بأيدٍ تدّعي الرضا بتنقلها الحر بين مكانين أمسك الآن شجرة الزيتون من يدها لأرشدها نحو مكانها “تعالي من هنا يا شجرة الزيتون، تعالي من هنا لنتبادل الأدوار، أنت لحفظ الصورة من الإدعاء وأنا لأحمي الذاكرة من أثر الغبار”
لا أعرف حتى الآن كيف تبدأ هذه القصص ولكن يوم ولادتي زرع أبي شجرة الزيتون في الحديقة قرب بئر الماء، وكان يكفي أن أبلغ الثالثة من عمري لأدرك أن أبي يعتبر شجرة الزيتون جزءاً من العائلة فهذه الشجرة ليست مجرد شجرة بل هي خالة وعمة وزوجة وحبيبة وأخت وغابة كثيفة من الأقرباء…
وفي 31_8_1995 استشهد أبي أثناء إحدى الدوريات في جنوب لبنان، وأنا كطفل لم أدرك يومها معنى كلمة استشهاد، ولكن الآن وبعد سنين اقتنعت بطريقة ما لا أستطيع أن أحدد ملامحها أن شجرة الزيتون علمت باستشهاد أبي قبلنا بساعات أو حتى أيام وأظن أنها كانت من المعزين وحاملي النعش والراكضين بفناجين القهوة المرة وأكواب الماء…
توقفت شجرة الزيتون عن الإثمار خمسة عشر عاماً بعد استشهاد أبي وأعتقد أنها أصبحت ضريرة من يومها صارت تهرب من الشمس وتسلك أسلوباً شخصياً في الحداد، كنتُ أضع أذني على ساقها وأهزها، وأهزها بعنف لعلي أسمع صوتاً ينادي بلغة ما.. كانت أمي تقول “بعدا زعلانة على أبوك” وكنتُ أصدق أمي أكثر من البستانيين الذين طلبتهم لعلاجها..
قبل نزوحي من منزلي في دمشق بثلاثة أعوام أثمرت شجرة الزيتون من جديد، عانقتها كأختي الكبيرة قبّلتها وقطفتها حبةً حبة… لم أكن أعلم يومها أنها تودعني، تثمر كي لا تحرم قصتنا من نهاية سعيدة ولكن منذ حوالي عامين اتصلوا بي وقالوا لي “بيتك تحت القصف” وأنا أقول لنفسي “يا الله من سيرشد شجرة الزيتون، تعالي من هنا ياشجرة الزيتون تعالي لننجوا معاً من هذا الدمار”.
*****
خاص بأوكسجين