من رواية “وجوه في الزحام”
العدد 242 | 17 آذار 2019
فاليريا لويزلي


 

فاليريا لويزلي (1983) مؤلفة مكسيكية حائزة على عدة جوائز أدبية. ولدت في مكسيكو سيتي وترعرعت في كوريا الجنوبية وجنوب أفريقيا والهند. وقد تُرجمت أعمالها إلى أكثر من عشرين لغة عالمية.
بعد حصولها على إجازة في الفلسفة من الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك، انتقلت لويزلي إلى نيويورك سيتي حيث أتمت دراسة الأدب المقارن في جامعة كولومبيا ونالت شهادة الدكتوراة. تعمل حاليا في تدريس الأدب والكتابة الإبداعية في جامعة هوفسترا في نيويورك.
تبرع فاليريا لويزلي في الأعمال الواقعية والقصص الخيالية على حدٍّ سواء، كما أنها تعتبر أحد أكثر الأصوات المكسيكية الشابة المثيرة للجدل. من أعمالها ” وجوه في الزحام”، ” أرصفة “، ” قصة أسناني “، ” أخبرني كيف تكون النهاية” ومؤخرا ” أرشيف الأطفال المفقودين “.
حازت على جائزتين من جوائز لوس آنجلس تايمز للكتاب، بالإضافة إلى جائزة الكتاب الأميركي. وقد رُشِّحت مرتين لجائزة الدائرة الوطنية لنقاد الكتب دائرة نقاد الكتب الوطنية، وجائزة مراجعات كيركوس لأفضل الكتب الأدبية.

***
مقتطفات من رواية ” وجوه في الزحام ” الصادرة عن دار المدى في أواخر عام 2018:

 

حذارِ! إذا ما لعبتَ مع الأشّباح أن تغدو واحدًا منهم.

مجهول، القبالة[1].

*

أيقظني الصّبي:

– هل تعلمينَ من أين يأتي البعوض يا أمي؟

– من أين؟

– من الدُّشّ. إنه يمكث في الداخل طيلة النهار، وحينما يهبطُ الليل يلسعنا.

*

بدأ الأمر برمّته في مدينة أخرى وفي حياة أخرى. لذلك لا يمكنني كتابة هذه القصّة على النحوِ الذي أريد. كما لو أنني لم أزل هناك، وما زلت الشخص الآخر وحسب. يصعب عليّ الحديث عن الشوارع والوجوه وكأنني أراها كل يوم. ليس بوسعي إيجاد الأزمنة المناسبة. كنتُ شابة، ولي ساقان قويّتان ممشوقتان.

(كان بودّي أن أبدأ بالطريقة التي انتهى بها كتاب همينغواي “وليمة متنقلة”).

*
في تلك المدينة عشتُ وحيدة في شقّة خاوية تقريبًا. أصيبُ من النوم أقلّه ومن الطعام أردؤه، دونما كثير تنويع. عشتُ حياة روتينية بسيطة. كنتُ أعملُ قارئة ومترجمة في دار نشرٍ صغيرة مكرّسة  لحماية ” الجواهر الأجنبية”. ومع ذلك، لا أحد يشتريها، لأن الترجمة في ثقافة انعزالية كهذه تُعامَل بنوعٍ من الارتياب. لكنني أحببتُ عملي، وأعتقدُ أني لفترة من الزمن قمتُ به على أتمّ وجه. كنتُ في أيام الثلاثاء والجمعة أقوم بعمليات بحث في المكتبات، أما الجزء الأول من الأسبوع كان مخصّصًا للمكتب. كان مكانًا لطيفًا مريحًا، والأكثر من ذلك، كان مسموحًا لي بالتدخين. في كل يوم إثنين، أصل باكرًا، مفعمة بالحماس، حاملة كوبًا ورقيًا مملوءًا بالقهوة. ألقي تحية الصباح على السكرتير ميني، ومن ثمّ على رئيس التحرير، والذي كان المحرّر الوحيد ولذلك هو الرئيس. اسمه وايت. كنتُ أجلسُ إلى مكتبي، ألفُّ سيجارة تبغ فيرجينيا، وأعملُ حتى وقتٍ متأخرٍ من الليل.      
*

يعيش في هذا البيت راشدان، وطفلة رضيعة، وصبيٌّ صغير. ندعوه الآن بالصبي، إذ أنه وإن كان أكبر من شقيقته، فهو يصرُّ بأنه على الأرجح ليس كبيرًا بعد. وهو محقُّ. إذ أنه أكبر، لكنه ما زال صغيرًا؛ فهو ليس بالصّبي الكبير ولا بالصغير. لذلك هو الصّبي وحسب.
قبل أيام قليلة داسَ زوجي على ديناصور وهو يهبط الدرج، وحلّت الكارثة. دموع، وصراخ: لقد تهشّم الديناصور ولا يمكن إصلاحه. الآن انقرض ديناصوري الـ (تي.ريكس) بالفعل، نشجَ الصبي. في بعض الأحيان نبدو وكأننا غوليفران[2] مرتابان، نسيرُ على رؤوس أصابعنا دومًا كيلا نوقظ أحدًا ما، ولئلا ندوس على أي شيء مهم وهشّ.

*
في الشتاء كانت تهبّ العواصف. لكني كنتُ أرتدي التنانير القصيرة لأنني كنتُ شابة. كنتُ أكتب رسائل لمعارفي أخبرهم بها عن جولاتي، واصفةً لهم ساقيّ المعصوبتين بجوارب رمادية طويلة، وجسدي الملفوف بمعطف أحمر ذي جيوب عميقة. كتبتُ رسائل عن الريح الباردة التي داعبت تينك الساقين، مُشبِّهة الهواء المتجمّد بخشونة ذقن محلوقة على نحو رديء، وكأنّ الهواء البارد والساقين الرماديتين مادة أدبية تقطع الشوارع. عندما يحيا المرء شطرًا طويلا من الزمن بمفرده، فإن الطريقة الوحيدة لإثبات أنه لم يزل حيًّا هي التعبير عن النشاطات التي يزاولها والأشياء بتراكيب نحوية يَسهُل مشاركتها: هذا الوجه، هذه العِظام التي تمشي، هذا الفم، هذه اليد التي تكتب.

والآن أكتبُ في الليل، عندما يكون الطفلان نائمين، ومن المقبول التدخين والشّرب، والسّماح للتيار الهوائي بالدخول. كنتُ فيما مضى أكتبُ كل الوقت، في أي ساعة، لأن جسدي كان يخصّني. كانت ساقاي طويلتين قويّتين نحيفتين. وكان من الصواب أن أمنحهما: لأيّ كان، للكتابة.

*
في تلك الشقّة كان خمس قطع من الأثاث فقط: سرير، وطاولة مطبخ، وخزانة كتب، ومنضدة، وكرسيّ. في الواقع، جاءت المنضدة والكرسي وخزانة المكتب في وقت لاحق. عندما انتقلتُ وجدتُ فقط سريرا وطاولة ألمنيوم قابلة للطيّ. وكان هناك حوض استحمام أيضًا. لكني لا أعرف ما إذا كان ذلكَ يُعدُّ أثاثًا. شيئًا فشيئًا بدأ المكان يمتلئ، وإن بالأشياء المؤقتة دومًا. كانت الكتبُ الآتية من المكتبات تمضي أيام العطل في كومة عالية بجوار السرير لتختفي في يوم الإثنين التالي، حينما آخذها إلى المكتب لكتابة تقارير عنها.    
*
روايةٌ صامتةٌ لئلّا توقظ الولدين.

*
في بعض الأحيان كنتُ أشتري نبيذًا، وإن كانت القنّينة لا تدوم أكثر من جلسة واحدة. بينما كان الخبز، والخسّ، والجبن، والويسكي، والقهوة، بهذا الترتيب، كانت تدوم وقتًا أطول. وكان الزيت وصلصة الصويا يدومان وقتًا أكثر من تلك الخمسة مجتمعة. لكن الأقلام والقداحات، على سبيل المثال، كانت تروح وتجيء مثل المراهقين المتعنّتين العازمينَ على إبانةِ استقلاليّتهم الكاملة. لقد عرفتُ بأنها لم تكن بالفكرة الصائبة أبدًا أن أضع أدنى ثقة في الأغراض المنزلية؛ فما إن نألَف الحضورَ الصّامت للأشياء، حتى تتحطّم أو تختفي. وكذا اتّسمتْ علاقاتي بالناس من حولي بهذين النمّطين من الزّوال السّريع؛ التصدّع أو الأفول.
كلّ ما تبقى من تلك الفترة هو أصداء بعض المحادثات، وحفنة من الأفكار المكرورة، وقصائد أحببتها وقرأتها مرارًا وتكرارًا إلى أن حفظتها عن ظهر قلب. أي شيء آخر هو تفصيل لاحق. ليس من الممكن لذكرياتي عن تلك الحياة أن تمتلكَ مزيدًا من الجوهر. إنها تلك السّقالات والهياكل والبيوت الخاوية. 

*
في هذا المنزل الكبير ليس لديّ مكان أكتبُ فيه. فعلى منضدة عملي حفّاضات، وسيارات لعب، وألعاب متحوّلة، وصدائر أطفال، وخشخيشات، وأشياء ما زلت غير قادرة على تَبيّنها. قطع مُنمنمة تحتلُّ المكانَ بأسره. عبرتُ غرفة المعيشة، ثم جلستُ على الأريكة والحاسوب في حجري. جاء الصبي:

ماذا تفعلين ماما؟

أكتب.
تكتبين كتابًا ماما؟

أكتب فحسب.

*
تحتاجُ الروايات نَفَسًا ثابتًا مستدامًا. هذا ما يحتاجه الروائيون. لا أحد يعلم معنى هذا بالضبط إلا أن الجميع يقول: نَفَسًا ثابتًا. عندي طفلة رضيعة وصبي صغير. وهما لا يدعان لي مجالًا للتنفّس. كل شيء أكتبه – يجب أن يكون – على دفعات قصيرة سريعة. وأنا نَفَسي قصير.

للقصّة روايات مختلفة. أما الرواية التي كنت أميل إليها فهي التي قصّها عليّ وايت عندما عمِلنا لوقتٍ متأخر في المكتب واضطررنا حينها لانتظار القطار زهاء ساعة. واقفين على الرصيف، نصغي إلى الرعدة في صميم الأشياء بِفعلِ الوصول الوشيك لقطار متحرّك، روى لي أنه ذات يوم، في هاتيك المحطة نفسها، كان الشاعر إزرا باوند قد رأى صديقه هينري غودييه برزيسكا[3]، الذي قُتِل في أحد الخنادق في بلدة نوفيل سان فاس الفرنسية قبل بضعة أشهر. كان باوند ينتظر على رصيف المحطة، متكئًا على عمود، في الوقت الذي توقف فيه القطار أخيرًا. فُتحت أبواب العربة ثم أبصرَ وجه صديقه باديًا بين وجوه الناس. وما هي إلا لحظات قليلة حتى اكتظّت العربة بوجوه أخرى، ليتوارى وجه برزيسكا في الزّحام. على أثر صدمته، عجز باوند عن الحركة بضع دقائق، إلى أن لانتْ ركبتاه أولا ثم جسده بالمجمل. وإذ كان متكأً بكامل ثقله على العمود، انزلقَ إلى الأسفل إلى أن شعر بملمس إسمنت الأرضية تحت عجيزته. أخرجَ مفكرته ثم شرع يكتب. وفي تلك الليلة ذاتها، في مطعم جنوب في المدينة، أتمّ قصيدة تربو على ثلاثمئة سطر. في اليوم التالي أعاد قراءة القصيدة ورأى أنها طويلة جدًّا. وهكذا، عادَ كلّ يوم إلى المحطة ذاتها، إلى العمود نفسه، لكي يشذّب القصيدة، ويختصرها، ويبترها. كان يجب أن تكون مقتضبة تمامًا مثل ظهور صديقه المتوفى، مذهلة مروّعة كمثل ذاك الحضور. بعد شهرٍ من العمل، وبعد إزالة كل ما هو غير جوهري، نجا فقط سطران مؤثران، يشبّه فيهما الوجوه في الزّحام ببتلات الزّهر على غصنٍ نَديٍّ أسود.

*
ارتحلْ عن حياةٍ تحياها. انسف كلّ شيء. لا، ليس كلّ شيء: انسف حيّز المتر المربع الذي تَشغله بين الناس. أو من الأحسن أن تتركَ مقاعدَ خاوية على الطاولات التي تشاركتها حينًا مع الأصدقاء، ليس مجازًا، إنما حقيقة، تخلَّ عن كرسيّ، كن لأصدقائك فجوة، دع دائرة الصمت من حولك تتضخم وتمتلئ بالتخمينات. وما سيتفهمه قلّة من الأشخاص حينذاك هو أنك تهجرُ حياة لتبدأ حياة غيرها.

*
هكذا بدأت الحكاية: وقعَ الأمر برمّته في مدينة أخرى وفي حياة أخرى. كان ذلك في صيف سنة 1928. كنتُ أعملُ كاتبًا في القنصلية المكسيكية في نيويورك، أكتبُ تقارير رسمية عن سِعر الفول السّوداني المكسيكيّ في السّوق الأميركية، التي كانت على وشك الانهيار. مرّ ما يقرب من خمسة وعشرين سنة منذ ذلك الحين، لا يمكنني كتابة هذه القصة، وحتى إن رغبتُ، كما لو أنني لم أزل أعيش هناك، كما لو أنني ذلك الشّاب النحيف، المتّقد حماسًا، الذي يترجمُ ديكنسون وويليامز، متأزِّرًا بثوب حمّام رماديّ اللون.

(كان بودّي أن أبدأ بالطريقة التي يبدأ بها كتاب سكوت فيتزجيرالد ” ذَا كراك أب – الانهيار”[4] )   
*
رواية أفقية، تُروى عموديًا. رواية ينبغي أن تُروى من الخارج لكي تُقرأ من الدّاخل.
*
فيلادلفيا تتداعى. وكذلك هذه الشقة. كثيرٌ من الأشياء، وكثيرٌ من الأصوات. يوجد ثلاث قطط ظهرتْ بغتة ذات يوم. ظهرَ شبحٌ أيضًا، أو عدة أشباح. لا أستطيع رؤية الأشباح، ولا يمكنني حتى إبصار القطط بوضوح، لكنهم يشكّلون مزيدًا من العقبات للاصطدام بها يوميًا في عالمي المقتصر على الظّلال البيضاء؛ شأنها شأن منضدة الكتابة، وكرسي الاستلقاء الذي أقرأ عليه، والأبواب المواربة.

لم يكن عمايَ بالطبع فوريًّا، ولا هو كذلك ظهور كل هؤلاء المستأجرين الجدد. لكن في اليوم الذي بدأت تَفِدُ فيه تلك الأشياء: فقدان البصر، القطط، الأشباح، قطع الأثاث، وعشرات الكتب التي لم أشترها، وطبعًا، فيما بعد، الذباب والصراصير؛ علمتُ بأنها بداية النهاية. ليست نهايتي أنا، إنما نهاية كائن ارتبطتُ به ارتباطًا وثيقًا وسيتخلى عني عمّا قريب.
إذا كان من الممكن مقارنة العينين ببركة عاكسة، فإن عقوبة فقدان البصر الدائم سوف تَسّاقطُ عليهما مثل شلاّل غزير. العمى، كمثلِ العقاب والشّلال، يأتي من علٍ، بلا أيّ معنى أو سببٍ صريح؛ ويُتقبّل به التقبّل الخاضع المستكين لكتلةٍ مائيّة محصورة في بركة، تتغذّى من نفسها على الدّوام. عمايَ بالأبيض والأسود، ولديَّ شلالات نياجارا حقيقية فوق حاجبيّ.

*
يُخيّلُ إلي أن الفارق بين أن تكون شابًّا وأن تكون متقدما في العمر هو مَدى مجازفتنا في علاقتنا مع الموت. في شبابي، كان ازدرائي للحياة لدرجة أني كنت أتخيّل باستمرار ميتات أكثر تطرّفًا من أي وقت مضى. إنه “قانون سودّ” الذي يمثل حالتي الآن، إذ فضّلتُ مجرد البقاء حيًّا، وقضاء الوقت مع أولادي، فأنا أعاني من موتٍ بطيء مُضجرٍ مُهين، والذنبُ ذنبي وما جناهُ عليّ أحد. كانت ميتاتي في مانهاتن سريعة وناجمة عن أسباب خارجية: قطار أنفاق شقَّ جمجمتي؛ رجل أغمدَ سِكّينًا في صدري عندما كنتُ مغادرًا الحانة؛ زائدتي الدودية انفجرت في منتصف الليل؛ سمحتُ لنفسي بالسّقوط على الأرض من الطابق العلوي لمبنىً في الحيّ الماليّ. ولكن الموت في فيلادلفيا يقتربُ مثل قطّة ملطخة بالوحل: إنها تفركُ مؤخرتها المتّسخة بقصبة ساقي، تلعقُ يديّ، تخرمشُ وجهي، تطلبُ مني طعامًا؛ وأُطعِمها.
*
الربّ والناس يخرجون تضامنًا مع الضحايا. ليس فقط أيّ ضحية، وإنما الضحايا الذين يجعلون من أنفسهم ضحية وبنجاح. زوجتي على سبيل المثال. عندما تطلّقنا حوّلت نفسها هذه الكريولا إلى شاعرة وضحية؛ نَبيّة الضحايا الشعراء المطلّقين.
منذ فترة قصيرة نشرتْ كتابًا صغيرًا يضمُّ قصائد نثرية بالغة المرارة، مُحرَّرة ذاتيًا وثنائية اللغة، مع ما يُسمّى دار نشرٍ تمتلكها مرشدتها، وهي شاعرة فرنسية أميركية تدير ورشة كتابة اسمها SDML (البنات الرّوحيات لِـمينا لوي[5]). لا أعتقد أن مينا لوي تعرف بأمرهن. كان لدى طليقتي من الفظاظة لدعوتي إلى حفل إصدار الكتاب المزمع إقامته في شقتها. أعرفُ أنه يجب عليّ إرضاؤها، لأني إذا لم أفعل فسوف لن تسمح لي بالاقتراب من الأولاد، لذلك ذهبتُ إلى نيويورك لرؤيتها من باب المجاملة.

فتحَ لي الباب أحد الخدم. سألتُ عن الولدين، فقيل أنهما نائمان. كانت الشقّة عابقة بخليط من العطورات وبروائح مساحيق التجميل والملابس المكوية حديثًا وبالهليون. قدّمَ لي كبير الخدم كأسًا من المارتيني، وإلى جانبه طبعًا طبقًا من الهليون المسلوق. قد يخونني بصري، إلا أنني ما زلت كلبَ صيد حينما يتعلق الأمر بِتشمّم عصبةً من السّاحرات يجتمعنَ حول مَرارتهنّ وطبقٍ من المشهيّات باهظ الثمن. علّقتُ سترتي بالقرب من الباب، وسطَ حقائب اليد والمعاطف النسائية من كل قياس وقماش؛ اكتفيتُ بقبول المارتيني وسلكتُ طريقي إلى الصالون.

لا يمكنني رؤية هؤلاء النساء جيّدًا، لكن من الجلبة والرائحة النتنة المنبعثة لا بد وأنه يوجد ما يزيد عن العشرين، أو الثلاثين منهن، يتحلّقن في دوائر شبه مركزية حول طليقتي ومتحدثتين أُخريين؛ ساحرات ماكبث الثلاث، ولكن أكثر فظاظة وأشدّ حنقًا على الحياة. وإذ أنا واقف قبالة الغرفة، انكمشت خصيتاي فجأة. حبتّان من الفول السوداني. أو ربما اختفتا تمامًا. وقفتُ مذعورًا خلف الصف الأخير من الكراسي، قريبًا قدر المستطاع من كبير الخدم.
قرأتْ طليقتي بلهجتها البوغوتية[6] العالمية. المرأة البائسة لديها صوت بشع للغاية، فهي تئنُّ في لفظِ الحروف الحلقية الساكنة، وتمطُّ الأحرف الصوتية المفتوحة، وتزقزقُ كلما تلفّظتْ بضمير الأنا مثل آلة سيئة الضبط. ألقتْ قصيدة عن الفائدة العملية للأزواج. كان فمها يعوجُّ دائمًا إلى الأسفل بعض الشيء كلما قرأت بصوت عالٍ، وكذلك عندما كانت تعاتبني على قائمة أخطائي التي لا حصرَ لها ولا عدّ. تخيّلتُ الكشرة السّاخرة، وكيف غدت الآن أكثر بروزًا بفعل التجاعيد وترهلات الجلد الشائخ. من حينٍ لآخر كانت تندلع من المدعوات رشقات من الضحك كما الضِّباع. من المحتمل أنهن عند انتهاء مراسم الاحتفال سوف يجردنني من ثيابي، ويوثقنَ يديَ وقدميَ، ثم سيرفعن أجفاني ويملأن عينيَ بالبصاق. وسوف يقضينَ حاجتهن عليّ؛ بأمعاء محتبسة منذ سنوات.

انتهت من قراءة القصيدة وضجّ المكان بنشوة التصفيق. مددتُ يدي لأرى ما إذا كان الخادم لم يزل بجانبي. وكان هنالك. وضعتُ ذراعي حول كتفه:

– لا تتركني يا أخي، ابقَ هنا قريبًا مني.

– سأمكث هنا يا سيدي، لن أتزحزح!

ألقتْ قصيدة أخرى، وأخرى. حين فرغت من القصيدة الأخيرة، المُهداة إلى مينا لوي بكل عجرفة وصلافة، هبّت النسوة واقفات وانهمكنَ في تصفيق حار. واحتكّت الكراسي بالأرضية. (من أين لها بكلّ هذه الكراسي؟) طليقتي، عنكبوت في منتصف شبكتها، تحدّق بي من الركن المقابل في الصالة. لقد شعرتُ بتحديقتها. أنا ذبابة صغيرة عالقة في عالمها اللزج. أزاحَ كبير الخدم ذراعي لكي يلبّي طلبات السيدات؛ وَثبُتُ في مكاني، غير عارف أين أضع يدي الفارغة، والأخرى التي تحمل المارتيني بدأت ترتجفُ الآن قليلاً.
شرعت البوغوتية الدولية في الحديث: عن الشِّعر، وانحلال الهوية، وعن الحياة في المنفى، وإلى ما هنالك من كليشيهات كريولية جمّة. ثمّ توقفتْ، واختتمت بالقول: أنا ممتنّة لحضور زوجي السابق، شاعرٌ وإن كان مغمورًا جورًا وإجحافًا إلا أنه مقتدر إلى حدٍّ بعيد. فالتفّتْ الرؤوس الصغيرة باتجاهي. ماذا تعني بكلمة ” مقتدر”؟ شعرتُ بحاجة ملحّة للتبول. عشرات من الخطوم المطليّة ابتسمتْ. ما زال بإمكاني تمييز الأبيض من الأسود ومعرفة بأنهن يبتسمن لأن الغرفة المظلمة أضاءت فجأة مثلَ سماءٍ مكتظة بأسنان لامعة.
اهتزّت الزيتونة في كأسي. أعضائي في بذلتي وَجَفتْ. الوجوه النّاظرة إليّ انتفضت؛ والمدينة في الخارج ارتجّتْ: ضخُّ الدم المطّرِد، حُميَّا الإذلال. خِطاب! خِطاب! تمنيتُ الموت العاجل، إلى أن نطقتُ:

– أتيتُ لأنني دُعيتُ.
(صمت).
– أتيتُ لأني لطالما كنتُ مناصرًا لحقوق المرأة وبتفانٍ! عاشت مينا لوي! عاشت!
(صمت).
– في الحقيقة، لقد أتيتُ يا ماريا لأني أردتُ أن أطلب منكِ أن تقرضينني بضعة دولارات كي أصطحب الأطفال إلى المعرض في عطلة نهاية الأسبوع القادم.
(صمت). 
*
بدأتُ أشكُّ أني خلال ذلك الصيف من عام 1928 قد أبرمت ميثاقًا فاوستيًّا مع الشيطان. لا أتذكر أني فعلت ذلك، بالطبع، ولا آمنتُ حقًّا بالشيطان، أو غوته، أو مارلو، ولا حتى بتوماس مان الذي ابتدع فاوستًا آخر قبل بضعة أعوام. ولكن لا بد أن شيئًا ما قد حدث خلال ميتاتي المتعاقبة، شيئا يعلّلُ حالة الرّجُل الأعمى ذو الثلاثة أرطال الذي أنا عليه الآن. وليس ذلك لأن الشيطان قد وهبني شيئًا بالمقابل، من أجل هذا لا يمكنني استيعاب مصيبة الأثداء الرجالية المتضخمة أو هذا الموت غير اللائق بالمرة.  

*
تنزّهتُ قليلًا جدًّا في تلك المدينة التي كان يتنزّه فيها الجميع. انطوتْ أيّامي وأنا منحنٍ فوق مكتبي البيروقراطي، أعِدُّ التقارير. ولكن ذاتَ أصيل، بينما كنتُ أتناولُ شطيرتي في المطبخ، قرأتُ مقالة إخبارية جعلتني في مزاج فكاهي مرح، فتركتُ كلّ شيء وخرجتُ إلى الشارع. كان زوجٌ شاب يسأل قاضي المحكمة المحلية في مدينة “نيوارك” أن يوافق على طلبه بالطلاق لأن خطيبته لم تُعلِمه حتّى ليلة الزفاف بأن لديها عوضًا عن ساقها اليمنى طرفًا صناعيًا خشبيًّا. وكان قد سرقَ السّاق المزيفة ليبرزها دليلًا أثناء استنطاقه، وقد رفعت هي دعوى قضائية بتهمة السرقة. توقّفَ المقال عند هذا الحدّ. كانت قصّة مثالية تستجدي نهاية، والتي كان من الممكن أن أكتبها تلك الليلة لولا قصّة أخرى صرفتْ انتباهي عنها بالكلّية.
غادرتُ القنصلية في مزاج اكتفاء ذاتي أدبي وسِرتُ عبر الأزقة الخلفية لجنوب المدينة، أَشبه بعض الشيء بشخصية إدغار آلان بو[7] التي تتعقّبُ الحشود دونما سبب واضح. عند أحد المنعطفات، رأيتُ امرأة. كانت واحدة من أولئك الإسكندنافيون الذين ما كانوا لينتموا إلى الطبقات العليا في الولايات المتحدة، ولكن من يبررونَ وجود كل تلك الكميات من النفط المنسكبة في البحر من عابرات المحيط الأطلسي، وكل تلك الأطنان من الإسمنت المصبوب في جزيرة مانهاتن الفقيرة، كل شطائر الهمبرغر المدهنة، كل دورات المياه، الصراصير، والمفردات المختصرة للقادمين الجدد الذين يطلبونَ بيض عيون للإفطار. أعتقد أن هذه هي المرة الثالثة التي أموتُ فيها.
لا بدّ وأن الأمر وقع بينما كنتُ أقطعُ الشارع باتجاه الزاوية حيثُ كانت تقف. أغلب الظنّ أن واحدًا من سائقي الأجرة المعتوهين قد دهسني. بعدئذٍ واصلتُ عبور الشارع ووقفتُ بجانب عمود الإنارة لألقي نظرة عن قرب. خطتْ عشر خطوات في اتجاه واحد، ثمّ استدارت، وخطتْ عشرًا في الاتجاه الآخر. مشتْ بخفّة، العَقِب ثم الأصابع. عشرًا في كل مرة. لديها قدمان نحيلتان، بِلون القشدة، مُتّزنتان على صندلٍ غامق اللون له رباطان ملفوفان حولَ كاحليها الأهيَفين، وينتهيان بعقدة أنشوطية في المنتصف أعلى ربلتي ساقيها. ساقٌ واحدة من تلكما السّاقين تساوي كل من في  المدينة، وربما العالم. لو أنّ تلك المرأة المسكينة البتراء، التي كانت متجهة إلى طلاقٍ مبكر، كانت تملكُ على الأقل واحدة من تلك السّاقين، لما تسرّب شعورٌ إلى قلب زوجها الشاب بأنه مغبون ولما طلبَ الطلاق. رحتُ إليها ووضعتُ يدي على كتفها. استدارت، ولم أعرف ماذا أقول- مع أني كذبتُ على فيلاروتشيا في الرسالة لاحقًا: ” إنها سويدية، وأنا لستُ مغرمًا بها، لكنني حظيتُ بها عذراء”.
والحقيقة هي أن إسيلين لم تكن عذراء ولا سويدية. ولأصوغها بصورة لبقة، كانت امرأة نرويجية مثابرة جدًّا. لكني هويتُ مثلَ صخرة. وقعتُ في غرامها مثلما قد يُفتتنُ حجرٌ بِعُصفور. عصرَ ذلك اليوم، أخذتْ بيدي وقادتني إلى غرفة في فندق بَوَري، وحظيتْ بي بتولًا. ولقد توقفتُ عن كوني،  مثلما اعتادوا القول آنذاك، البتول التّعِس، وشعرتُ بكلّ ما فيّ، بِطولي البالغ 145 سنتمترًا، كَرجل حقيقي.
*
ربما آخر ما يفقده الرجل هو عنفوانه. لاحقًا، عندما يكون عنفوانه قد غَربَ أيضًا، يُمسي الرجل مستودعًا للعظام والاستياء. في وقتٍ آخر، كنتُ شخصًا مفعمًا بالنشاط والعنفوان، قادرًا على جذبِ المومس النرويجية من يدها والركضِ على طول شارع هارلم، والصّعود بها إلى سطح منزلي، وسحبِ تنّورتها. إسيلين أيضًا ينبغي أن تُرى من الأسّفل. في بعض الأحيان، أطلب منها الوقوف فوق السّرير وأنا أتمددُ تحتها، هكذا فقط أُملّي النظر.

———

[1]  القبالة أو القبلانية: هي معتقدات وشروحات روحانية فلسفية تفسر الحياة والكون والربانيات. بدأت عند اليهود كشكل بدائي للباطنية اليهودية.

[2]  إشارة إلى كتاب ” رحلات غوليفر” أشهر أعمال الكاتب الإنكليزي جوناثان سويفت، والذي يحكي قصة العملاق غوليفر في أرض الأقزام.

 [3]  هينري غودييه برزيسكا (1891-1915) : فنان ونحّات فرنسي.
 

[4]  الانهيار (1945) : كتاب يضمّ مجموعة من المقالات بقلم الكاتب الأميركي سكوت فيتزجيرالد، وقد جمعها وحررها إدموند ولسن عام 1940 بعد وفاة فيتزجيرالد بفترة وجيزة. تبدأ المقالة الرئيسة كالتالي: ” بالطبع، كلّ الحياة عبارة عن عملية تدهور وانهيار”..

[5]  مينا لوي ( 1882- 1966) : رسامة وكاتبة وشاعرة وكاتبة مسرحيات وروائية ونسوية بريطانية. كانت من رواد الدادئية والسريالية والحركة المستقبلية (حركة فنية نشأت في إيطاليا أوائل القرن العشرين).

[6]  بوغوتا Bogota عاصمة كولومبيا.

[7]  إشارة إلى القصة القصيرة “رجل الحُشود ” للكاتب الأميركي إدغار آلان بو(1809-1849) حول راوٍ بلا اسم يلاحقُ رجلاً في شوارع لندن المحتشدة. يقودُ هذا الرجل الراوي، من الليل إلى الضحى، عبر الأسواق والدكاكين لا يشتري شيئًا، ثم إلى أفقر أحياء المدينة، ويعود به إلى قلب المدينة. يستنتج الراوي أخيرًا أن هذا الرجل -الذي لم يلاحظه- هو نموذج عبقري للإجرام الكامن، بسبب غموضه وعدم قدرته على ترك الحشود. نشرت القصة للمرة الأولى عام 1840.

________________________

خاص بأوكسجين

 

 


فاليريا لويزلي (1983) روائية مكسيكية حائزة على عدة جوائز أدبية. ولدت في مكسيكو سيتي وترعرعت في كوريا الجنوبية وجنوب أفريقيا والهند. وقد تُرجمت أعمالها إلى أكثر من عشرين لغة عالمية.rnبعد حصولها على إجازة في الفلسفة من الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك، انتقلت لويزلي إلى نيويورك سيتي حيث أتمت دراسة الأدب المقارن في جامعة كولومبيا ونالت شهادة الدكتوراة. تعمل حاليا في تدريس الأدب والكتابة الإبداعية في جامعة هوفسترا في نيويورك.rnتبرع فاليريا لويزلي في الأعمال الواقعية والقصص الخيالية على حدٍّ سواء، كما أنها تعتبر أحد أكثر الأصوات المكسيكية الشابة المثيرة للجدل. من أعمالها " وجوه في الزحام"" (صدرت ترجمتها العربية عن دار المدى بترجمة عبير عبدالواحد)، "" أرصفة ""، "" قصة أسناني ""، "" أخبرني كيف تكون النهاية"" ومؤخرا "" أرشيف الأطفال المفقودين "".rnحازت على جائزتين من جوائز لوس آنجلس تايمز للكتاب، بالإضافة إلى جائزة الكتاب الأميركي. وقد رُشِّحت مرتين لجائزة الدائرة الوطنية لنقاد الكتب دائرة نقاد الكتب الوطنية، وجائزة مراجعات كيركوس لأفضل الكتب الأدبية."

مساهمات أخرى للكاتب/ة: