موجـز تاريخ الورد
العدد 226 | 28 كانون الثاني 2018
أحمد الزناتي


في كتابه “حاشية على اسم الوردة” (ترجمة أحمد الويزي – دار التكوين 2010)، يتحدث عالم السيمياء والروائي الإيطالي أومبرتو إيكو (1932- 2016) عن عنوان روايته الأولى اسم الوردة، متأملًا العنوان، ثمّ مناقشًا الأفكار والبدائل المتنوّعة التي كانت ترواده وهو يختار اسم روايته الأولى. يقول إيكو أنّ العنوان جاء بمحض الصدفة، حيث أنّه أراد تسمية روايته في البداية “دير الجرائم”، لكنه رأى أنّ مجاز الوردة مجازٌ رمزيّ ثريّ حافل بالدلالات، التي تدفع القاريء إلى تفكير في معانٍ متنوّعة، وربما متناقضة، وقد ينتهي المطاف إلى الدلالة على لا شيء، أو ربما الدلالة على كـلّ شيء.

يعدّد إيكو استعارات الوردة، أشهرها عبارة شكسبير الذائعة: ما أهمية الاسم؟ ستظلّ الوردة تطلق عطرها أيا كان الاسم الذي نطلقه عليها، ووردة الصليب، وجماعة الصليب الوردي، والوردة هي الوردة وهي الوردة وهي الوردة، والوردة البيضاء، والوردة الذابلة، وصباح الورد، ووردةٌ إلى إيميلي (قصة قصيرة لفوكنر)، إلخ…

الأسماء والاستعارات كثيرة ونحن لا نملك سوى الأسماء كما اخـتـتـم إيكو روايته. كان إيكو سعيدًا باختيار عنوان رمزي ومُربك، يقول الكثير ولا يقول شيئًا بعينه. وكأنّ المعنى عطر حلو طيّار تشمّ رائحته، ويُسكِركَ، فتطارده لكنكَ لا تستطيع القبض عليه، ولا فهمه. أو ربما كان يقصد المعنى الذي أشار إليه الفيلسوف الغنوصي الألماني الشهير أنجيلوس سيلسيوس: “الوردة وردة وكفى”، أي دون تفسير.

 

تاريخ استعارة الوردة في الأدب قديمٌ قِدمَ الأدب نفسه. ففي الكوميديا الإلهية لدانتي (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2002 – ترجمة كاظم جهاد)، تذهب الباحثة الفرنسية جاكلين ريسيه في معرض تحليلها لأجزاء الكوميديا الإلهية الثلاثة في كتابها “دانتي كاتبًا”، إلى أنّ الفردوس عند دانتي ما هـو إلا وردة سماوية هائلة. تُـحـلّل ريسيه الأصل الاشتقاقي لمفردة فردوس، التي تعني جنّة/حديقة، فتقول أنّها مشتقّة من اللاتينية باراديوس، القادمة بدورها من الفارسية “بارا-ديزا”، التي تدلّ على مجالٍ دائري، أو فجوة دائرية. ترى ريسيه أن الفردوس يقوم مقام المجاز الذي يشير إلى الوردة. الوردة هنا، أي هذا الكيان الدائري، مجـاز مزدوج. فالفردوس نفسه وردة هائلة، وداخل مسرح الوردة يجعل دانتي العادلين وأهل السماء ينتظمون في السماء العاشرة على هيئة وردة كبيرة (مُـدرَّج على شكل وردة)، هي وردة أهل القمّة، أو الوردة الأزلية. وفي وقتٍ قريب من وقت دانتي، ظهرت رواية الوردة، أشهر روايات الأدب الغزلي الفرنسي في العصر الوسيط للأديب الفرنسي جيُّوم دو لوريس الذي ألّفها بالفرنسية في النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، أي في عصر الشعراء الجوالة (التروبادور). في هذه الرواية، ينام الشاعر في نهاية يوم ربيعيّ ويرى حُـلْماً، وتُكون المشاهد التي يراها في الحُلم حبكة الرواية. يعجب الشاعر ببستان ورد، فيصير قلبه أسير رغبة جامحة لقطفها، لكن الشاعر لا يبلغ غايته، فالوردة مصونةٌ دائمًا من الأشرار، مـصـونة بقوى خفيّة، وهذا ما يمنحها سحرها. لصمويل كولريدج، الشاعر الإنجليزي بيت شعريّ جميل عن مجاز الوردة يقول فيه:”..إذا دخل رجل الفردوس في حُلْمه، وأُعـــطِـي وردةً بكونها إشارة إلى دخول روحه الفردوس الحقيقي، وإذا رأى الرجل الوردة في يده فور استيقاظه، ماذا يقول…؟”

في نهاية القرن التاسع عشر ظهرت رواية “صاحب الوردة القرمزية” للروائية الإنجليزية الهنجارية إيما أوكزي (1865-1947)، وهي اسم لوردة إنجليزية نبتتْ على جانب الطريق، ولكنها أيضاً اسم مستعار لإخفاء شخصية أشجع رجل في العالم، الرجل الذي ضحى بنفسه في سبيل إنقاذ العديد من الأرستقراطيين الفرنسيين، الذين أدينوا بالإعدام لمجرد أنهم أغنياء وأقارب للملك لويس الرابع عشر. محور الرواية أنّ الشجاعة مختبأة وراء وردة. الروائي الأمريكي الكبير هنري ميللر (1891-1980)، اختار “الصَــلّب الوردي” عنوانًا لثلاثيته الروائية الطويلة التي تحكي سيرته الذاتية والأدبية. نقرأ في الجزء الأول من ثلاثية الصلّب الوردي: “سيكسوس” (المدى 2002، ترجمة أسامة منزلجي): “..ولكنّ هناك وردة واحدة لا تموت في البيكاردي، إنها الوردة التي أكنزها في قلبي.” يعودُ ميللر في نهاية الجزء الثاني من الثلاثية ذاتها “بليكسوس”، ليفسّر مجاز الوردة في حياته قائلًا:”..إذا ما سُـئلتُ كيف وجدتَ الحياة على الأرض؟ سأجيبُ: كانت حياتي صَـلْبًا ورديًا مُطوّلاً….فالجرح الكبير المفتوح الذي كان ينزف عصارة الحياة يندمل، ويُزهر الكائن الحيّ كوردة.”

لم يكن مجاز الورد شائعًا في الأدب وحده، بل في الحروب كذلك. يخبرنا تاريخ القرون الوسطى في أوروبا عن حرب الوردتيْن، وهي حربٌ أهلية دارت رحاها بين عائلتيْن نبيلتيْن على مدى ثلاثين سنة، حول الأحق بعرش إنجلترا. سبب التسمية جاء مِن اتخاذ الفريقين المتقاتليْن شعارًا رمزيًا، وهو عبارة عن وردتيْن: الوردة الحمراء لعائلة لانكستر والوردة البيضاء لعائلة يورك. ويبدو أنّ التسمية مجاز الورد في الحروب أقدم من ذلك، فنقرأ في التراث الشعري لدى قبائل الأزتيك في حضارة المكسيك القديمة، عبارةً تصف خروج محاربي القبيلة لاصطياد الأعداء بأنّها حروبًا وردية (عصر الأزتيك، مشروع كلمة 2012)، فالوردة هي الوردة سواء في الحرب أم في السِلم.

وهناك وردة ريلكه القاتلة. يحكي عبد الرحمن بدوي في كتابه الأدب الألماني في نصف قرن عن حكاية زعمتْ أنّ الشاعر النمساوي الأشهر راينر ماريا ريلكه أصيب أواخر أيامه بسرطان الدمّ. تزعم الحكاية أنّ ريلكه إنما أصيب بهذا المرض من جراء تسمّم في جرح أصابه وهو يقطف وردة قدمها إلى معشوقته المصرية، السيدة نعمت علوي، وهو يودعها لما جاءت إليه في ميزوت بصحبة صديقة لها لزيارته، إذ لما راح يقطف الوردة من شجرة ورد، دخلت في إصبعه شوكة سامة فجرحته. كان الجرح خفيفًا في البداية، لكنّه ما لبث أن أصيبَ بتسمّم.

 أما في التراث العربي/الإسلامي، والعرفاني منه على الأخصّ، يتحوّل مجاز الوردة إلى أيقونة تدور حولها معظم أشعار العرفان والغزليات، سواءً العربيّ منها أم الفارسي. تخصّص الباحثة الألمانية الكبيرة آنا ماري شيمل (1922 – 2003)، فصلًا من كتابها “الجميل والمقدّس – دراسات، ترجمة عقيل عيدان، الدار العربية للعلوم ناشرون 2008)، تتناول فيه الورود والزهور والبساتين في الحضارة الإسلامية بداية من الإسلام المُبكّر حتى عهد العثمانيين والمملاليك من خلال نصوص شعرية. تورد شيمل نصوصًا دينية (أحاديث نبوية وغيرها)، ترجّح فكرة أنّ الوردة مخلوق سماوي، لا علاقة لها بالأرض وأهلها، فتشير إلى حديث نبوي، رواه الشاعر الفارسي روزبهان البقلي الشيرازي (الشهير بالمصري)، جاء فيه: كلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم وردةً، قــبّلها ووضعها على عينيه، وحديث نبوي آخر يقول:” الورد الأبيض خُلِقَ مِن عــَــرَقي ليلة المعراج، وخِلقَ الورد الأحمر من عـــَـرَق جبريل” (لم يعثر المترجم على متن الحديث النبوي ولا مصدره).

وللعارف الفارسي روزبهان المصري تجربة صوفيّة مع الورد، تقترب في مجازها مع فردوس كوميديا دانتي الإلهية. فقد شاهد روزبهان تجلي الحضور الإلهي في شكل سحابٍ من الورد الأبيض والأحمر، لامع  شاسع كـنـور وردة سماوية. لاحظتُ شيمل أيضًا في كتابها أنّ الولع بالورد – مجازًا وحقيقة- تجاوز الحدّ عند بعض الشخصيات التاريخية، الذي اعتبروا أنّ الورد أمرٌ موقوفٌ على الخاصة، دون العامّة. فتروي واقعة تاريخية طريفة عن الخليفة العباسي المتوكّل، نقلته عن تاريخ ابن عساكر:”.. والمتوكّل هو الخليفة الذي حمى الورد ومنعه عن الناس، كما حمى النُعمان بن المنذر الشقيق (يقصد شقائق النعمان) واستبدّ به، وقال لا يصلح للعامة، فكان (أي الورد) لا يُرى إلا في مجلسه، وكان يقول أنا ملك السلاطين والورود.”

ويحكي لويس ماسينون في سِفره الضخم آلام الحلّاج، أنّ العارف أبا بكر الشبلي قد رمى الحلّاج أثناء صلبه بوردةٍ، بينما قذفه العامّة بالحجارة، فكان رميّ الوردة إشارة تحدٍ وعتاب، تحدٍ للفقهاء على جور حُكمهم، وعتاب للحلاج على كشفه السرّ، مرتّلًا آية من القرآن الكريم أثناء إلقاء الوردة: “أو لم ننهكَ عن العالمين”.

وكان للورد في نظر الشعراء العرب القدامى مقام المسيح عليه السلام، لإنّ رائحته الزكية الخفيفة تحيي الموتى وتبرأ المرضى مثل يـدّ المسيح. ثمّ انتقل مجاز الورد إلى فنّ الرسم والخطّ، فقطف الرسّامون والخطّاطون ورودًا من الجنّة السماوية المُتخـيّلة ووضعوها على جدران المساجد والأضرحة، ورسمها صانعوا السجّاد على بسطهم. ومِن رسوم الورد والنباتات ظهر ما يسمى بفنّ الأرابيسك، وهو جنس من الزينة، تنمو فيه وردةٌ من وردة، وورقةٌ من ورقة.

تُــروى قصّة طريفة عن جون ملتون، مؤلّف ملحمة الفردوس المفقود، أنّه قبل إصابته بالعمى كانت في يده وردة، وأراد اختبار قدرته على الوصف والكتابة والكلام عن الأشياء الجميلة كما كان في الماضي، قرّب ميلتون الوردة من وجهه لكنه لم يرَها بطبيعة الحال، ولم يقدر على وصفها أيضًا، فابتسمَ ولاذ بالصمت.

*****

خاص بأوكسجين


روائي وقاص من مصر. من رواياته "البساط الفيروزي: في ذكر ما جرى ليونس السمّان"" 2017، و""ماضي"" 2017."