانَ السجائرِ دونَ أنْ أسمحَ لها أن تَحترقَ وحدَها، أُحصي الدَّقائقَ التي تمرُّ كَمَن يَنتظرُ قطاراً لن يأتي وحده أبداً، وأُحاولُ البحثَ عن معنىً لِكُلِّ ما انقَضى، فما الضَجِرون سِوى باحثينَ عن المعنى وحكّائين. يبدو العالمُ في قلبِ هذا الفراغِ منزوعاً من القلقِ والغبار، لم يعدْ مسكوناً سوى بِندوبٍ لن يكونَ الزمنُ وحدَه كفيلاً بمَحوِها، لذا يبحثُ عن مبرِّراتٍ لوجودها، وقد استبدلَ المَركباتِ المَعدنيَّةِ بالوَحيدينَ والقطط، أما نَحن – الذينَ نُراقبهم – مُجرَّدُ كائناتٍ بدائيةٍ مُتلصِّصةٍ تسكُنها رَغباتٌ مُتوحشةٌ أُسدِلَتْ عليها سُحُبٌ من الإسمنتِ والحديد.

تعبثُ الغيومُ التي لا تنفكُّ عن بعضِها بذاكِرَتي، لكنَّها تَسلُّ الحكاياتِ من رأسي كَخيوطِ الصوفِ، وتُعيدُها إليّ عَبرَ فمِ النافذةِ، لِتهمِسَ في أُذني قِصَصَنا التي لمْ يُشاركْنا إياها سِواها، تَحكيها كَمَن لا يَتَذكَّرُ أيَّ شيءٍ غيرَها، وكَمَن يُدرِكُ تماماً لِمَ كُنتُ أُطلِقُ ملابسي على رفاقِها عندَ عَودَتي آخرَ الليلِ، وأصمُّ أُذنُيَّ عن صُراخِها هيَ والشمسِ معاً إلى آخرِ النهار، ولم أُدِر لها ظَهري عندَ نهايةِ شجاريَ مع الأرقْ. يرتفعُ صوتُ النَّافذةِ لتُصبحَ الصُّورُ في رأسي كَومةً مُتشابِكةً من الصُّوفِ المُلوَّن، فأُغلِقُ فَمَها بِدَفعَةٍ من يدي كوَلَدٍ نزِقٍ، لتُحدِّق بي بعينينِ حزينتينِ، لكنَّهما تَعرِفانِ جيداً أنَّ للنسيانِ جُذوراً عَميقةً كامِنةً فينا مَهما تشابَكَت خُيوطُ الصُّوفْ.

لن تُنسى حِكاياتُنا طالما بَقيَتِ النوافذُ، لذا سأُعَلِّقُ كُلَّ صُوَرِنا وأُديرُها إلى الحائِط، وأُعيدُ كتابةَ كُلِّ حِكايةٍ وحدَها في أوراقٍ، وأحرِصُ على نِسيانِها لِسنواتْ. سأُدَوِّنُ الحكاياتِ معكوسةً لتكونَ النِّهاياتُ لطيفةً، تنتهي بِغريبَينِ يَفرحانِ لِتَقاسُمِ فَراغٍ ما منَ الأرضِ، ولننسى تماماً أمرَ البداياتِ التي خَلقتُها لِتَوّي، فهيَ ليسَتْ سِوى مَمرٍ إجباري إلى تِلكَ النهاياتِ السَّعيدةْ. سأضَعُ خُطوطاً سَوداءَ عريضةً على وجوهِ الآخرينَ، أُحاولُ غَمرَ ذِكراهُمْ بالنسيانِ حتى تَمتَصُّه أسمَاؤُهُم تَماماً، وأُكَرِّرُ الأكاذيبَ في ذاكِرَتي كيلا تَستَعيدَ مشاهدَ تَتَّسِعُ لِأكثر من شخصَين، أُحوِّلُ ذِكراكِ إلى أَحرُفٍ مَجهولةٍ وعَشوائيةٍ، مجهولٌ أتمنَّى ألّا يُعَرِّفَهُ أو يَعْرِفَهُ أحدٌ، وأن يتوقفَ عن التَّسلُلِ إلى الكَلامِ دونَ أنْ أراه.

سأكتُبُ أنَّنا لمْ نكَنْ إلا وحيدَينِ يتقاسمانِ ساعاتِهما الضجرةِ دونَ ضجيجٍ عالقٍ بين سَحابَتينِ من الدُّخانِ حتّى طلوعِ الصُّبحِ، ويبحَثانِ عنْ مَمرّاتٍ إجباريَّةٍ ليَقضِيا الوقتَ معاً فيما تَجتَمِعُ أجساٌد كثيرةٌ مَقطوعةُ الرأسِ حولَهُما. ليَغسِلْ كُل مِنا خَطاياهُ وحدَهُ، ويسجِّلَ وحدَهُ الأكاذيبَ الصغيرةَ، الغضبَ المكبوتَ، والقِطَعَ المحطَّمةَ التي سيُخفيها أسفَلَ الكَنَباتِ والسَّجاجيدِ دونَ أنْ يَقولَ شيئاً، ويبتسمْ في وجهِ الآخَرِ لمرَّةٍ أخيرةٍ، وكأنَّها لمْ تكنْ سوى أحلامِ يَقظَةٍ أو رَغَباتٍ حادَّةٍ تَفتِكُ بِمُخيّلاتِنا. لِتكُن الحكاياتُ فيلماً سينَمائياً لا يَخضعُ إلّا لِرقابَةِ ما نُحِبُّ، في سينَما لا يوجدُ فيها سوى مِقعَدَينْ.

لنَتخيَّل الحكايةَ هكذا، وسأُغمِضُ عينَيَّ أمامَ كُلِّ الكلماتِ التي سَتُثيرُ بِداخلي مَزيْداً من القلقِ، وكلِّ الصورِ التي رَميتُ فيها رَأسي بِكُلِّ قُوَّتي ليُصبِحَ مَحمُولاً في الهواءِ، وما قُلناهُ قبلَها وبعدَها. سأُرَدِّدُ أغانيكِ المفضَّلةَ بصوتٍ مُنخفضٍ دونَ أنْ أشعُرَ بشيءٍ، وسأنظُرُ إلى آثاركِ كما هيَ، مجرَّدةٌ من المعاني، مُجرَّدُ أشياءٍ مرمِيَّةٍ في الأرجاءِ تَجمَعُ الغُبارْ.

سأبتَكِرُ طُرُقاً للهُروبِ أو أستَعيدُ ما أعرِفُهُ مِنها، فأنا لديَّ ذاكرةٌ رديئةٌ وأُذُنٌ صمَّاءُ فِعلاً، لكنَّني أكذِبُ أيضَاً. فنَحنُ لمْ نَتأكَّد يَوماً مِمّا إذا كانَ العَجائِزُ يتذَكَّرونَ الحكاياتِ أمْ يختَلِقونَها، لكنْ لدَيهُم الكثيرُ لِيَحكوهُ طوالَ الوقتِ، وحتَّى إنْ كرَّروا بعَضها مرَّةً تِلوَ الأُخرى، كأنَّهم يَحرِصونَ على تَذكيرِ أنفُسِهِم بِها أو حِفظِها، لكنْ إنْ كانَ كلُّ العَجائِزِ لا يَكتَنِزونَ شَيئاً غيرَ ذِكرياتٍ سعيدةٍ، فمِنْ أينَ وَرَثْنا كُلَّ هذهِ الأحزان؟

لنَتَظاهَر أنَّنا عَجائِزٌ صِغارٌ، فهذا مَمرُّنا الإجباريُّ إلى النَّجاةْ.

ولنْ تكونَ آخرَ مرَّةٍ أقولُ فيها أنَّني تَعلَّمتُ الدرسَ، لكنَّنا مُجرَّدُ كائناتٍ مُتَغَطرِسةً، ستَظُنُّ أنَّها تعلَّمَت الدرسَ، لكنَّنا ندور ُ في مَهزَلةٍ دائريَّةٍ لا نتعلَّمُ مِنها شَيئاً، تُعيدُنا إلى قاعِنا نفْسِهِ دَوماً.

فلا نَفْعٌ من النَّظَرِ إلى الأشياءِ إلا بعْدَ اكتِمالِها، وعلينا أن نَحرِصَ على أن نُبقيها مُكتَمِلَةً كما اخْتَرْنا لها أنْ تكونْ. ألا تنتهي كُلُّ الأفلامِ والرواياتِ بكلمة؟

الغيومُ نفسُها، هيَ وحدَها مَن ستَعرِفُ ماذا بَقيَ في رأسيْ مِن كلماتٍ أُعلِّقُها عَليها بعْدَ أن يَغرَق كُلُّ ما حَولي في الظُلمةِ، فهيَ لن تجدَ فُرصةً لتَنظُري إليها مَهما طارَدَتِك في تلكَ الشّوارعِ الباردةْ.

 

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية.