كان الوقت عصراً والشمس في ميلانها تترك آثاراً برتقالية كالحة على الأرصفة المتجمدة في ذاك الشتاء البارد الذي ضنت فيه السماء بالمطر. كانت الأيام الأولى من السنة الجديدة لا تختلف في شيء عن تلك التي ختمت بها سالفتها، ريح الشمال الثلجية تنذر بشؤم ما عمّ المدينة وانعكس على وجوه أهلها. الشوارع فرغت تقريباً من الناس ومن تبقى كان يسرع للوصول إلى البيت قبل أفول الشمس، فقد شاعت أخبار عن أرواح مشؤومة تجول في الليل وشهد الكثيرون بسماع أصوات عويل وبكاء تأتي من ناحية البحر على الأرجح.
“ها هي شجرة الجوز، سأختبئ خلفها، لن يراني أحد هنا!”
– ليلى… ىا ليلى… ساعديني يا بنتي.. عمتك مديحة قد اختفت..
– ماذا تفعلين خلف السرير يا عمتي .. تعالي .. تعالي لا تخافي
– مسكينة يا مديحة.. عقلك يضيع … ارحمنا يا رب.. استر آخرتنا يا الله.
لم تتمكن ليلى من النوم في تلك الليلة وأخذت تستعيد أحاديث عمتها عن ضرورة الزواج والبيت والاستقرار ونصائحها لها بأن لا تدع العمر يمضي بها فتنتهي كما انتهت هي وحيدة في بيت أخيها المتوفى تعتني بها أرملته وابنته.
انقبض صدرها وشعرت أنها باردة ومتيبسة، وزاد صوت الريح من ضيقها ليتملكها توجس شديد وكأنما تنتظر كارثة.
في الصباح كان الجميع متجهمين في المحكمة حيث تعمل. قصص غريبة تبادلها المراجعون على عجل. بعضهم كان يضحك باقتضاب متهماً الآخرين بالمبالغة، إلا أن سخريتهم المتوترة لم تكن كافية لتبديد ما تركته تلك الحكايات من أثر قاتم في النفوس. أقسم أحد المراجعين أنه رأى بعينيه ما يقارب الثمانية آلاف شخصٍ من رجال ونساء وأطفال يسيرون على الطريق المتجه نحو المدخل الجنوبي للمدينة.. وأكدّ أنهم كانوا شاخصي العيون، مغبري الملابس، حفاة. وأن طيوراً شنيعة كانت تحلق فوقهم، وأسراباً من الجراد تتبعهم.
انقضت الأسابيع تلو الأخرى والبرد يزداد قسوة والسماء تزداد عبوساً والريح لا تهدأ عن العويل.
– اجلسي قربي.. أشعر بالضجر يا بنة أخي
– عمتك ملّت مني يا ليلى.. أنا لا أسليها
– لم أقصد يا أختي.. لكني اشتقت لليلى وحكاياتها
– للحقيقة أنا أيضاً أشعر بالملل.. فالوقت يمر بطيئاً وكأن هذه الليلة لا صبح لها..!
– أمي .. عمتي .. أخرجونا من هذا الجو.. سأرقص لكما .. غنوا لي لأرقص
ضحكت السيدتان المسنتان وبدأتا بالفعل بالغناء.. مطفئتان كآبتهما بشبابها ومبددتان قتامة ليلتهما بخفة حركاتها الراقصة وهي تتمايل ممازحة على كل منهما…
كان الدفء قد ملأ الغرفة الصغيرة التي احتضنتهم ببابيها الموصدين من الشرق والغرب.. ومع الوقت بدأ النعاس يغلب العمة التي أخذت تبرطم بكلمات غير مترابطة.
– لنذهب إلى النوم .. فعمتك قد بدأت بتخاريفها…
– حسناً، دعيني أساعدك…
إلا أن صوت ارتطام الباب الشرقي المدوي قد باغتهما… وكان كما لو أن عملاقاً عظيماً قد ركله… فانفتح وضرب الحائط وارتد مراراً ليتبعه الباب الغربي… وبدأت الصحون وفناجين القهوة المرتبة في خزانة الحائط بالسقوط والتكسر… وأخذت الثريا تتأرجح بين الشرق والغرب.. وكذلك فراش العمة وكرسي الأم .. ولم تتمكن ليلى من المحافظة على توازنها فسقطت على السجادة إثر الهزة الأرضية القوية التي ضربت المدينة.
استيقظت العمة فاغرة الفم .. شاخصة العينين وأخذت تصرخ..
“أتوا..أتوا…. أين شجرة الجوز… لم أعد أعرف طريقي إليها….”
كانت تلك كلماتها الأخيرة فقد دخلت بعدها في غيبوبة يعلم الله متى ستنتهي. كما أصيب البيت بشرخ كبير.. وانهارت بيوت أخرى.
بعد الهزّة كان أهل المدينة يشعرون أنهم في مركب كبير يترنح بهم فوق أمواج من الارتدادات المتكررة.. وهكذا أبحرت المدينة مدفوعة بمياه البحر القاتمة نحو وجهة لمّا تتحدد معالمها ولمّا ينبلج الصبح بعد.
_______________________________
كاتبة من سورية
الصورة من أعمال الفنان التشكيلي السوري بسيم الريس
*****
خاص بأوكسجين