منذ عدة سنوات في نيويورك، وبينما كنت أسير شرقاً في شارع فيفتي سيفين بين الجادة السادسة والخامسة في يوم مشرق من أيام الخريف، انتابني، ما تراءى لي حينها، توجسٌ من الموت وإدراك لحضوره. كانت تلك ظاهرة من ظواهر الضوء: أشعة شمس خاطفة تتسلل لتلطخ الأرض ببقع متفرقة من نور، أوراق صفراء تتساقط (لكن من أين؟ وهل يوجد أصلاً أشجار في شارع ويست فيفتي سيفين؟)، زخة من ذهب تتلألأ بسرعة خاطفة، وضياء ينهمر. بعد ذلك بدأت أحترس من ظواهر كتلك في الأيام المشرقة لكنني لم أختبر تلك التجربة مرة أخرى. تساءلت بعدها إذا كان ما مررت به نوبة أو سكتة ما. قبل ذلك ببضع سنوات، وأثناء وجودي في كاليفورنيا، رأيت حلماً علمت عندما استيقظت منه أنه رؤية عن الموت، رأيت صورة لجزيرة جليدية يمكن تمييز حافتها المتعرجة من الأعلى كأنّها إحدى جزر تشانل آيلاندس الإنجليزية، لكن لم يكن يُرى فيها سوى الجليد نصف الشفاف، وبياض مائل إلى الأزرق يتلألأ في ضوء الشمس. وبخلاف الأحلام التي يتوقع فيها الحالم الموت، ويدرك أنه حُكم عليه بالموت حكماً مبرماً لكنه لم ينفذ بعد، لم يكن ذلك الحلم ينطوي على أي خوف. كلا الحادثتين، الجزيرة الجليدية وانهمار الضوء في شارع ويست فيفتي سيفين، بدتا مبهمتين وجميلتين بما يفوق الوصف، لكن بالرغم من ذلك كنت متأكدة تماماً من أن ما تراءى لي فيهما هو الموت.
إذا كانت تلك تصوراتي عن الموت، لماذا إذاً ظللت غير قادرة على تقبل حقيقة أنه قد مات؟ أكان ذلك لأني عجزت عن رؤية الموت على أنه شيء حدث له؟ أكان ذلك لأنني ما زلت أنظر إليه كأمر أصابني أنا؟
بسرعة تتغير الحياة.
في لحظة تتبدل الحياة.
تراك جالساً تتناول العشاء وإذ بالحياة التي تعرفها تنتهي.
أي شفقة على الذات تلك!
لاحظوا السرعة التي تصبح فيها مسألة الشفقة على الذات جزءاً من الصورة.
في أحد الصباحات خلال فصل الربيع الذي أتى بعد الواقعة حدث ذات مرة أن التقطت عدداً من صحيفة نيويورك تايمز وتجاوزت صفحتها الأولى وتوجهت رأساً إلى صفحة الكلمات المتقاطعة، وقد أصبحت تلك عادة عندي خلال تلك الأشهر، وأسلوباً أتبعه في قراءة، أو بالأحرى عدم قراءة، الصحف. في السابق لم يكن لي صبر قطّ على حل الكلمات المتقاطعة، أما الآن فكنت أنظر إليه كتمرين ذهني يساعدني على استعادة قدراتي الإدراكية. أول مفتاح لغز استرعى انتباهي ذلك الصباح كان ذلك الخاص بـ6 عامودي، “أحياناً تشعر كأنّك;…” وفي الحال عرفت الجواب الصحيح، جواباً طويلاً كفيلاً بملء عدة فراغات وإثبات كفاءتي لذاك اليوم: ”طفل يتيم الأم.”
يتامى الأم حياتهم مريرة-
يتامى الأم حياتهم كلها مرارة-
خطأ.
6 عامودي يجب أن تكون كلمة من أربعة أحرف فقط.
تخليت عن حل الكلمات المتقاطعة (نفاد الصبر لا غالب له)، وفي اليوم التالي بحثت عن الجواب الصحيح. جواب 6 عامودي الصحيح كان “جوزة.” جوزة!؟ أحياناً تشعر برغبة في تناول جوزة؟ إلى أي مدى أقصيت نفسي عن عالم الأجوبة العادية؟
ملاحظة: الجواب الذي خطر ببالي في الحال (يتيم الام) كان تجسيداً لأنين الشفقة على الذات الذي يعصف في داخلي.
ما كان هذا العجز عن الفهم بالأمر السهل علاجه.
شرهٌ اندفاعه، ذلك الوهج المدوّخ!
أين أبي وإيليانور؟
لا أسأل أين هما الآن، فقد رحلا من سبع سنين،
بل أين ما كانا عليه حينها؟
ما عاد لهما وجود؟ ما عاد لهما وجود؟
ديلمور شوارتز “بهدوء نمشي عبر هذا اليوم النيساني”
“Calmly We Walk Through This April’s Day”
كان واثقاً من أن موته بات قريباً. قالها لي أكثر من مرة. لم ألقِ بالاً إلى ذلك. كان مكتئباً. كان قد انتهى من كتابة روايته، Nothing Lost “لم نفقد شيئاً”، والتي كانت قد علقت في حالة الإهمال المتوقعة تلك التي تحدث بين مرحلة التسليم والنشر لفترة طالت أكثر من المعتاد. كان يعيش أزمة ثقة، المتوقعة بالقدر نفسه، بخصوص الكتاب الذي كان قد بدأ كتابته حينها، وهو عبارة عن تأملات في معنى الوطنية التي لم تجد زخمها بعد. كان عليه أيضاً أن يتعامل مع سلسلة من الأزمات الصحية التي أحاقت به معظم فترات العام. كان نظم قلبه يدخل بوتيرة متزايدة مرحلة الرجفان الأذيني. كان من الممكن استعادة النظم الجيبي عبر تقويم نظم القلب، وهو إجراء طبي يتم خارج المستشفى، حيث يوضع المريض تحت التخدير العام لبضع دقائق يتم خلالها تعريض قلبه للصدمات الكهربائية، لكن أي تغيير في وضعه الجسدي، ومهما كان بسيطاً، كالإصابة بالزكام أو السفر جواً لمسافات طويلة، قد يعرقل النظم من جديد. في الإجراء الأخير الذي خضع له، في أبريل من العام 2003، لم تكفِ قلبه صدمة كهربائية واحدة، ما اضطرهم إلى تعريضه إلى صدمتين. الوتيرة المتزايدة التي أصبحت بها عملية الصدمة الكهربائية ضرورة وحاجة منتظمة بالنسبة إليه كانت دلالة على أنها لم تعد نافعة. في يونيو، وبعد سلسلة من الاستشارات، كان عليه أن يخضع إلى إجراء طبي أكثر خطورة في القلب، وهو اقتطاع عقدة التقاء الأذين بالبطين، التي يجب أن يعقبها زراعة منظم نبض القلب Medtronic Kappa 900 SR.
خلال الصيف، عندما كان مأخوذاً بفرحه بزفاف كوينتانا واطمئنانه للنجاح الظاهري لمنظم نبض القلب، بدا وكأن مزاجه يتحسن. لكن ما إن جاء الخريف حتى سقط ضحية للاكتئاب من جديد. أذكر شجارنا حول السفر إلى باريس في نوفمبر. كنت معارضة لفكرة السفر. قلت له إن لدينا الكثير من العمل والقليل من المال. أنبأه إحساسه أنه إذا لم يسافر إلى باريس في نوفمبر فإنه لن يرى باريس مرة أخرى. تلك كانت ذريعته التي اعتبرتها نوعاً من الابتزاز حينها. حُسم النقاش إذاً، قلت، سنذهب إلى باريس. كان جالساً على الطرف الآخر من الطاولة، نهض ومشى خارجاً. ولم يدر بيننا أي حديث ذو معنى لمدة يومين بعد ذلك.
في النهاية ذهبنا إلى باريس في نوفمبر.
أقول لك إنني لن أعيش لأكثر من يومين، قال جافن في أسطورة الملك آرثر. منذ بضعة أسابيع في مجلس العلاقات الخارجية في سيكستي إيتث أند بارك استرعى انتباهي شخص يجلس على الطرف المقابل لي ويقرأ صحيفة إنترناشيونال هيرالد تريبيون. هذا مثال آخر عن انزلاقي إلى المسار الغلط. شعرت وقتها بأنني لم أعد موجودة في مجلس العلاقات الخارجية في سيكستي إيتث أند بارك، بل جالسة قبالة جون على مائدة الفطور في غرفة الطعام في فندق بريستول في باريس في نوفمبر العام 2003. كان كلانا يقرأ صحيفة إنترناشيونال هيرالد تريبيون، نسخة الفندق، مرفقة ببطاقات صغيرة مغروزة فيها تُظهر حال الطقس اليوم.
كل البطاقات المرفقة الخاصة بصباحات نوفمبر كان يظهر عليها رسم لمظلة. مشينا تحت المطر في حديقة اللكسمبورغ. لجأنا إلى كنيسة سان سولبيس. كان ثمة قُداس يُعقد في الكنيسة. تناول جون القربان المقدس. أصبنا بالزكام من السير تحت المطر في حديقة جاردان دو رانيلاه. في رحلة العودة إلى نيويورك كان وشاح جون وقميصي يعبقان برائحة الصوف الرطب. عند الإقلاع أمسك بيدي إلى أن استقرت الطائرة في الجو.
دائماً ما كان يفعل ذلك؟
ألى أين كان يقودني كل هذا؟
في إحدى المجلات رأيت إعلاناً لشركة مايكروسوفت يظهر فيه رصيف محطة مترو بورت دي ليلا في باريس.
في الأمس وجدت في إحدى جيوب سترة غير ملبوسة بطاقة مترو مستعملة من تلك الرحلة إلى باريس في نوفمبر. “وحدهم أتباع الكنيسة الأسقفية يتناولون القربان المقدس،” صحّح لي معلوماتي مرة أخرى أثناء مغادرتنا كنيسة سان سوليبس. أربعون عاماً وهو يصحح لي هذه المعلومة. الأسقفيون “يتناولون” بينما الكاثوليكيون “يتلّقون”، كان هذا يجسّد، شرح لي أكثر من مرة، اختلافاً في المسلك والتوجه.
لا أسأل أين هما الآن، فقد رحلا من سبع سنين،
بل أين ما كانا عليه حينها؟
آخر إجراء لتقويم نظم القلب: أبريل 2003. ذلك الذي احتاج فيه قلبه إلى صدمتين. أتذكر الطبيب وهو يفسر لي لماذا تم الإجراء تحت التخدير العام “لأن المرضى يثبون عن الطاولة من دون تخدير.” 30 ديسمبر 2003: تلك الوثبة المفاجئة عندما كان المسعفون يستخدمون جهاز الصدمة الكهربائية على أرضية غرفة الجلوس، أكانت تلك نبضة قلب أم نبضة كهرباء؟
في ليلة رحيله أو في الليلة التي سبقتها، ونحن في سيارة الأجرة في طريقنا من مستشفى بيت إسرائيل نورث إلى شقتنا، قال أشياء عديدة جعلتني عاجزة لأول مرة عن صرف الاكتئاب عنه، تلك المرحلة العادية في حياة كل كاتب.
قال لي إن كل ما فعله في حياته كان بلا قيمة. لم أكف عن محاولة الخروج به من اكتئابه.
ربما لم يكن هذا شيئاً عادياً، قلت لنفسي، لكن لم يكن ثمة شيء عادي في الوضع الذي تركنا فيه كوينتانا. قال إن الرواية كانت بلا قيمة.
ربما لم يكن هذا شيئاً عادياً. قلت لنفسي، لكن أن يرى أب طفلته على هذه الحال من دون أن يكون بيده حيلة لانتشالها من عذابها ليس أمراً عادياً أيضاً. قال إن مقالته الحالية في نيويورك ريفيو، المراجعة التي كتبها عن كتاب غافين لامبرت الذي يسرد سيرة ناتالي وود، كانت بلا قيمة.
ربما لم يكن هذا عادياً، لكن، هل كان أي شيء في الأيام الماضية عادياً؟
قال إنه لا يعلم ما الذي يفعله هنا في نيويورك. “لماذا أضعت وقتي في كتابة مقالة عن نتالي وود،” قال.
ذاك لم يكن سؤالاً.
“كنتِ محقة بخصوص هاواي،” قال بعد ذلك.
ربما عنى أنني كنت على حق منذ يوم أو يومين عندما قلت له إنه إذا تحسّن حال كوينتانا (كانت تلك تورية عن “إذا بقيَت على قيد الحياة”) يجب أن نستأجر منزلاً على شاطئ كايلوا حيث يمكنها ان تتعافى هناك. أو ربما عنى أنني كنت على حق في سبعينيات القرن الماضي عندما أردت أن أشتري منزلاً في هونولولو. فضّلت حينها أن أعتقد أنه كان يعني الأولى لكن الزمن الماضي في عبارته كان يوحي بأنه عنى الثانية. قال تلك الأشياء في سيارة الأجرة التي كانت تقلنا من مستشفى بيت إسرائيل نورث إلى شقتنا قبل ثلاث ساعات أو سبع وعشرين ساعة من موته، حاولت أن أحصر ذهني لأتذكر متى كان ذلك، لكن بلا جدوى.
_____________________
صدر الكتاب أخيراً عن دار المدى. يمكنكم الاطلاع على قراءة له في زاوية “كتاب” ضمن مواد هذا العدد.
*****
خاص بأوكسجين