من رواية “سكَّر الهلوسة”
العدد 279 | 22 أيلول 2023
علي عبدالله سعيد


وقبل خوض غمار قراءة ما يلي فإن عليكم أولاً معرفة  أنه مقتطف وجيز من الفصل الأول من رواية “سكّر الهلوسة” الصادرة أخيراً عن محترف أوكسجين للنشر:

هارباً من الجحيم اليومي. على الباب الخارجي أقدّم سيجارة للحارس المعتوه، يقول لي: كلّ يوم تخوزقني بسيجارة وتهرب. في الهريبة القادمة عليك أن تخوزقني بعلبة كاملة… وإلا…

– حسناً…

قبل ذلك لم أكن التقيْت سلام الجزائري سوى مرّات قليلة. ولا مرّة منها كانت في غرفة النوم، أو فوق سرير الشهوات. هي إلى حدٍّ ما… بغلة متعالية ومغرورة، تمتلك إثارة فضائحيّة من ركبتيها إلى عينيها، إلى حدٍّ كانت تتجاهل فيه ترّهاتي اللغوية المبنيّة على اللعب. كما لو كنتُ لا أعني لها شيئاً يذكر. كانت وحيدة تحت حرِّ الظهيرة تنتظر حافلة النقل. لم تكن لديّ رغبة بانتظار حافلة النقل، إلا أنني فعلت. أقتَرِبُ من سلام. أحدِّق بعين حادّة وضيّقة. لم تتجاهلْني هذه المرّة، بل ارتبكتْ عينُها أمام عيني الحادة. أصافحها كامرأةٍ غريبة، أو كامرأة في البيت المجاور. ليس من السهل عليَّ أن أتعامل بحيادية مع ابتسامة سلام.

– إلى أين؟

– إلى البيت طبعاً

– ما رأيك بالمقهى بديلاً عن البيت؟

– دعني أفكّر

– التفكير ضرب من الهَبل في الظهيرة

– وفي الليل؟

– يكون بمنتهى الحكمة

– هيا إذاً!

– هيا!

في المقهى، بينما أُشعل لها سيجارة تقول لي سلام الجزائري: لا تسجنِّي في العْلاك والتنظير السياسيّ… أنا امرأة تريد أن تطيرَ في سماوات الكلام وغيره.

– حسناً هيا بنا نطير!

– إلى أين؟

– إلى بيتي

لم يكن الطيران مكلِفاً، هو فقط أن تفتح جناحيك ثم تفز كالأحمق، دون حسابات لأي مطبّات هوائية أو غير ذلك. أن تكون في البيت مع نبيذ دون ثياب، دون حراشف، دون ريش. ليس هناك ما هو أمتع من الطيران مع سلام الجزائري إلى سماوات سبع، حتى وأنت فوق سرير بعرض 1 × 2م طول.

ها هو البيت مع سلام الجزائري يذكرّكَ بالـ…

المجنونة…

النكرة…

المستبدّة…

الماكرة اللعينة، المرأة المكابِرة من الحطام الأزرق، أو الكامدة كالآجرّ القديم الغارق بالصدأ. التي تختلس صورها من على الجدار، من الحافظة السرّية، قبل أن تمضي في الليل والهلاك… إلى غير عودة.

في أوّل المساء البعيد ذاك…

حين أهدتْك صورها قالت: هذه أول صورة لي، آنذاك كنتُ في السادسة من عمري بقبعة من الريش والكحل. بأصابع هي من السكر. تتعثر بلسانها الورديّ. تقبّلك على شفتيك ثم تقول: أما هذه بعد أن تجاوزت العشرين… أي منذ أيام فقط. هل هي مثيرة لنزواتك المثارة دائماً؟ لدي صورة أخرى بلباس المراسم أبدو فيها أكثر جمالاً وإثارة… حينها كنتُ في إحدى فرق الكشّاف… كنت منى…

مناة… شبه منى

التي تراها اللحظة…/

يبدو أن صوتها تكسر، أو أخذ يتكسر في ردهات الليل والزمن الغريب، أو البسيط. ليس هناك من زمن معقّد، أو مركّب. التفاصيل مُعادة مُجترّة بعد التفاصيل، كتفاصيلَ نادرة تمتلك خصوصيةً خاصّة، غير مُعادة، أو غير مُجترّة.

من يدي…

هاتان اليدان اللتان سيأكلهما كائن التراب، أو عصافير الجنّة الأخيرة، التي سأدخلها طائعاً أو مكرهاً. أطلق سرب يمام بريّ صوب نوافذ بيتكَ النائي، القابع على نهاية الخط… كأنه الخراب في الخراب…/

كخائب وحيد يا سلام

أدرك معنى الخيبة

أو الهزيمة

الخيبة اللذيذة

المتوغّلة في أقاصي روحي

من يقطف ثمارها الحلوة

في أوّل العمر؟

الهزيمة التي أتت على ذاكرتي دون حزن… من يروّضها أخيراً؟

الهزيمة لا تحزن

ولا الحزن يحزن…/

الخيبة…/ لا تحزن أيضاً.

وأنا…/

كذلك…

مخادع في السراديب

في النص…

لم أكتب قصيدة ذات معنى في الظهيرة…

كذلك قلبي لا هدف له ولا غاية، لم أُخضعْه بعد لأيٍّ من اختبارات الضجّة الصعبة… أخاف أن يخفق قلبي…/ أن يفشل…/ أن ينكسر على الرماد فجأة…/ دون دهاء…/ لذلك أتعامل معه منذ بعيد الزمن على أنه عضلة منقبضة منحطّة دائماً… متأثِّرة بأحوال الطقس، والتاريخ الأسود. الحروب لا تعنيني… لا تعني أحداً. رغم ذلك كنت أحب قلبي، الوقوعَ في مشاكل قلبي، فضائحَ قلبي، وشغبَه الأعمى.

أنا…/ أنا

بكلّ أنانيّة

أخاف على قلبي الأبيض، أو الأسود، لأني لا أستطيع العيش دونه، إلا كترّهة زرقاء في الحبّ الأملس. الحبّ غبيٌّ، أحمق لأنني سأبرهن له مرّة أخرى أنني عشت بلا قلب طيلة سنوات وسنوات، سنوات سود مؤدلَجة وكالحة، وأن النساء اللواتي حضنَّني بدفء وحب بوفاء وصدق وودّ…/ انكسرت أصابعُهن وهنَّ يفعلن ذلك على تلك الحافّة من الندم. بعد أن أقول لهنَّ هارباً من تبعاتي: كذّابات يا بنات حواء اللئيمات في الجنة، كذّابات يا بنات حواء اللئيمات في الجحيم.

وأنا…

أمّي لم تعلمْني الحبّ، لم تعلمْني الكراهية. بل على مدار هوسها، تحذِّرني من بنات الهوى والحرام، من أصدقاء الغربة والسوء، من أولاد الحرام واليسار والمغامرة المضادة لِمَ هو قائم… من الطيش، من بطش الجلادين والطغاة على حدٍّ سواء…/ كانت أمّي تفضّل لي الوسط الفاتر… الفاتر كماء رحمها تماماً…/

أمّي؟

ماذا تعني لي أمّي؟

ألف وردة بيضاء

ألف احتمال رماديّ

ألف وطن بلا معنى

أحبّك كأمّي

تماماً كأمّي التي من الرماد

هيا اكبري وردة أو سنة أخرى.

– عشرون حماقة يا بني.

– ابعدي يدَك عن نبضي… إن قلبي يرتعش.

– كذّاب

– ربما

– أنا أخاصمُكَ

– أنت حرة…

– حرة… حرة… حرة… ألست رجلاً؟

– …..

– اضربني أرجوك… اترك على وجهي أثراً لا يُمحى

– …..

– وإلا قد أضربُ رأسي بالحائط

– أنت حرّة…

– أحرقكَ وأحرق نفسي

– أنت كذّابة

الكلام …/ لم يكن… حلماً

حلم يقظة…/ انتهى.

استيقظ في الباكر من الصباح، بعد ليل بتفاصيله السوداء، أو غير ذلك… أرتّب الغرفة على غير المألوف. الكتب، السرير، الأوراق، أقلام حمرتها، أشياء زينتها. أرتب العين، الأنف، الأذن، الثياب، الفوضى الداخلية والخارجية، رائحةَ فخذيها. ما إن فرغت من ذلك كلِّه… حتى بدأت أشعر بسرور ما.

كالمألوف…

في الصباح المبكر أصغي إلى فيروز، احتسي قهوتي، أحرق السجائر، وقبل أن أغادر، أدخل الحمام، أتبوّل، أتأكد من سلامة ذكورتي، التي لم أمرّنها منذ أسبوعين ربما احتجاجاً على أمور خاصة، ومحض إنسانية، ولا تعني أحداً…/ على هذا الأساس كنت أخطط لبدء علاقة اليوم /… أي الحاجة أم الابتكارات…/ وعلى هذا الأساس كانت العلاقة التي ستبدأ اليوم، ستنتهي إن عاجلاً أم آجلاً، العاجل والآجل سيَّان بالنسبة لي…

إن غريزتي الفاضلة

تقودني غالباً إلى فريستي النادرة…

هذا السرير الذي لعرْيّكِ الأبيض الآن يا سلام…

لم يكن لك قبل سنة على الأقل. إنه سريرُ الحكاية التي لم تُرَّحل بعد إلى كراريس الماضي بذاك الندم أو الخذلان، أو بتلك المرارة في السرد اللغوي. يقول الحواة الرواة: ليس من الصائب أن تروي لامرأة عن امرأة. لكن رغبتكِ جامحة ولا تُحدّ، وليس هنا من يستطيع أن يقاوم رغبتك…

لا شك أنني أجيد اقتناص الفرص بالقليل من الهبل أو الذهول المشوب بالدهاء، والبلاهة البيضاء، والخداع الأملس الذي لا أتوانى عن استخدامه حين تضْطرّني الضرورة أو الحاجة لذلك… ما دمت أتعامل مع بنات أمّنا حواء بلا أحاسيس نادرة، صادقة، أو دافئة. من اليسير عليّ أن أمارس عليْهنّ نفاقي دون حدودٍ أخلاقية، وهنَّ دائماً مسكيناتٌ أو مغفَّلات، ولا يتورّعن عن تصديق الأكاذيب.

الكذب… قانون

إرواء الرغبة…/ ضرورة.

تلك آخر عبارة، أو آخر جملة مفيدة قلتها لآخر امرأة قصيرة امتلأ بها سريري قبل أسبوعين من الآن…/ أضحكتها كثيراً في الجزء الأول من الوقت، في القسم الأخير من السرير، ثم بكت طويلاً، في الجزء الأخير من الوقت، في القسم الأخير من الكلام… السرير/

بعد بكائها أقول:

أنت تكذبين

أنا أخادع…

 لم تخدعني أنثى، لم أخدع أنثى في المخدع…/ هذا بناءً على الكلام الذي سبق، الذي بين قوسين وهميين لا يُريان بالعين المجرَّدة.

إذاً…

لا بأس…

سنفترق ما دمنا نُخاتل، أو نخادع، أو نكذب. في وقت ما سنفترق دون إشارات تعجب، أو استفهام، أو مرور. دون تذكارات مراهقة، أو مؤلمة…/ أرجوك… دون وداع تراجيدي…/ وهذه الـ – أرجوك أقولها بنفاق زائد عن الحدّ.

الصباح

الشارع

الآلهة المصبّرة

الملائكة

الشياطين

اللا أحد

اللا شيء

الصباح / يأخذني صباح الله والملائكة والشياطين والشارع إلى الضوء، إلى الهواء، إلى الجنّة، إلى الجحيم، إلى أوجه الناس المتشابهة المليئة بالتجاعيد والبؤس، بالقنوط واليأس، بالنفاق، بالذلّ، بالبراءة، بالخنوع، بالخواء، باللامبالاة، بالأحلام، بالاحتقانات  والأمنيات، بالألم والرغبات. في السوق… السوق الأسود سأقول: أتبيعينَ لي شعرة من رأسك ونمرة رجلك يا طفلة… يا صغيرة؟

عشرون سنة يا بني

وقصة حب عصامية

سخيفة…

أعني قصة حبك تلك.

تنهرني، أو تزجرني… قالت:

أخذت أبكي وأبكي… خيّل لي أنك تصفعني، تحتقرني. خيّل لي أنني سخيفة أيضاً. كيف أصفح عنك أو أنتقم منك؟ يا له من سؤال! أخبّئ عيني بين كفّيّ، ألقي برأسي فوق طاولة المكتب. إحداهنَّ تمسح دموعي، أشتمكَ وأضحك… أضحك وأشتم ذكورَ الأرض من أجلك… أنا التي لم التفتْ إلى أحد من قبل. كنتُ قد ولدتُ في الغربة، من أجل العزلة البيتية…/ أنا التي خيّل لي أنه بإمكاني أن أهبَك عشرين مفتاحاً لعشرين سنة خلت من السنوات التي عشتها جسداً وروحاً هناك… في الثلاجة البدائية ربما!

*****

خاص بأوكسجين


روائي من سورية. من رواياته "اختبارالحواس"" 1992 و""براري الخراب"" 2000rn"