من رواية شاغي باين
العدد 262 | 04 كانون الأول 2020
دوغلاس ستيوارت


 

كان يوماً بلا طعم. تخلى عنه عقله في ذلك الصباح وترك جسده يتجول وحيداً في الدرك الأسفل. مضى الجسد الخالي يعيش روتينه اليومي بلا حياة مرتدياً وجهاً شاحباً وعينين خاويتين تحت أضواء الشريط المتلألئ، أما الروح فكانت تطفو فوق الممرات، ولا تفكر إلا في الغد… كان الغد يوماً منتظراً.

 

كان شاغي منهجياً في طريقة التحضير لورديته. كل أوعية الغموس الزيتية والكريمية وُضعت في صوانٍ نظيفة. والحواف نُظّفت ومُسحت حتى لم يبقَ فيها أي بقعة أو لطخة من شأنها أن تتحول بسرعة إلى اللون البني وتفسد وهم النضارة المتعوب عليه. شرائح لحم الخنزير رُتبت ببراعة ونُثرت عليها أضلاع البقدونس الصناعي، وحبات الزيتون قد قُلبت بحيث تسيل عصارتها، التي تحسبها بلغماً، فوق قشرتها الخضراء.

 

كانت آن مكغي وقحة بما يكفي لتدّعي المرض مرة أخرى ذلك الصباح وتضعه أمام تلك المهمة البغيضة التي تتطلب منه الاهتمام بقسم المأكولات الجاهزة وقسم الشواء وحيداً بلا معين. ما من يوم يبشّر بالخير عندما يبدأ بصحبة ست دستات من الدجاج النيء، واليوم من بين كل الأيام، كانت تلك الدجاجات تسرق حلاوة أحلام يقظته.

 

أقحم الأسياخ المعدنية في الطيور الميتة الباردة ورتبها بعناية في صف واحد. مكثت الذبائح هناك وأجنحتها القصيرة البدينة متصالبة فوق صدورها المكتنزة وكأنها مجموعة من الأطفال مقطوعي الرؤوس. كان لهذا التنسيق أن يشعره بالفخر في وقت مضى. في الواقع، إقحام المعدن داخل ذلك اللحم الوردي المرتج كان الجزء السهل من المهمة… فالجزء الصعب كان مقاومة الرغبة الملحة في فعل الأمر نفسه بالزبائن. كنت تراهم يتأملون في الزجاج الساخن ويمحّصون في تفاصيل كل جثة من جثث الطيور، ويختارون الطير الأفضل فقط، غافلين عن حقيقة أنها قد أتت جميعها من مزرعة التفريخ نفسها، ولا فرق يُذكر بين طير وآخر. كان شاغي واقفاً هناك، أسنانه تطحن باطن خده، ويساير ترددهم بابتسامة مصطنعة. بعد ذلك تبدأ تلك المسرحية الإيمائية الممجوجة بالفعل… “أعطني ثلاثة صدور، وخمسة أفخاذ، وجناحاً واحداً فقط اليوم يا بني.”

 

 

كان يصلي متوسلاً القوة. لماذا ما عاد أحد يريد دجاجة كاملة أبداً؟ كان يرفع الذبائح باستخدام شوكة طويلة متوخياً الحذر كي لا يلمس الطيور بيديه المكسوتين بقفازين. ومن ثم يفصل بين أجزائها ببراعة وحنكة (تاركاً الجلد الذي يغطيها سليماً كما هو) بمقصات الطبخ. شعر كالأحمق وهو واقف هناك مقابل أضواء الشواية، وجمجمته تتصبب عرقاً تحت شبكة الشعر التي تغطي رأسه. لم تكن يداه قويتين بما يكفي ليقطّع ظهر الدجاجة بالأنصال الكليلة. انحنى قليلاً مستدعياً عضلات ظهره إلى مؤازرة الضغط في معصميه، وظل يبتسم طوال الوقت.

 

أما في حال صادفه حظ سيء فعلاً، فقد كانت الكلابات تنزلق وتسقط الدجاجة مرتطمة بالأرض المبرغلة المتسخة. كان عليه حينها أن يتظاهر بالأسف والاعتذار والبدء بالعملية من أولها، لكنه ما كان ليبدد الذبيحة المتسخة. عندما كانت النساء يستدرن مبتعدات يضعها من جديد إلى جانب أخواتها تحت الأضواء الصفراء الساخنة. لم يكن من أولئك الذين لا يهتمون بالنظافة، لكن تلك الانتصارات الصغيرة كانت تكبح جماح رغبته في الانفجار وإثارة فوضى عارمة. معظم ربات المنزل المسترجلات الميالات إلى الانتقاد اللواتي يتسوقن هناك كن يستحققن ذلك وأكثر. طريقة احتقارهن له كانت تجعل مؤخرة عنقه تكتسي باللون القرمزي. في تلك الأيام العصيبة بشكل استثنائي كان يفرغ كل ما يخرجه جسده من إفرازات وسوائل في طبق التاراماسلاتا. وقد باع كمية مهوله من طبق الخراء البرجوازي ذاك.

 

مضى على عمله في كيلفيزرز أكثر من عام. لم يكن من المخطط له أبداً أن يطول الأمر إلى هذا الحد. لم يدفعه إلى العمل هنا سوى تأمين ما يكفيه من نقود ليسد رمقه ويؤمن احتياجاته كل أسبوع، والعمل في ذلك المتجر كان خياره الوحيد، فلم يتمكن من العثور على أي عمل آخر. كان السيد كيلفيزر وغداً بخيلاً يحب أن يملأ متجره بكل من هب ودب شرط ألا يضطر إلى دفع الأجر الكامل المتعارف عليه للبالغين، ووجد شاغي نفسه قادراً على العمل في ورديات قصيرة تلائم حصص تدريبه غير المنتظمة. في أحلامه، كان ينوي المضي قدماً لتحقيق هدفه. لطالما أحب أن يسرّح الشعر ويلهو به، كان ذلك بالفعل الشيء الوحيد الذي يساعده على احتمال الوقت. عندما بلغ السادسة عشر من عمره قطع وعداً على نفسه بأن يذهب إلى كليّة الحلاقة وتصفيف الشعر في جنوب نهر كلايد. حشد كل ما في حوزته من إلهام، وجمع الرسومات التي نسخها من دليل ليتلوودس، والصفحات التي انتزعها من مجلات الأحد، ومضى إلى كوردولاند لينظر في أمر تلك الحصص المسائية. عند موقف الباص الذي يقع أمام الكلية ترجّل بصحبة نصف دستة من أبناء الثمانية عشر عاماً. كانوا يرتدون أحدث الألبسة وأكثرها أناقة، ويتحدثون بثقة طنّانة يخفون وراءها توترهم. سار شاغي بنصف السرعة التي كانوا يسيرون بها. راقبهم وهم يتجهون إلى الباب الأمامي، ومن ثم عاد أدراجه ليعبر الشارع من جديد ويستقل الحافلة العائدة لتحمله من حيث أتى. بدأ العمل في كيلفيزرز بعد ذلك بأسبوع.

 

أمضى شاغي معظم استراحة الصباح مفتشاً في علب القصدير المتضررة في سلال التخفيضات. عثر على ثلاث علب صغيرة من لحم السلمون الاسكتلندي بالكاد كانت متضررة، كان اسم العلامة مخدوشاً ومتآكلاً قليلاً، لكن العلب بحد ذاتها كانت سليمة. بآخر ما تبقى من أجره دفع ثمن سلة مشترياته الصغيرة ووضع علب السمك في حقيبته المدرسية القديمة التي وضعها داخل خزانته وأقفل بابها. صعد السلّم إلى كافتيريا الموظفين وحاول أن ينظر بلا اكتراث أثناء مروره قرب الطاولة التي يجلس عليها طلبة الجامعة الذين يعملون في ورديات الصيف السهلة ويقضون استراحتهم في الغرور والتبجح محيطين أنفسهم بمجلدات سميكة من المخطوطات والمدونات. مضى مثبتاً نظرته على وسط المكان وجلس في الركن، ليس إلى جانب فتيات الصندوق، لكن قريباً بما يكفي إليهن. 

 

كانت فتيات الصندوق في الحقيقة ثلاث نساء في منتصف العمر من غلاسكو. إينا، رئيسة العصابة، كانت هزيلة كعصا، ولها وجه لا تُظهر ملامحه ما تُبطن صاحبته وشعر دهني. لم يكن لديها حاجبان يُذكران، لكن كنت ترى شارباً خفيفاً يرتسم على شفتها العليا، وهو ما بدا أمراً مجحفاً لشاغي. إينا كانت فظة حتى بالنسبة إلى شعب هذا الطرف من غلاسكو، لكنها في الوقت نفسه كانت لطيفة وكريمة مع أولئك الذين ما كان أحد يلتفت إليهم ببادرة لطيفة إلا لماماً. نورا، الأصغر بين الثلاث، كانت تتميز بشعر مسحوب بأجمعه إلى الخلف ومثبت في مكانه برباط مطاطي. عيناها، مثل عينَي إينا، كانتا صغيرتين وحادتين، وفي عمر الثلاث وثلاثين كانت أماً لخمسة. والأخيرة بين المجموعة كانت جاكي. جاكي كانت مختلفة عن الأخريين، فقد كانت أقرب ما تكون إلى امرأة. كانت ثرثارة مشاغبة لها ثديان هائلان تحسبهما أريكة يمكنك أن تجلس عليها. كانت هي من يفضلها شاغي بينهن.

 

جلس بالقرب منهن واستطاع أن يلتقط نهاية القصة الملحمية التي كانت جاكي ترويها عن أحدث حبيب في سلسلة عشاقها. مع أولئك النساء الثلاث تضمن دائماً أن تحظى بثرثرة لا تنتهي، لكن ثرثرتهن كانت نابعة دوماً عن حسن نية. كن قد اصطحبنه معهن مرتين حتى الآن إلى ليالي لعب البانغو، وما إن لعب الكأس في رؤوسهن وبدأن بالضحك والزعيق، جلس بينهن كمراهق لا يؤتمن على البقاء وحيداً في المنزل. أعجبته الطريقة التي جلسوا بها بأريحية معاً. أعجبه أن يكون محاطاً بأجسادهن ومحتكاً بطراوة لحمهن. أعجبه كيف انصهرن به، وبالرغم من أنه اعترض، فقد أحب كيف كن يزحن شعره عندما ينسدل على عينيه، ويلعقن إبهامهن ليمسحن زوايا فمه مما علق بها. بالنسبة لهنّ كان شاغي يجسّد شكلاً من أشكال الاهتمام الذكوري، ولم يعنيهن أنه لم يكن سوى فتى في عمر الستة عشر وثلاثة أشهر. وتحت طاولات البينغو في لاسكالا حاولت كل منهن، مرة واحدة على الأقل، أن تدعك له أيره. تلك الدعكات كانت تستمر لوقت أطول، وتبدو أكثر إمعاناً في بحثها عما تنشده، من أن تكون قد حدثت بالصدفة. بالنسبة لإينا معدومة الحاجبين كان الأمر قد أصبح أشبه بحملة تشنها على أيره. وكلما ازدادت ثملاً وغرقاً في الشرب، كلما أصبحت أكثر فسقاً وفجوراً. ومع انقضاء كل دعكة من أصابعها المليئة بالخواتم، تحشر لسانها المكتنز بين أسنانها، وتثبت عينيها المستعرتين على طرف وجهه. وعندما لم يعد شاغي يحتمل كل هذا الإحراج واحترقت أعصابه في النهاية، تراجعت وأحجمت عما كانت تفعله، وما كان من جاكي إلا أن دفعت بورقتين نقديتين عبر الطاولة إلى نورا المتوهجة بنصرها. كانت خيبة أمل، لا جدال في ذلك، لكن مع تناولهن المزيد من كؤوس الشراب قررن أن الأمر لم يكن رفضاً كاملاً. كان الفتى يعاني من خلل ما، وهذا ما منحهن بعض التعزية باستبدال شعور الرفض الذي قوبلن به بالشفقة عليه.

 

جلس شاغي في الظلام يستمع إلى أصوات الشخير المتقطعة التي ترده عبر جدران السكن المشترك الذي يقطنه. كان يحاول، ويفشل في أن يتجاهل الرجال الوحيدين الذين لم يكن لديهم أحد يلجأون إليه. برد الصباح الشديد جعل فخذيه العاريتين تصطبغان بلون أزرق مبقّع، فما كان منه إلا أن دثّر نفسه بمنشفة رقيقة طلباً للدفء وجلس يلوكها بعصبية في الركن شاعراً بصوت صريرها بين أسنانه يهدئ روعه قليلاً. رتّب الأجور الأخيرة التي حصل عليها من المتجر على طول حرف الطاولة. رتب القطع النقدية المعدنية، أولاً حسب القيمة، ومن ثم حسب الصكّة واللمعان.

 

الرجل صاحب الوجه الوردي في الغرفة المجاورة أصدر صريراً ينبئ بعودته إلى الحياة. في سريره الضيق حك جسده بصخب وتنهد بصلاة يتوسل بها القدرة على النهوض. ضربت قدماه الأرض بصوت مكتوم يستحضر في الذهن صوت أكياس ثقيلة محشوة باللحم ترتطم بالأرض، وبدا كأنه يجرجر نفسه بمشقة ليخرج من غرفته الصغيرة إلى الممر. تحسس الأقفال المألوفة لديه وخرج إلى الردهة الموسومة بظلام دائم يتلمس طريقه من دون أن يرى شيئاً، ويده تنزلق على طول الجدار ليسقط أمام باب غرفة شاغي. حبس الفتى أنفاسه بينما الأصابع تتلمس زخرفات الخشب. وفقط عندما سمع طقطقة سلك مصباح الحمّام تمكّن من التحرك من جديد. بدأ الرجل بالسعال وتنسمت رئتاه الحياة مرة أخرى. حاول شاغي أن يتفادى سماع صوت الرجل وهو يتبول في المرحاض، ويبصق فيه كتلاً من البلغم الذي يملأ صدره.

 

———————
فازت الرواية بجائزة بوكر العالمية لعام 2020

 

 

*****

خاص بأوكسجين


روائي ومصمم أزياء استكلندي/أميركي . "شاغي باين"" هي أول رواية تصدر له وقد فازت بجائزة بوكر العالمية لعام 2020"