من مذكرات ابنة مُطيعة
العدد 212 | 17 أيار 2017
سيمون دو بوفوار


   كنت فتاة تقيّة جداً؛ أقدِّم اعترافي مرتين في الشهر في آبيه مارتان، وأتلقى عشائي الرباني ثلاث مرات في الأسبوع وفي صباح كل يوم أقرأ فصلاً من ” تقليد المسيح “؛ وبين الدروس، أتسلل إلى مُصلّى المدرسة وأُتلو صلاة مُطوّلة، ورأسي بين يديّ؛ وغالباً في سياق النهار أرفع روحي نحو خالقي. ولم أعُد أهتمُ كثيراً في الطفل يسوع، لكنني تدلهتُ حباً بالمسيح حتى الولَه. وبالإضافة إلى المزامير، قرأتُ روايات مُشوِّشة هو بطلها، وأصبحت أتفرّس في وجهه الوسيم، الرقيق، والحزين بعينيّ عاشقة؛ كنتُ أتبع الأهداب المُشعّة لردائه الأبيض كالثلج، عبر التلال المكسوة ببساتين الزيتون، وأغسل قدميه الحافيتين بدموعي فيبتسم لي من عليائه كما ابتسم للمجدلية. وبعد أنْ اكتفي من معانقة رُكبتيه والبكاء بدموع حرّى على جسده المُضرج بالدماء، أسمح له بالارتقاء إلى سمائه. وهناك يتّحد مع ذلك الكيان الغامض الذي أُدين له بوجودي على الأرض، والذي سيملأ عرش مجده ذات يوم، وإلى الأبد، عينيّ بضياءٍ سماويّ.

   كم كان مُريحاً أنْ أعرف أنه موجود! لقد قيل لي إنه يرعى كل فرد من مخلوقاته وكأنَّ كلاً منهم فريدٌ من نوعه؛ كانت عيناه تسهران عليّ في كل لحظة، ويخصّني بأحاديثه القُدسيّة دون الآخرين جميعاً؛ كنتُ أنساهم كلهم، ولا يبقى إلا هو وأنا في العالم، وأشعر بأنني جزءٌ ضروريّ من مجده؛ كان وجودي، عبره، لا يُقدَّر بثمن. لم يكن هناك شيء لا يعرفه؛ بدقّة تفوق دقة تسجيل أساتذتي لأفعالي، وأفكاري، ومزاياي، المحفورة فيه إلى الأبد؛ وأيضاً أخطائي وزلاتي، طبعاً، ولكن هذه نُظِّفَتْ كلها بماء التوبة حتى أضحت تشرق وتتلألأ كفضائلي. لم أملّ أبداً الإعجاب بنفسي في تلك المرآة النقيّة التي لا بداية لها ولا نهاية. كان انعكاس صورتي، المُشع كله بفرحٍ مُستلهَم من قلب الله، يواسيني وسط عيوبي الأرضية ومحاولاتي الفاشلة؛ أنقذني من اللا مبالاة، من ظلم الطبيعة الإنسانية وسوء فهمها. ذلك أنَّ الله كان دائماً يقفُ إلى جانبي، إذا ارتكبتُ خطأً بأي طريقة، حالما أخرُّ على رُكبتيّ طالباً سماحه ينفخ في روحي الصدئة ويُعيد إليها رونقها كله. ولكن في المعتاد، عندما أغتسل بإشعاعه الأزليّ، تزول أخطائي المُتهمة بها ببساطة؛ كان حُكمه هو إعلان براءتي. كان الحَكَم الأسمى الذي وجد أنني دائماً على صواب. وقد أحببته بكل الشغف الذي جلبتُه إلى الحياة نفسها.

   كنتُ في كل عام أعتكف بضعة أيام؛ وأقضي النهار كله في الإصغاء إلى تعليمات رجل الدين، وأحضر الصلوات، وأُسبِّح بمسبحتي وأتأمّل؛ كنتُ أمكث في المدرسة لأتناول وجبة فقيرة، وفي أثناء تناول الطعام يقرأ علينا أحدهم عن حياة أحد القديسين. وفي الأمسيات، في المنزل، كانت أمي تحترم تأملاتي الصامتة. كنتُ أدوّن في دفتر خاص ما يفيض من روحي الخالدة وقراراتي القُدسيّة. كنتُ أتوق بكل اتّقاد إلى أنْ أقترب من الله، لكنني لم أعلم كيف أفعل ذلك. لم يُبقِ سلوكي لي ما أشتهيه ولذلك لم أعُد أتحسّن؛ ثم إنني تساءلت إنْ كان الله حقاً يهتم بسلوكي العام. وغالبية الأخطاء التي كانت أمي تؤنّب عليها أختي وتؤنبني كانت مجرد حماقات خرقاء أو أخطاءً غير مقصودة. كانت بوبيت تتلقّى تأنيباً قاسياً وتُعاقَب على إضاعتها ياقة من فرو السنور. عندما وقعت في “النهر الإنكليزي”، وأنا أصطاد القريدس، استولى عليّ الرعب لمجرد التفكير في التأنيب الذي شعرتُ أنه ينتظرني؛ لحسن الحظ أفلتُّ في تلك المرة. لكن سوء السلوك ذاك لم يكن له أي صِلة بالإثم، ولم أشعر أنني بتجنبي إياه لم أقترب أي خطوة من الكمال. والمُحرِج في الأمر أنَّ الله حرَّمَ العديد من الأشياء، لكنه لم يطلب أي شيء إيجابي خلاف بضع صلوات أو ممارسات دينية لم تغيِّر أي شيء في مسار حياتي اليومية بأي طريقة. بل لقد اكتشفتُ أنَّ من الغريب رؤية الأشخاص الذين تلقّوا تواً قربانهم الإلهي يعودون في الحال إلى الانغماس في روتين حياتهم العادي؛ وفعلتُ الشيء نفسه، لكنّي شعرتُ بالإحراج. وباختصار، بدا لي أنَّ المؤمنين وغير المؤمنين يعيشون نمط الحياة نفسه؛ وصرت أقتنع أكثر فأكثر بأنه ليس هناك من حيِّز لأي شيء خارق للطبيعة في الحياة اليومية. ومع ذلك كانت تلك الحياة الأخرى هي الهامة؛ النمط الوحيد الهام. وأصبح جلياً لي فجأة  في صباح ذات يوم أنَّ المسيحي الذي اقتنع بخلاصه الأبدي لا ينبغي أنْ يُعلِّق أي أهمية على الأشياء الزائلة في هذا العالم. كيف تستطيع غالبية الناس أنْ تعيش في عالم كهذا؟ وكلما أمعنتُ التفكير في هذا، ازداد تعجّبي منه. وقررتُ أنني، في كل الأحوال، لن أقتفي أثرهم: اتخذتُ خياري بين المحدود واللا محدود. قلت لنفسي ” سوف أصبح راهبة “. لقد بدا لي أنَّ نشاط أخوات الإحسان بلا أي فائدة؛ الانشغال المعقول الوحيد كان التأمّل في مجد الله حتى آخر أيامي. أردتُ أنْ أصبح راهبة كرمليّة. لكنني لم أُعلن عن قراري: لم يكن أحد ليتعامل معي جدياً. واكتفيت بإعلان أنني أنوي ألا أتزوج. ابتسم والدي: “لدينا الكثير من الوقت للتفكير في هذا حين تبلغين الخامسة عشرة” وفي أعماق قلبي كرهتُ ابتسامته. لقد أدركتُ أّنَّ منطقاً عنيداً قادني إلى الدير: كيف يمكن أنْ تختار ألا تحصل على أي شيء من أجل أنْ تنال كل شيء؟

    هذا المستقبل الوهمي زوّدني بحجة غياب مناسبة. لقد سمح لي طوال سنين عديدة أنْ أستمتع بكل طيبات هذا العالم دون أي تردّد.

 

   كانت سعادتي تبلغ ذروتها خلال الشهرين ونصف اللذين أقضيهما كلّ صيف في الريف. كانت أمي ترتاح هناك أكثر من باريس؛ وفي تلك الأثناء يُخصّص والدي المزيد من الوقت لي؛ وكنتُ أستمتع بوقت الفراغ الرحب بالقراءة وباللعب مع أختي. لم أُضيِّع أبداً cours desir (مسار الرغبة): ذلك الإحساس بالضرورة الذي تمنحه الدراسة لحياتي موزّعاً على أيام العطل. لم يعُد وقتي يُحسَب بصرامة بمقتضيات جدول المواعيد؛ لكنَّ غيابه كان يُعوَّض إلى حد بعيد برحابة الآفاق التي تنفتح أمام عينيّ الفضوليتين وقد قمت باكتشافها من دون أي عون: لم يعُد تأمّل البالغين يتقاطع مع حاجز يفصلني عن العالم. والعزلة والحرية اللتان لم أكن أحظى منهما بالكثير على مدار العام أصبحتا الآن مُتاحتان بلا حدود، وأنال كفايتي وأكثر منهما. في الريف كان يبدو أنَّ طموحاتي كلها تجتمع معاً وتتحقق؛ ولائي للماضي وميلي إلى الجديد، وحبي لوالديّ ورغبتي المتنامية في الاستقلال.

   في أول الأمر كنا في المعتاد نقضي بضعة أسابيع في لا غرايير. كانت القلعة تبدو لي شاسعة وشديدة البرودة؛ لم يكن قد مرَّ على بنائها أكثر من خمسين عاماً، ولكن لا شيء من أغراضها – الأثاث أو الزخارف – التي كانت قد جُلِبَتْ قبل نصف قرن من الزمان قد تغيَّر أو نُقِلَ من مكانه. لم تُغامر أي يد بإزالة بقايا الماضي: كان في الإمكان شمّ عبق الحيوات البائدة. كانت هناك تشكيلة من أبواق الصيد مُعلّقة في القاعة المكسوة بالآجر، وكلها مصنوعة من النحاس اللامع، تستحضر – خطأً، في اعتقادي – عظمة رحلات صيد الأيل الماضية. في ما يُسمّى “غرفة البلياردو”، حيث كنا في المعتاد نجتمع، كانت ثعالب وصقور وطيور الحدأة مُحنّطة، تُضفي الخلود على ذلك التقليد الدمويّ. لم تكن هناك طاولة بلياردو في الغرفة، لكنها تضم مدخنة هائلة الحجم، وخزانة للكتب، دائماً مُقفلة بإحكام، وثمة طاولة كبيرة مغطاة بنسخ من مجلات تهتم بالصيد؛ وهناك طاولات مُحمّلة بصور فوتوغرافية مصفرَّة، وبحزم من ريش الطواويس، والحصى، وزخارف من التيراكوتا، ومقاييس الضغط الجوي، وساعات الحائط التي لا تعمل أبداً ومصابيح لا تضيء أبداً. وبعيداً عن غرفة الطعام، باقي الغرف كانت نادراً ما تُستخدَم: كانت هناك غرفة الجلوس، مُضمّخة بعفن كرات مكافحة العث، وغرفة جلوس أصغر حجماً، وغرفة للدراسة وما يشبه غرفة المكتب دائماً مصاريع نوافذها مُغلقة وهي تُستخدم كنوع من غرفة تخزين أو المفخرة….

*****

خاص بأوكسجين