من رواية “المرأة التي كتبت التوراة”
العدد 250 | 29 كانون الأول 2019
مُواسير سكليار


 

قضيت عدّة أيّام في قراءة المادّة التي جمّعها القدماء. كان الملك على حقّ: هي سَلطة حقيقية، خليط مُلتبس من الأساطير، والأحداث التاريخية، والتعاليم الدينية، حُرّر كله بشكل رديء، وبأخطاء إملائية. كوسيلة دَخْل، فذلك جيّد، ولكنْ، ككتاب يرغب سليمان في إعداده، عليّ أن أستأنف من البداية. عندما أدركتُ ذلك، تخلّتْ عنّي شجاعتي من جديد. فجأة، انهرستُ تحت عظمة المهمّة. فجأة، لم أعد المرأة المطمئنّة، الواثقة من نفسها، بل طفلة مروّعة؛ كل ما أريده أن تضعني أمّي على ركبَتَيْها كما كنتُ طفلة ترتمض من الحمّى. طرحتُ الرقوق جانبًا، ونمتُ، مهدودة.

ولكنْ، لا – لا يمكن أن أنساق إلى اليأس. لا بدّ أن أتغلّب على هذا الخمول، هذه الكآبة الرصاصية التي تهدّد بالاستيلاء عليّ، وربّما حبسي إلى الأبد. عندي حكاية أحكيها – عندي حكاية كبرى أحكيها – وسوف أفعل. قفزتُ من الفراش مدفوعة بلولب، عدتُ إلى الطاولة، ومسكتُ القلم. إلا أني تردّدتُ. كيف أبدأ؟ أغمضتُ عينَيّ – وفي تلك اللحظة، أبصرتُ أمامي كتلة عظيمة، غير واضحة، حضورًا شفّافًا ثابتًا على محيط معتم لا نهائي. ذلك كل ما رأيتُ، ولكنه كان كافيًا. في جزء الثانية التي استغرقتْها تلك الرؤية، انتابني من الكتلة البعيدة نوع من التّوتّر المحبوس للأزل كله: توتّر الكون في مخاضه، ولم يكن قد خُلق بعد، توتّر الزمن المتوقّف، على أهبة إطلاق مَدّه. بكيفية ما، كسرٌ متناهي الصغر لتلك الطاقة التي لا يمكن حسبانها انتقل إليّ. كان ذلك كافيًا. غمستُ القلم في الحبر، وكتبتُ: «في البدء».

وهنا توقّفتُ. لم أدرِ كيف أُواصل. بين التّوتّر والفعل، سقط الظّلّ، اللغز. في البدء – ما الذي حدث في البدء؟ كان رأسي أجوفَ، فارغًا. لم أعد أذكر ماذا قرأتُ في أكداس المخطوطات. الكلمات التي اخترتُها بنفسي، بدت لي لغزًا أكثر من شيء آخر. أشحتُ بوجهي، ولم أعد أركّز على الكلمات بل على الرّقّ، وصفحته الحثراء.

الرّقّ. منه هو ينبغي أن أعود إلى الأصول؛ من جلد الحيوان المضحّى به؛ كي أكتب ذات يوم عليه. الجلد قبل الجلد، العنزة؛ قبل العنزة، الأوراق التي مضغتها؛ قبل الأوراق، الشجرة، الأرض، الكون. ينبغي إعادة قراءة هذا التاريخ، ما يعني أن أتقهقر زمنيًّا قرونًا وألفيّات، وأُلقي بنفسي في الحساء النجمي الذي سيقودني … إلى أين؟ اللعنة، لم أكن أدري؛ هذا سيقودني، بسرعة مذهلة، إلى الجنون، ليس الجنون العادي، كلّا، بل جنونٌ وجوديّ، شيء بالغ الجدّيّة، شيء يصلح لفيلسوف، وليس لبنت دميمة. ما العمل؟ لننطلق من الرّبّ نفسه، فكّرتُ بعد يأس، فشملني ارتياح كبير. الرّبّ: هي ذي فكرة يمكن أن أستريح لها. كلّا. هي فكرة يمكن أن أتحلّل فيها، أكثر من الملح في الماء. العنزة التي كانت تثغو في الماضي، يتّهمني جلدها في الحاضر. انطلقتُ من الرّبّ. لِم الرّبّ لا الرّبّة؟ لمَ يَهْوَه لا عشتارت، الإلهة التي كانت تعبدها شعوب أخرى في المنطقة؟ لمَ لحية، وليس وجهًا أمرد، به بضع بقع على الأكثر، وربّما كثير؟ لسبب وحيد وبسيط: لا أريد أن أبدأ كتابًا عظيما بخلق مشكل، ولا سيّما مع الشريك الموصي. سليمان يتحدّث عن الرّبّ، الشيوخ يتحدّثون عن الرّبّ، أبي يتحدّث عن الرّبّ. يا ربّ! تصرخ صخور الجبل. يا ربّ! تصيح الطيور والمغنّون والبُكم. الرّبّ إذنْ. الرّبّ في ذهني، هو الطاقة الخلاقة، وليس صورة تشبيهية تجسيمية[1] تهيمن على الكون. أن يتمثّله سليمان والآخرون إنسانًا لا يهمّني. سوف أُعرب عن شكّي واحتجاجي، عن طريق الامتناع عن وصف الإله. أن يتخيّلوه شيخًا بلحية بيضاء، وعين صارمة، لا يهمّني كثيرًا.

«في البدء، خلق الرّبّ السماوات والأرض». ها قد كتبتُ. وإذ كتبتُ الجملة، غمرتْني غبطة مباغتة. جعلتُ أضحك. أمعنتُ في الضحك حتّى إن أحد القدماء -كانوا في القاعة المجاورة- جاء يستطلع الأمر. دخل دون أن يطرق الباب و – عقابًا مستحقًّا – وجدني أمام الرّقّ والقلم في يدي. في نظره، حصل المكروه: كنتُ بصدد كتابة التاريخ الذي كان ملكًا حصريًّا لهم – هم القدماء. لم يملك زمام نفسه: أطلق صرخة مقتٍ، وفرّ.

لن يضيرني ذلك. بما أني بدأتُ مهمّتي، فسوف أواصل. «وقال الرّبّ: ليكن نور، فكان نور». رائع، لدينا النور بعد – والظلمات أيضًا، فلا ضوء من دون ظلام، ولا ضياء بلا ظلّ. في الفقرات الموالية خلق النبت والنجوم والسمك والطيور. كل ذلك بشكل سريع، وهو ما كان جيّدًا من ناحية – إذ كنتُ أتقدّم بسرعة ملحوظة -، ولكنْ، من ناحية أخرى، لم يكن ذلك يُعجبني كثيرًا. خيّرت لو كانت ثمّة تفاصيل أكثر. كيف خلق الرّبّ الخَسّ؟ وسمك لمباري[2]؟ وددتُ وصف الرّبّ وهو يصنع سمكًا عاديًّا، ويتخيّر الحراشف والزعانف، قائلًا: «همم، لا أُحبّ كثيرًا شكل هذا الرأس، الذنب يمكن أن يكون أكبر قليلًا». والحقّ أن ذلك قد يكون من مشمولات مكتب الطّرف والنوادر، وليس نصًّا مقدّسًا. الجمع بين الطريحة والنقيضة مسألة أساسية لفرض الاحترام. ثمّ إني ليس لي وقت لا يُحدّ. نظرًا لشُسوع المهمّة، لا بدّ أن أسرع. حصرتُ عملية الخلق في ستّة أيّام، ثمّ يوم سابع للراحة، مع التلميح بأن السرعة في هذه الحالة ليست عدوًّا للإتقان: «ورأى الرّبّ كل ما عمله فإذا هو حسن جدًّا». لم أشأ وضع لفظة «تامّ» أو «ممتاز» أو «رائع»، لأن الخالق من واجبه أن يكون متواضعًا قليلًا. لنقل إنه في سلّم من صفر إلى عشرة، كان يسند إلى نفسه ثمانية، باعتبار النقص الكائن في الزواحف والدميمات.

كانت هذه المقدّمة سهلة. لكني توقّعتُ صعوبات بعدها. أي ما يتعلّق بخلق أوّل إنسان وأوّل امرأة. القدماء كتبوا أكداس رقوق في هذا الموضوع – قراءة قاحلة ورتيبة سرعان ما تخلّيتُ عنها. حول ثيمة الرجل-المرأة، المذكّر- المؤنّث، سأُسلّم الأمر لغريزتي. وكان من السهل أن أترك غريزتي تتكلّم.

حسب الشيوخ، خلق الرّبُّ الإنسانَ من طين. لا اعتراض لديّ على هذه المادّة الأوّليّة المتواضعة. ولكنْ، لماذا الرجل أوّلًا، وليس المرأة؟ ولماذا خُلقت المرأة بطريقة مختلفة؟ حكاية الضلع تبدو لي في أبسط الأحوال ساذجة، حتّى لا أقول مهينة، إذا عددْنا تواضع ذلك الجزء الجسدي.

قرّرتُ إذنْ أن أُصوّب مثل تلك الهنات بالاستناد إلى مخيّلتي. بعد خلقهما، فُتن الرجل الأوّل والمرأة الأولى ببعضهما بعضًا، وجعلا جنّات عدن مسرحًا لعشقهما. كانا يمارسان الجنس في كل مكان، على العشب، على الرمل، تحت فيء الشجر، قرب الأنهار. يمارسان الجنس بغير انقطاع، كأن الأزلية التي سبقت خلقهما لم يكن لها غير عشقهما في شكل طاقة مركّزة على أشدّها. لقاؤهما كان إذنْ بمثابة بيغ بانغ[3] الجنس، كثير من البيغ وكثير من البانغ. كل الوضعيات مُورسَتْ، كل المنوَّعات جُرّبَتْ، تحت الأنظار الفضولية للعنز وخلدان الماء، حتّى تحت النظر الحليم للرّبّ.

ففي روايتي، لا يطردهما الرّبّ من الجنة. بالعكس، كان يشجّعهما: «الآن وقد اكتشفتُما الحُبّ، يمكنكما مواجهة الحياة كما هي، ملآنة بالصخب والعنف».

أنهيتُ الفصل، وأعدتُ قراءته. كان جيّدًا جدًّا، مكتملًا حتّى إن الشّكّ راودني: أهو حقًّا نصّ تاريخي؟ ألا أكون في الواقع بصدد توجيه رسالة إلى سليمان؟ شيء من قبيل: «انظر، يا مرتخي العضو، هو ذا المثال الذي عليكَ الاقتداء به، ولتعلم أن ما هو حامٍ في النّصّ حامٍ في الفراش»؟ ألم أكن أبحث عن إثارته؟ حاولتُ إقناع نفسي أنْ لا، وأني انسقتُ مع قصّة العاشقين في الجنّة – ولكني حملتُ الرّقّ إلى الملك بشيء من الرهبة.

قرأه سليمان في صمت. ثمّ وضع الرّقّ، وأغرق في التفكير برهة، وعيناه شاردتان. ومثلما خشيتُ، كانت روايتي في العمق، تطرح عليه مشكلة، لذلك أرجأ دراستها:

«لستُ أدري، قال أخيرًا. لا بدّ أن أفكّر قليلًا في ما كتبتِ».

سكت برهة، ثمّ أردف:

«أريد أن أعرف أيضًا رأي القدماء. فهم المؤتَمنون في النهاية على علم الماضي».

صعد الدم إلى رأسي.

«اسمعْ، يا سليمان، قلتُ وأنا أحاول أن أحافظ على هدوئي، إن كنتَ ستستمع إلى القدماء في موضوع الجنس، فسوف نضيّع الوقت. هؤلاء الناس لن يقبلوا به أبدًا. هم ..».

كنتُ سأقول: «هم ليسوا سوى عصابة عنّينين»، ولكني تداركتُ: «لا ينبغي الحديث عن الحبل في بيتِ مشنوق».

مرّة أخرى، حاول التوفيق:

«أعرف، أعرف. ولكننا سنرى إن كان باستطاعتنا أن نجد صيغة وسطى، تُرضي الجميع. على الأقلّ لكون أولئك الشيوخ يملكون نوعًا من النفوذ. كلهم عيّنهم الكاهن الأكبر للهيكل، وأنتِ تعرفين أنه لا يمكن المزح مع الكَهَنَة».

لم يعد ثمّة ما يقال. انسحبتُ، وطلبتُ منه أن يدعوَني حالما ينتهي القدماء من دراسة هذا الجزء.

عدتُ إلى سَكَني، واستلقيتُ. كنتُ قلقة، فجفاني النوم. وفي اللحظة التي أقبل فيها النعاس، طُرق الباب. لم تكن تلك الطَّرْقات القوية للحرّاس أو رئيسة الحريم. كلّا، كانت طرقات حَيِيَّة خفيفة موجزة، أثارت شكّي أكثر ممّا أفزعتْني. مَن الطارق يا ترى في هذه الساعة من الليل؟ سليمان، بعد أن اكتشف أخيرًا حبّه إيّاي، قد أتاني إلى الفراش لأجل ليلة العرس التي طال انتظارها؟ هذا قليل الاحتمال، لأن سليمان لا يحتاج إلى طَرْق الباب، فهو السَّيِّد، سيِّد القصر، والمرأة، وكل شيء. وإن لم يكن سليمان، فما هو سوى مزعج تافه. قمتُ منزعجة والسهارة في يدي، وفتحتُ الباب.

ألفيتُ نفسي أمام شيخ، واحد من أولئك الأقزام السّتّة المكلّفين بتوجيهي في تحرير النصوص. لم أكن أعرف اسمه. بل إني لم أكن أعرف اسم أيّ واحد منهم. بالنسبة إليّ، كلهم متماثلون، مستنسخات متغضّنة. لماذا انفصل هذا عن الجماعة. لماذا جاء إلى بابي، يغمغم باعتذار، وابتسامة ساذجة على وجهه الأبله، عن مجيئه في وقت غير مناسب.

«جئتُ لمسألة شغل»، قال وهو يريني رقّا: رقّي، رقّي الذي اشتغلتُ عليه. «العمل الذي كلّفنا به الملك، تعرفين ..».

«كلّفنا». صرنا الآن شركاء في هذا العمل. وهو ما يمثّل تطوّرًا مؤكّدًا. هكذا، نابت عن الحذر – ولو في وقت غريب – شراكة.

«قرأتُ نصّكِ حتّى الآن، قال. هو جيّد، جيّد جدًّا. ولكني أعتقد أن بعض التفاصيل ينبغي أن، كيف أقول، تُناقَش … هل يمكن أن أدخل؟ أعرف أن الوقت متأخّر، ولكنها مسألة هامّة ..».

هنا بدت المسألة حقًّا غريبة. مناقشة النّصّ، في هذا الوقت من الليل؟ تزايدت ظنوني. فضّلتُ أن أحسم.

«ألا يمكن انتظار الغد؟ بصراحة، أنا مُجهَدة.

– من فضلكِ». صارت النبرة الآن متوسّلة. «ذلك أني … أخاف أن أنسى. وهذا يحدث لي، لو تدرين ..».

إذا كان يخاف أن ينسى، فلماذا لا يُدوّن ملاحظات؟ ليس الرّقّ هو ما ينقص، فالمخزون الذي وضعه سليمان على ذمّتنا يكاد يكون لانهائيًّا. هذه الحكاية لا تستقيم. ولكنْ؛ كان باديًا أن المسكين مروّع، فأشفقتُ عليه:

«هيّا، ادخل».

اجتاز العتبة في لمح البصر. ولمّا صار في الداخل، بدا أحسن حالًا. أرسل نظرة تفتيش حوله.

«لا مجال للشّكّ، أنتِ في إقامة جيّدة… أحسن منا، أحسن كثيرًا. هذا فضل التّمتّع ببعض مزايا الملك، أليس كذلك؟».

وضحك ضحكة مقتضبة، أرادها تواطؤًا، لم يَلقَه منّي. واصلتُ النظر إليه بتركيز. أحسّ بالحرج، فغيّر الموضوع، وحاول أن يستغلّ مجال العلاقات الودّيّة. قال متشدّقًا:

«أتدرين أني أعرف أباكِ؟»

«صحيح؟».

«صحيح». وبنبرة ظفر. «بل كنّا صديقَيْن ودودَيْن … لعلّه لا يتذكّرني، ولكني كنتُ شديد الإعجاب بطاقته … قدرته على القيادة. شخصية بارزة، والدكِ. زير نساء، ولكنْ، شخصية بارزة». تفطّن لزلّته، فأردف مستدركًا: «اعذريني، لم أقصد جَرحكِ. وإنما كنّا في شبابنا معًا أنا ووالدكِ. فرّقت بيننا الحياة، ولكني أسمع عن أخباره بين الفينة والأخرى: تزوّج، وله بنت ذكية، موهوبة ..».

جميلة، لا. لن يذهب إلى ذلك الحدّ من التّملّق. يمكن أن يصفني بالذكية، والموهوبة، ولكنه يُغفل عمدًا عن ذكر أي إحالة على المظهر الجسماني، وهو ما لا يعدم تسلية. مسلّيًا أم لا، هذا الهذر بدأ يوتّر أعصابي.

«معذرة، النقاش طريف، ولكني، كما قلتُ لك، مجهَدة، ولي غدًا عمل كثير. هل لكَ أن تمضي إلى الصميم …».

– «إلى الصميم ..». كأنه يُشهد شخصًا غريبًا: «تريدني أن أمضي إلى الصميم … حسنًا، فلنمضِ إلى الصميم، وهل لدينا سواه؟ لنمضِ إلى الصميم. الملك، كما تعلمين، سلّمنا نصّكِ؛ كي نُحكّمَ رأينا فيه، ونعطيه موافقتنا ..».

همم. هذا يمكن أن يكون أمرًا هامًّا. لا شكّ أن سليمان يضع في حسبانه رأي القدماء. كان من المفروض أن أعرف ذلك مسبّقًا. ولكني لم أشأ أن أبدي للرجل القصير أني مهتمّة. سألتُ بأكبر نبرة طبيعية ممكنة، ماذا كان تقريرهم. ابتسم ابتسامة ظفر («آه، أوقعتكِ، يا امرأة، وجدتُ نقطة ضعفكِ!»):

«لم نصُغْه بعد. لهذا جئتُ. كما قلتُ لكِ، أريد أن أناقشكِ في تفاصيل بدت لي، أنا بصفة خاصّة، – كيف أقول – محيّرة نوعًا ما».

«محيّرة؟ ما المحيّر في هذا النّصّ الشديد الوضوح – رغم نَفَسه الشِّعْري؟» لا ريب أنه لاحظ حاجبَيّ المقطّبَيْن، إذ سارع بالقول:

«محيّرة بالنسبة إليّ أنا، بطبيعة الحال. محيّرة، ولكنْ …»، كشف عن أسنانه في بسمة، «مذهلة. لم أقرأ مثلها قطّ».

تريّث وهو يركّز نظرة عليّ؛ كي يدرس ردّة فعلي، ثمّ واصل:

«بالنسبة إلى امرأة شابّة، أنتِ تُبدين معرفة كبرى بالحياة!» وغمز بعينه. «هي خبرة ذاتية، هذه المعرفة؟»

هكذا. ها قد صرنا الآن في ميدان السفاهة … لم يشغلني ذلك في حينه؛ فالشيخ له الحقّ في نصيب من الفجور. ليقل طرفَتَيْن أو ثلاثًا، وليذهب، ليس في ذلك مشكلة. لا أريد أن أتخاصم مع الأقزام. أجبتُ مبتسمة أنا أيضًا:

«ليست سوى غريزة الأنثى».

– آه. نظرة جانبية، خليعة. «غريزة الأنثى. فهمتُ ..».

ظلّ كذلك يرمقني، ثابتًا، في نظرة بادية السماجة. الآن، نعم، صار ذلك يزعجني. هذا الحوار البليد لا يمكن أن يستمرّ. ثمّ إن مثانتي ملآنة، كنتُ أريد أن أتبوّل، وليس من سبيل للتّخلّص من هذا القزم. قرّرتُ استعجال الأمر:

«ولكنْ، في النهاية ما هو الشيء المميّز في ما كتبتُ؟».

لم يجبْ على الفور. نكس رأسه برهة، وظلّ كذلك، وصلعته تلمع على ضوء المشعل. ثمّ رفع جفونه، فإذا شعلة نظرته غريبة، غريبة جدًّا …

«أربكني نصّكِ. أربكني كثيرًا. تلك الفقرة التي تصفين فيها آدم وحواء وهما يمارسان الجنس على العشب النديّ … اللعنة! تلك الفقرة حامية … تلك الفقرة ..».

توقّف، وبحركة مباغتة فتح رداءه.

شيء عجيب: كان منتصبًا. أيرٌ كبير، يجعل عدم تناسبه مع قامته القصيرة مثيرًا للسخرية، قضيب ضخم، يكاد يُفقده توازنه. ولّد ذلك لديّ رغبة في الضحك، في الضحك عاليا، والتّلوّي من شدّة الضحك أمام ذلك المشهد الكوميدي. ولكنْ، لم يكن وقتًا للضحك، كان وقتًا لوضع حدّ لكل هذا – فقد تجاوز كل الحدود.

«ولكنْ، ماذا، أيّها الرجل العجوز؟ صحتُ فيه. فيمَ تفكّر؟ ألأن الملك يثق فيكَ تظنّ أنكَ يمكن أن تفعل ما تشاء؟ أنا زوجة سليمان، يا قذر! لو أحكي هذا لزوجي، سيقطعكَ شطرَيْن! سلوككَ رجس! رجس! … أنا ..».

قاطعني، موتورًا، مضطربًا.

«من فضلكِ، تمتم فيما يشبه البكاء. من فضلكِ! نعم، هو جنون، يمكن أن أدفع حياتي ثمنه، ولكنْ … هل تعرفين منذ متى لم أنتصب؟ منذ متى؟ منذ سنين. عقود من السنين. وليست مشكلة سنّ، كلّا، لأن الرجال في عائلتي ينكحون حتّى سنّ المائة. صرتُ عنّينًا بسبب زوجتي، تلك الأفعى. لم تشأ أن تعلم شيئًا عن مسألة الجنس. كانت تدفعني بعنف كلّما هممتُ بها. «اذهبْ، وادرسِ النصوص المقدّسة!» كانت تقول لي. فأدرس، وأدرس. ماذا أفعل غير ذلك؟! كنتُ أدرس، وأدرس. علمتُ كل شيء عن الرذيلة والخطيئة، والفضيلة والرجس – ولا سيّما الرجس. أي نعم، عرفتُ كل شيء عن الرجس! إن شئتِ، أضع لكِ قائمة مفصّلة عن كل أشكال الرجس الممكنة والمتخيَّلة! ماذا أفادتْني الدراسة؟ كنتُ شقيًّا، ألهث وأنا أحلم بالجماع. مَنْ يعطيني قليلًا من الرجس؟ كنتُ أفكّر. ولكنْ، لا شيء. كان ذلك فقط في الكُتُب. في الحياة العملية، لا شيء سوى الكآبة، وهذا الحرمان. وها أنكِ تظهرين، وببضعة أسطر توقظين فيّ رغبة، خلتُ أنها ماتت، انتهتْ … هذا عجيب! إنها معجزة!».

لم أدرِ ما أقول. من ناحية، هذا الاعتراف يُطْريني. إن لم أتوصّل كامرأة، فعلى الأقلّ ككاتبة حقّقتُ نصرًا عظيمًا بإيقاظ شغف مباغت ويائس. شغف جنّيّ، أقعدتْه الشيخوخة، متهدّم ونصف عنّين، ولكنْ، أليس نصري أعظم؟ لا سيّما إذا عَدَدْنا دمامتي إعاقة هامّة؟ المشكل أني لستُ مستعدّة. أن يفتضّني هذا الوجه الحقير، فهو فعلًا رجس. بيد أن الأهمّ أني لا أحبّه هو، بل سليمان. آه، لو دخل الملك في تلك اللحظة، لتأكّد بأني، وإن كنتُ دميمة، أستطيع أن أستثير رجلًا، حتّى ولو كان شيخًا، بل وهو شيخ! فربّما ألهمه المنظر. وربّما طرد الشيخ مستنكرًا، وهو يقول: «لا أحد يلمس زوجتي الصغرى، تعالي، يا حبيبتي، تعالي، انسي هذا المسخ! تعالي، ننمْ، ونمارسِ الحُبّ». أمل كاذب. لن يظهر سليمان. أحد الحرّاس، ربّما، إن صرختُ عاليًا. ولكني لا أريد أن أصرخ، لا أريد أن أخدش الرجل الذي كان يُكرمني في وجه من الوجوه. قلتُ له إن بوحه يمسّ إحساسي، وإني لن أتردّد في دعوته إلى فراشي في ظروف مغايرة، ولكن ذلك مستحيل الآن، لأن انتباهي كله مركّز في العمل، ولا شيء غير العمل.

لم يسمعني. كان يقترب ببطء، وعيناه تلتمعان بالرغبة. وها أنه، في خفّة عجيبة، يحاول إمساكي. دفعتُهُ عنّي، بلطف، ولكنْ، بحزم. أعاد الكرّة، فدفعتُه هذه المرّة دفعًا عنيفًا، أوقعه، فتدحرج على الأرض. أراد القيام، فاشتبكت رجلاه بردائه، فوقع مرّة أخرى. كان ذلك مضحِكًا، فلم أملك نفسي، وضحكتُ بملء فمي. ما أثار حفيظته، فنهض وهو لا يزال يترنّح، وصوّب نحوي إصبعًا مهدّدة:

«هذا يُضحككِ؟ هذا يضحككِ، أنتِ؟ تضحكين منّي، يا كلبة الصحراء؟ تضحكين؛ لأني أردتُ نكاحكِ، وهو شيء لن يُقدم عليه أحد أبدًا، لا سيّما سليمان؟ انظري إلى نفسكِ، يا امرأة. أنتِ بشعة! أنتِ وحش من الدمامة! ورغم ذلك، وإشفاقًا منّي، عرضتُ عليكِ اقتراحًا! وترفضين، يا غبية! ولكنكِ لن تخسري شيئًا بالانتظار!»

نظر إليّ، ظافرًا في حقد:

«هل تدرين مَن الذي حمّله القدماء مهمّة الموافقة النهائية على النّصّ؟ أتدرين مَنْ؟ أنا. أنا نفسي. أنا مكلَّف بإعطاء رأيي في الخراء الذي كتبتِهِ! واحزري ماذا سيكون الرأي! احزري! إنه قذارة، يا شقية! إنه رجس!»

حاول تمزيق الرّقّ -ربّما ليُلقي مزقه على رأسي-، ولكن الجلد كان متينًا، فلم يفلح. حاول وحاول، دون جدوى. في النهاية، رماه أرضًا، وانصرف يغمغم بالشتائم.

غمرني إحساس بالنصر. بكيفية ما، صنتُ كرامتي. بكيفية ما، انتقمتُ من المرآة. انتقام غريب، انتقام كئيب، ولكنْ، انتقام على أيّة حال.

كان لي سبب ارتياح آخر. لقد تمّ فحص نصّي، ولو بطريقة مضحكة. العجوز كان نوعًا من فأر تجارب. إن نجحتُ في إلهابه، فسليمان لن يصمد أمامي. ما يتبقّى لي هو أن أواصل الأوصاف الداعرة، إلى أن يَقدم سليمان إلى غرفتي باندفاع، وهو يصرخ: «ما عدتُ أطيق! أريدكِ الآن! أريدكِ كلَّكِ!» فأقول له: «لن تملك النّصّ وحده، بل المؤلّفة أيضًا … ونعيش سعيدَيْن على الدوام. بهذه القناعة نمتُ، مرتاحة البال».

——————————–

صدرت الرواية أخيراً عن منشورات المتوسط في ميلانو.

 

————–

[1] Anthropomorphique: تلك التي تقوم على خلع الصفات البشرية على الله وتشبيهه بالإنسان.

 

[2] Lambari: سمك برازيلي، لا يتعدّى طوله العشرة سنتمترات، يعيش في السباخ المالحة، ويحتمل الحرارة المرتفعة.

 

[3] Big Bang: الانفجار العظيم حسب النظرية السائدة حول نشأة الكون، التي تُقدّر حدوث ذلك الانفجار قبل 13.8 مليار سنة.

*****

خاص بأوكسجين